"لا يمكن للعالم أن يواجه عمليات العنف الديني إلا بتعاون دائم ومستمر بين دول العالم؛ لأن طرفًا دوليا واحدًا لن يمكنه التعامل الرشيد مع ظاهرة عابرة للحدود وخارجة عن تراثه وبنيته الاجتماعية وحدود فهمه وتفهمه".. هذا ما أكده د. يوسف زيدان عبر كتابه: "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، والصادر مؤخرا عن دار الشروق، بالقاهرة، في مائتين وست وعشرين صفحة، مشتملًا علي: مقدمة طويلة خصصها المؤلف لإلقاء النظر علي مفاهيم أساسية تتعلق بالديانات الثلاث: "اليهودية، والمسيحية، والإسلام"، خالصًا عبرها إلي أنه رغم الاختلافات التشريعية والعقائدية بين الديانات الثلاث إلا أن الجوهر الاعتقادي واحد. فيما خصص فصول كتابه لاستعراض جذور الإشكال اللاهوتي الخاص بتصور التوراة للإله وللأنبياء، لافتًا إلي محاولة الخروج "المسيحي" من الإشكال اليهودي، والتي أدت إلي عدة أزمات لاهوتية ما بين الفهم العربي للديانة المسيحية، والفهم المصري - اليوناني لطبيعة السيد المسيح.. مشيرًا إلي أن المسيحية لم تعرف "اللاهوت" إلا من خلال المحاولات التي أرادت أن تنتقل بالفكر الديني من الاشتغال بحقيقة المسيح إلي الانشغال بالذات الإلهية.. فالنصوص التوراتية، مثلًا، تحوي العديد من الحقائق المحيرة؛ كإشكالية الإله الذي يظهر مرة داعيا للخير وفضائل الأعمال، ومرة أخري يتبدي عنيفًا منتقمًا من الناس لحساب اليهود، وأخري في صورة إنسانية للإله. ولا يغفل المؤلف أن يلفت إلي إشكالية معقدة في أقصي صورها، حيث تصور التوراة الله "الإله" مغلوبًا، مستغيثًا، مستسلمًا، حيث جاء في "سفر التكوين" ذاك الصراع الذي وقع بين "الله" ونبيه "يعقوب"، بعدما اتخذ الله في هذا العراك صورة رجل آدمي وانتصر - بحسب المعتقد اليهودي - نبيه يعقوب. ويتعمق د. زيدان أكثر في اليهودية المبكرة، والتي جعلت من الله تعالي ملتصقًا بالأرض لا بالسماء، وغيرها من الاستهانات بحقوق البشر من غير اليهود، وإمعانها في تحقير الأمم غير اليهودية، ليؤصل من خلالها انقلاب المنظومة الإنسانية في التوراة، حتي بات القتل مباحًا ما دام يتم باسم الرب، وصار الزنا بالمحارم جائزًا حتي في حق الأنبياء - كما في قصة نبي الله لوط، عليه السلام. وفي تتابع حدثي، ينتقل المؤلف إلي بديات ظهور المسيحية، ليطرح سؤالًا، مفاده: هل تعتبر المسيحية امتداداً لليهودية، أم أنها ديانة مختلفة عنها في الشكل والجوهر؟.. ويجيب: "المسيحية طرحت نفسها في البدايات كامتداد للديانة اليهودية، وقد كان يسوع المسيح في بدء دعواه يقول: (لم أرسل إلا إلي خراف بيت إسرائيل الضالة)"، ثم تطورت المسيحية بعدها لتقدم نفسها للعالم علي أساس أنها حركة إصلاح وتصحيح.. وفي هذا الصدد يعود د. زيدان بالمتلقي إلي انتظار اليهود للسيد المسيح الذي سيتحقق - في اعتقادهم - مع قدومه وعد الرب لنبيه إبراهيم بامتلاك شعبه المختار وأبنائه المفضلين للأرض، من نيل مصر إلي نهر الفرات، ويقول: "وتباعًا لشدة تلهف اليهود علي ظهور هذا المسيح، كثر أدعياء النبوة بينهم". ويتابع: وبعد مجيء يسوع المسيح بعد طول انتظار من اليهود، لم يقدسوه كما كان متوقعاً، بل سلموه للرومان ليصلبوه.. لتثار البلبلة في صفوف المسيحيين بعدها: هل المسيح بشر نبي جاء بالبشارة، أم هو الله بذاته نزل إلي الأرض حيناً ثم عاد ثانية للسماء؟.. لذا عمد د. زيدان إلي توضيح قانون الإيمان الصادر عن مجمع نيقية، والذي حاول ضمان استقرار الديانة المسيحية وكانت الصيغة تتضمن ما يلي: "يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل فلاحنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنّس، وصُلب عنا علي عهد بيلاطس البُنطي، وتألم، ودُفن، وقام في اليوم الثالث". وتحت هذا العنوان يستعرض المؤلف مفهوم (النبوة والبنوة)، وفقا للمعتقدات السائدة، والعقلية التي تحكم تفكير المسيحيين فيما يتعلق بحقيقة المسيح الواصلة بين اللاهوت والناسوت.. لافتًا إلي أن المصريين واليونانيين فهموا من النصوص الدينية أن السيد المسيح هو ابن الله، ثم آمنوا بأنه الرب، والسبب في ذاك إنما يرجع إلي أن مصر واليونان بلاد عايشت الكثير من الديانات التي كانت لا تري إشكالية في الجمع بين الربوبية والبشرية، ولا تري أزمة في تأليه الإنسان وتأنيس الإله.. لذا كان من الطبيعي أن يقوم الخلاف بين هاتين العقليتين - وبحسب د. زيدان - فإن هذه المجادلات والصراعات والاتهامات المتبادلة واللعنات دارت جميعها حول موضوع واحد هو المسيح. ومن هنا يمكن القول بأن ما يسمي في التراث المسيحي ب"اللاهوت" إنما هو لاهوت لا يتعلق في مجمله بالله ذاته، بل يدور جوهره حول المسيح، عليه السلام. أما القرآن الكريم، فيؤكد المؤلف أنه قدّم باعتباره لاهوتًا عربيا حلولًا محددة لكل ما كان اليهود والنصاري يختلفون فيه من مشكلات عقائدية. حيث قدم الإسلام سيرة أخري لمعظم أنبياء التوراة بعدما أعاد رسم شخصياتهم بما يناسب مكانتهم، إذ جاءت قصص الأنبياء في النص القرآني بلغة راقية، ترتقي بالقارئ والسامع إلي حضرة علوية تليق بالله تعالي ورسله.. إضافة إلي الحضور الإلهي في كل التفاصيل والوقائع، ليتجدد مع ذلك "اللاهوت" متصدرًا المعتقد الديني، ومن الجهة الأخري تواري "الناسوت" فلم يعد مطروحا كأصل إيماني. ويلفت زيدان إلي الاستفاضة في الصفات الإلهية التي حظي بها كتاب الإسلام المقدس في تأكيد علو الله عن العالمين، الذي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، ومفارقته تعالي للمخلوقات والموجودات جميعا، فهو أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؛ لتتواري عن الملك الصفات التي لا تليق بالذات العليا.. ليدحض القرآن شبهات وإشكاليات التوراة، وكذا الإشكال العقائدي المسيحي الذي يتداخل فيه مفهوما الله والإنسان، ليرقي القرآن الكريم بصورة السيد المسيح عبر آيه الحكيمة؛ فلم يذكر المسيح إلا مقترنا باسم أمه مريم باستثناء مرات ثلاث فقط أشير فيها إلي اسمه مجردا لأسباب محددة في سياق خاص كما في الآية: "وقالت النصاري المسيح ابن الله"، وهكذا أبعد القرآن تماما أي شبهة للاتصال المباشر بين الله والإنسان، فالله أرسل من عليائه رسوله السماوي "جبريل" ليهب العذراء البتول غلاما من عنده، مثلما كانت توهب من قبل طعامًا وشرابًا. ليقدم د. زيدان نظريته في خاتمة كتابه حول علاقة الارتباط بين (العنف والدين والسياسة).. مؤكداً أن العلمانية إنما هي بدعة لا أصل لها، فلا يمكن تصور الدين مفصولًا عن السياسة، أو السياسة بعيدة عند الدين.. ويضيف: "إن الفهم الذي ندعو لتعميقه يتضمن الاعتراف بالتشابك والاشتباك بين الدين والسياسة، وقد آن الأوان أيضا لتفهم الظواهر الدينية الوليدة والكف عن محاولة وأدها بقوة في مهدها، لأن الذي يحدث عادة هو أنه من بين بضعة انبثاقات يتم وأدها سياسيا، تفر موجة دينية وليدة وتتسلح بميراث دفين من القهر المتوالي للانبثاقات الموءودة فيتضاعف عندها الحقد تجاه المجتمع وتتأكد لديها الرغبة التدميرية والإزاحة التامة للسلطة القائمة، فيدور بعنف الجدل ثلاثي الأبعاد "الدين، العنف، السياسة" ولا علاج لذلك سوي التفهم الذي يفسح المجال لقبول الآخر".