عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    هآرتس: ترامب يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لضم أجزاء من غزة    200 مليون دولار، ليفربول يجهز عرضا خرافيا لحسم صفقة مهاجم نيوكاسل    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    بدء الدراسة بجامعة الأقصر الأهلية.. رئيس الجامعة والمحافظ يعلنان تفاصيل البرامج الدراسية بالكليات الأربع    «ما تراه ليس كما يبدو».. شيري عادل تستعد لتصوير حكاية "ديجافو"    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    الداخلية: لا توجد تجمعات بالمحافظات والإخوان وراء هذه الشائعات    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سجل الخديعة.. جنون المثقفين
نشر في صوت البلد يوم 29 - 09 - 2016

يمكن للمرء أن يبدأ، كما يفعل كثيرون، من العنوان فيتساءل بعد قراءة رواية خورخه فولبي الضخمة التي تتعدى الخمسمئة صفحة «سجل الخديعة»؟ أين هي الخديعة، وفوراً يتراءى له أن ليس أمامه سوى شبكات متداخلة من «الخديعة»، فخورخه فولبي في روايته يعرض كل شيء، صغيراً كان أم كبيراً، على الشك. ليس السياسة والاقتصاد وحدهما، بل الشؤون الخاصة والعلاقات كلها والميول والأهواء، ناهيك بالأفكار والمبادئ والانتماءات والنوازع والرغبات، وبطبيعة الحال المشاريع والمؤسسات والخطط. نحن دائماً في لجة الخديعة ودوامتها، وما هذه جميعها في تقاطعاتها ومآلاتها وسيرها في الزمن «سوى سجل الخديعة»، وما ذلك سوى نظرة ريبية لا نثق بشيء بدءاً من نفسها، العالم هكذا مؤسس على اللعب.
رواية خورخه فولبي جديدة بل نحن لا نتذكر اننا قرأنا رواية مثلها. نحن أحياناً نحار، هل ما نقرأه تاريخ، تاريخ مالي لأميركا «الولايات المتحدة» ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى أيامنا، تاريخ موثق عام وتفصيلي، له مركز بل ومراكز، لكنه لا يعفّ عن الأطراف والهوامش، فثمة رغبة في أن يكون حقيقياً وعاماً. لكن التاريخ هكذا، كما يسرده فولبي، لا يبتعد عن الأفراد فثمة بين التفاصيل والحواشي أفراد لهم حضورهم الشخصي، بما يعني ذلك من سيرة ونوازع وكيانات. هناك هذا السرد التفصيلي الذي يخيل إلينا معه اننا أمام سجل لكن هناك أيضاً من يمكن أن يعتبرهم أبطالاً، ومن نتعرف عليهم من الداخل ونلمّ تواً بحياتهم العاطفية وصراعاتهم وصداماتهم، وإلى جانب ذلك ميولهم وسلوكياتهم الجنسية. التاريخ المالي، تاريخ وول ستريت مليء بالتفاصيل والأرقام والوقائع بحيث يخطر أننا نقرأ تقريراً اقتصاديا، لكن هناك إلى جانب هذا البحث والتوثيق المكتوبين بلغة رقمية وثائقية، أشخاصا وأفرادا ندخل إلى أسرارهم وخباياهم وطباعهم وعلاقاتهم. يبدو في ذلك قدر من المقابلة والمفارقة، فأمام العام الذي يشمل الرواية ويجعل منها كما سبق القول تاريخاً وتقريراً، هناك الخاص الذي يقدم بالدقة نفسها وباللغة نفسها وبالرتوش ذاتها شخصيات الرواية. ذلك ما لا يبدو أنه غير متعمد، إذ يخطر لنا أنه واع ومقصود. نحن سنقرأ أيضاً تاريخ التغلغل الشيوعي في الإدارة الأميركية أثناء وقبيل الحرب العالمية الثانية. سيكون هذا أحد محاور الرواية، بل هو أحد محوريها إذا جاز هذا الحصر. ذلك يعني أن ثمة عوداً إليه عند كل فصل جديد من فصولهما، والمحور الثاني كالمحور الأول ويصاغ بشروطه ولغته، إنه مثله تاريخ وتقرير.
التغلغل الشيوعي في الإدارة كان واسعاً وأشخاصه كثر، وستقدمهم الرواية جملة في البداية، قبل أن تغوص في خصوصيات كل واحد منهم وفي شخصيته وفي سيرته الخاصة. اننا هكذا ندخل إلى «وكر الجواسيس»، فشيوعيو تلك الفترة كانوا في خدمة الاتحاد السوفياتي، والجزء الأكبر في نضالهم، أو الجزء الأهم، كان في تقديم تقارير إلى المخابرات السوفياتية عن أوضاع الإدارة الأميركية وعن أسرار الدولة. هذا الوضع الذي التفّت عليه المخابرات الأميركية وتغلغلت بدورها فيه، كان أيضاً تاريخاً، وتاريخاً قائماً بذاته. وإذا كنا لا نجد فوراً الرابط بين التاريخ المالي بوول ستريت والتغلغل الشيوعي في إدارة الولايات المتحدة، فإن الرواية لا تتوقف كثيراً عند هذه النقطة ولا تقدّم تفسيراً أو تبريراً كافياً لها، إلا أن الشيوعيين تغلغلوا في وزارة الخزانة، وكانوا بذلك بين المشرفين على السياسة المالية للولايات المتحدة، بل إن أحدهم هاري وايت وصل إلى درجة معاون الوزير. وهذا هو الشخص الذي صمّم صندوق النقد الدولي، بل إن قريباً منهم كان هو الشخص الذي عقد اجتماعاً مع كنز البريطاني أكبر دماغ اقتصادي في عصره. كان هؤلاء اقتصاديين واشتركوا في التخطيط الاقتصادي والمالي، وهذا ما يفسر وجود هذين الخطين الرئيسيين داخل رواية فولبي.
ليس هذا فقط ملمح جدّة الرواية، فثمة وجه آخر نبقى أمامه مدهوشين، خورخه فولبي مؤلف الرواية مكسيكي سبق له أن عاش في الولايات المتحدة عدة سنوات، لكنه مع ذلك مكسيكي وأهله مكسيكيون. على هذا لا نفهم جيداً كيف يدمج شخصه وأسرته بالاسم في الرواية، وكيف يطابق بين الرواية بمحوريها (التاريخ المالي والتغلغل الشيوعي) وتاريخ الأسرة، تبدأ الرواية بسقوط خورخه فولبي المتمول صاحب أحد أكبر البنوك (راوي الرواية أيضاً) بعدما انكشفت ألاعيبه ونصباته، ثم ننتقل إلى أبيه الشيوعي وأمه الشيوعية أيضاً، تغدو الرواية في جانب منها عائلية، ولا يكتفي خورخه فولبي بذلك بل يعمد إلى نشر صور أهله، أمه وأبيه، بين الصور التي تزين الرواية. نكاد عند هذا الحد نصدق أن نوا فولبي والده الحقيقي كان دماغاً مالياً وموظفاً في وزارة الخزانة وشيوعياً تغلغل في الإدارة الأميركية. لكن خورخه يروي عن نفسه أنه كان هاوياً للقصص المصورة وللموسيقى. ليست هذه حاله وحده، بل هي حال الأسرة، وخورخه في شغفه بالموسيقى والقصص المصورة جمع آلافاً من الC.D. ومن الروايات المصورة، فلا يبعد عن الظن أن هاوي القصص المصورة هذا أراد ان يجعل من روايته هذه مثلها، فزين صفحاتها بصور شخصياتها الفوتوغرافية، ومن بينها صور والديه.
نصل الى الموسيقى، من الموسيقى استمد خورخه فولبي العناوين الفرعية لفصول روايته «ثنائي، ترتيل...» كما أنه استمد عناوين الفصول التي يبدو أن لا صلة بها بالفصول نفسها من القصص المصورة نفسها. رواية خورخي التي لا تعدم البحث والتوثيق هي رواية المثقفين أيضاً. لقد جمع خورخه في بنك واحد حائزين نوبل في الاقتصاد ومهندسين معجزتين في الاقتصاد، أحدهما افيكرام الذي يستمر مع الراوية في مختلف تقلباته، ولا بد أن حياة المثقفين الأميركيين، من نصف القرن الماضي إلى أيامنا، عنصر ضمني في رواية «سجل الخديعة» فالشيوعيون المتغلغلون في الإدارة هم بالدرجة الأولى مثقفون مثاليون رأوا في الشيوعية بوابة للعدل والمساواة ونقضا للتوحش الرأسمالي، فهم الذين كانوا من كبار الموظفين، لم يشتغلوا بالتجسس للاتحاد السوفياتي إلا بهذا الدافع، ولكن بقدر ما يقدّم خورخه هذا الجانب من تاريخ المثقفين، لا يلبث بعد انهيار الشيوعية وتفرق الشيوعيين المتغلغلين في الإدارة الأميركية بين متوفى ومسن يمضي بقية حياته في مأوى العجزة، أن يقدم الوجه الآخر المقلوب للمثقفين الذي هو الجشع والاحتيال والنصب والإفراط الجنسي والازدواج الجنسي. في الوقت الذي يستمر فيه في ملاحقة تاريخ المتغلغلين الشيوعيين لنكتشف آخر الرواية، في خاتمة تليق برواية بوليسية، أن والدته هي التي كانت قائدة هذا الحراك فهي «انغل» الذي حسبه الراوية رجلاً، وغيب هذا عنه أن يفكر في أمه التي اكتشفها أخيراً، وصرحت له بذلك في مأوى العجزة الذي زارها فيه.
قد يكون المثقفون أيضاً في أساس هذه الخديعة التي ليست، آخر الأمر، سوى خديعة التاريخ، الذي ينقلب على الشخصيات والأفكار والمثل ويكسفها ويحيلها، في زمن آخر، صوراً شبحية وأكاذيب وخيبات.
يمكن للمرء أن يبدأ، كما يفعل كثيرون، من العنوان فيتساءل بعد قراءة رواية خورخه فولبي الضخمة التي تتعدى الخمسمئة صفحة «سجل الخديعة»؟ أين هي الخديعة، وفوراً يتراءى له أن ليس أمامه سوى شبكات متداخلة من «الخديعة»، فخورخه فولبي في روايته يعرض كل شيء، صغيراً كان أم كبيراً، على الشك. ليس السياسة والاقتصاد وحدهما، بل الشؤون الخاصة والعلاقات كلها والميول والأهواء، ناهيك بالأفكار والمبادئ والانتماءات والنوازع والرغبات، وبطبيعة الحال المشاريع والمؤسسات والخطط. نحن دائماً في لجة الخديعة ودوامتها، وما هذه جميعها في تقاطعاتها ومآلاتها وسيرها في الزمن «سوى سجل الخديعة»، وما ذلك سوى نظرة ريبية لا نثق بشيء بدءاً من نفسها، العالم هكذا مؤسس على اللعب.
رواية خورخه فولبي جديدة بل نحن لا نتذكر اننا قرأنا رواية مثلها. نحن أحياناً نحار، هل ما نقرأه تاريخ، تاريخ مالي لأميركا «الولايات المتحدة» ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى أيامنا، تاريخ موثق عام وتفصيلي، له مركز بل ومراكز، لكنه لا يعفّ عن الأطراف والهوامش، فثمة رغبة في أن يكون حقيقياً وعاماً. لكن التاريخ هكذا، كما يسرده فولبي، لا يبتعد عن الأفراد فثمة بين التفاصيل والحواشي أفراد لهم حضورهم الشخصي، بما يعني ذلك من سيرة ونوازع وكيانات. هناك هذا السرد التفصيلي الذي يخيل إلينا معه اننا أمام سجل لكن هناك أيضاً من يمكن أن يعتبرهم أبطالاً، ومن نتعرف عليهم من الداخل ونلمّ تواً بحياتهم العاطفية وصراعاتهم وصداماتهم، وإلى جانب ذلك ميولهم وسلوكياتهم الجنسية. التاريخ المالي، تاريخ وول ستريت مليء بالتفاصيل والأرقام والوقائع بحيث يخطر أننا نقرأ تقريراً اقتصاديا، لكن هناك إلى جانب هذا البحث والتوثيق المكتوبين بلغة رقمية وثائقية، أشخاصا وأفرادا ندخل إلى أسرارهم وخباياهم وطباعهم وعلاقاتهم. يبدو في ذلك قدر من المقابلة والمفارقة، فأمام العام الذي يشمل الرواية ويجعل منها كما سبق القول تاريخاً وتقريراً، هناك الخاص الذي يقدم بالدقة نفسها وباللغة نفسها وبالرتوش ذاتها شخصيات الرواية. ذلك ما لا يبدو أنه غير متعمد، إذ يخطر لنا أنه واع ومقصود. نحن سنقرأ أيضاً تاريخ التغلغل الشيوعي في الإدارة الأميركية أثناء وقبيل الحرب العالمية الثانية. سيكون هذا أحد محاور الرواية، بل هو أحد محوريها إذا جاز هذا الحصر. ذلك يعني أن ثمة عوداً إليه عند كل فصل جديد من فصولهما، والمحور الثاني كالمحور الأول ويصاغ بشروطه ولغته، إنه مثله تاريخ وتقرير.
التغلغل الشيوعي في الإدارة كان واسعاً وأشخاصه كثر، وستقدمهم الرواية جملة في البداية، قبل أن تغوص في خصوصيات كل واحد منهم وفي شخصيته وفي سيرته الخاصة. اننا هكذا ندخل إلى «وكر الجواسيس»، فشيوعيو تلك الفترة كانوا في خدمة الاتحاد السوفياتي، والجزء الأكبر في نضالهم، أو الجزء الأهم، كان في تقديم تقارير إلى المخابرات السوفياتية عن أوضاع الإدارة الأميركية وعن أسرار الدولة. هذا الوضع الذي التفّت عليه المخابرات الأميركية وتغلغلت بدورها فيه، كان أيضاً تاريخاً، وتاريخاً قائماً بذاته. وإذا كنا لا نجد فوراً الرابط بين التاريخ المالي بوول ستريت والتغلغل الشيوعي في إدارة الولايات المتحدة، فإن الرواية لا تتوقف كثيراً عند هذه النقطة ولا تقدّم تفسيراً أو تبريراً كافياً لها، إلا أن الشيوعيين تغلغلوا في وزارة الخزانة، وكانوا بذلك بين المشرفين على السياسة المالية للولايات المتحدة، بل إن أحدهم هاري وايت وصل إلى درجة معاون الوزير. وهذا هو الشخص الذي صمّم صندوق النقد الدولي، بل إن قريباً منهم كان هو الشخص الذي عقد اجتماعاً مع كنز البريطاني أكبر دماغ اقتصادي في عصره. كان هؤلاء اقتصاديين واشتركوا في التخطيط الاقتصادي والمالي، وهذا ما يفسر وجود هذين الخطين الرئيسيين داخل رواية فولبي.
ليس هذا فقط ملمح جدّة الرواية، فثمة وجه آخر نبقى أمامه مدهوشين، خورخه فولبي مؤلف الرواية مكسيكي سبق له أن عاش في الولايات المتحدة عدة سنوات، لكنه مع ذلك مكسيكي وأهله مكسيكيون. على هذا لا نفهم جيداً كيف يدمج شخصه وأسرته بالاسم في الرواية، وكيف يطابق بين الرواية بمحوريها (التاريخ المالي والتغلغل الشيوعي) وتاريخ الأسرة، تبدأ الرواية بسقوط خورخه فولبي المتمول صاحب أحد أكبر البنوك (راوي الرواية أيضاً) بعدما انكشفت ألاعيبه ونصباته، ثم ننتقل إلى أبيه الشيوعي وأمه الشيوعية أيضاً، تغدو الرواية في جانب منها عائلية، ولا يكتفي خورخه فولبي بذلك بل يعمد إلى نشر صور أهله، أمه وأبيه، بين الصور التي تزين الرواية. نكاد عند هذا الحد نصدق أن نوا فولبي والده الحقيقي كان دماغاً مالياً وموظفاً في وزارة الخزانة وشيوعياً تغلغل في الإدارة الأميركية. لكن خورخه يروي عن نفسه أنه كان هاوياً للقصص المصورة وللموسيقى. ليست هذه حاله وحده، بل هي حال الأسرة، وخورخه في شغفه بالموسيقى والقصص المصورة جمع آلافاً من الC.D. ومن الروايات المصورة، فلا يبعد عن الظن أن هاوي القصص المصورة هذا أراد ان يجعل من روايته هذه مثلها، فزين صفحاتها بصور شخصياتها الفوتوغرافية، ومن بينها صور والديه.
نصل الى الموسيقى، من الموسيقى استمد خورخه فولبي العناوين الفرعية لفصول روايته «ثنائي، ترتيل...» كما أنه استمد عناوين الفصول التي يبدو أن لا صلة بها بالفصول نفسها من القصص المصورة نفسها. رواية خورخي التي لا تعدم البحث والتوثيق هي رواية المثقفين أيضاً. لقد جمع خورخه في بنك واحد حائزين نوبل في الاقتصاد ومهندسين معجزتين في الاقتصاد، أحدهما افيكرام الذي يستمر مع الراوية في مختلف تقلباته، ولا بد أن حياة المثقفين الأميركيين، من نصف القرن الماضي إلى أيامنا، عنصر ضمني في رواية «سجل الخديعة» فالشيوعيون المتغلغلون في الإدارة هم بالدرجة الأولى مثقفون مثاليون رأوا في الشيوعية بوابة للعدل والمساواة ونقضا للتوحش الرأسمالي، فهم الذين كانوا من كبار الموظفين، لم يشتغلوا بالتجسس للاتحاد السوفياتي إلا بهذا الدافع، ولكن بقدر ما يقدّم خورخه هذا الجانب من تاريخ المثقفين، لا يلبث بعد انهيار الشيوعية وتفرق الشيوعيين المتغلغلين في الإدارة الأميركية بين متوفى ومسن يمضي بقية حياته في مأوى العجزة، أن يقدم الوجه الآخر المقلوب للمثقفين الذي هو الجشع والاحتيال والنصب والإفراط الجنسي والازدواج الجنسي. في الوقت الذي يستمر فيه في ملاحقة تاريخ المتغلغلين الشيوعيين لنكتشف آخر الرواية، في خاتمة تليق برواية بوليسية، أن والدته هي التي كانت قائدة هذا الحراك فهي «انغل» الذي حسبه الراوية رجلاً، وغيب هذا عنه أن يفكر في أمه التي اكتشفها أخيراً، وصرحت له بذلك في مأوى العجزة الذي زارها فيه.
قد يكون المثقفون أيضاً في أساس هذه الخديعة التي ليست، آخر الأمر، سوى خديعة التاريخ، الذي ينقلب على الشخصيات والأفكار والمثل ويكسفها ويحيلها، في زمن آخر، صوراً شبحية وأكاذيب وخيبات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.