رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    رسميا بعد الهبوط الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 23 أغسطس 2025    تشيلسي يكتسح وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي الممتاز    محمد الشناوي خارج مباراة الأهلي وغزل المحلة.. هاني رمزي يكشف السبب    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    وزير الدفاع الإيراني: صواريخ جديدة برؤوس حربية متطورة لم تُستخدم في حرب ال12 يومًا    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    تشيلسي يدمر وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي.. فيديو    الحوثيون يعلنون تنفيذ 3 عمليات ضد أهداف في تل أبيب    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    أمم إفريقيا للمحليين - المليوي يقود المغرب إلى نصف النهائي.. ومدغشقر تقصي كينيا    فالنسيا من قمم المجد إلى هاوية النسيان.. حين تقودك الإدارة إلى اللعنة    تقرير: ليس فينيسيوس فقط.. أنشيلوتي يستبعد رودريجو من قائمة البرازيل    محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    ميرهان حسين جريئة وليلى علوي بإطلالة شبابية.. لقطات نجوم الفن في 24 ساعة    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    الزمالك يواصل استعداداته لمواجهة فاركو بتدريبات استشفائية وفنية    محمد طاهر: الكرة من أفضل أدوات التسويق ورعاية للزمالك لدعم الأندية الشعبية    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة إلى الجذور وإشكالية الحداثة
نشر في صوت البلد يوم 20 - 09 - 2016

ثمة حضور للذات المبدعة، إلى جانب التوجه الثقافي والمعرفي، في بعض الكتابات النقدية الجديدة التي تحاول شق طريقها نحو تأسيس تيار مغاير من تيارات الكتابة، تلك التي يجمع فيها الناقد بين ملكته الإبداعية كمبدع بالأساس والروح الناقدة فيه، إضافة إلى سعة اطلاعه، ورصيده من التعاطي مع تجارب الآخرين. وهو ما قد يخرج بهذه الكتابات عن النسق المرجعي المتشدد أو النظريات النقدية التي تتخذ القوالب والأنماط ملاذا لها، ما قد ينتج عنه في أحيان كثيرة وقوع في وهدة الجفاف والظلم للنص الجديد الذي ربما اكتسب مرجعياته من ثقافات أو أطر مغايرة قد يكون لزمن الكتابة وإشكاليات وجودها دور في ظهورها على السطح، أو دون الرجوع إلى سلطة النص، بما قد يفرض آليات جديدة للتعامل مع الظواهر النصية الجديدة.
فالعلامات الفارقة في الأدب العالمي أصبحت تتطلب الكثير من التدفق المعرفي والثقافي المقترن بالتأكيد ببعض المرجعيات التي ربما كانت علامات مختلفة ومائزة في سعيها نحو اللامحدود من الفكر المقترن بالإبداع، والتي لا يخلو منها التراث الإبداعي والنقدي. ومن خلال هذه المراوحة التي تستقي من القديم بقدر ما تتطلع إلى تلك الرؤية التي تقترب من مفهوم الحداثة بمعناها الزمنى أو الآني المرتبط.
ما قد نجد ملامح منه في إطلالات "العودة إلى الجذور" للشاعر والناقد الشاب عاطف الحناوي، في أول إصداراته النقدية، أو إبحاره المعرفي الثقافي المنطلق من إبداعه وحرفيته القادرة على سبر الغور، من خلال محاولات تعاطيه نقديا ومعرفيا صنوف الأدب من شعر فصيح وعامي وسرد، وانفتاحه على العالم الإبداعي لعدد من المبدعين..
***
ربما عبر الكاتب من خلال نموذج طرحه لرؤيته لرواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق التي ذاع صيتها في الفترة الأخيرة، جامعًا بين هذه السمة المتطلعة للمنجز الثقافي الجديد بتحولاته ومعطياته، وربما حداثته التي فرضها عامل الزمن والتقنية وزمن الرواية، إضافة إلى زمن السرد في مطلع القرن الواحد والعشرين، وهذه الجذور التاريخية التراثية بما تفرضه آليات القرن الثالث عشر والرابع عشر، أو الفكرة الإبداعية التي جمعت بين الإطارين أو المستويين الزمانيين والمكانيين، وتوازي خطوط السرد وتطابقها على مدار الرواية الضخمة التي ربما انقسمت إلى روايتين، أو العديد من الروايات التي تتبع أصحابها من خلال المتن الأكبر للرواية التي تعبر رواية روايات بالمعنى التقني الحديث.
"قواعد العشق الأربعون رواية جماعية الأصوات، لم يروها شخص واحد، بل مجموعة رواة ووجهات نظر متكاملة مثل موجات صغيرة أو نهيرات صغيرة كما أسلفنا، موجة تتبع موجة فتشكل بساطا من الماء يمكن استشفاف ما وراءه بسهولة، عبر لغة شاعرية امتلكت قوة النفاذ إلى الروح البشرية، في تجليات شخصياتها المثيرة جدا".
فالمفارقة تأتي هنا في الجمع بين البحث عن الجذور، والإحداثيات التي تفرضها الحالة الآنية بمستجداتها، ما يعكس هذا الحس الإبداعي الذي أشرنا إليه، والذي يقود العملية الاستقصائية للنص بروح صانعة للإبداع، تملك ترمومتر إحساسها بقيمة الكلمة، وهو ما يتسق إلى حد بعيد مع فكرة الكتاب أو توجهه، وطموحه نحو معانقة الفكر والفلسفة والإبداع والتاريخ، والمعرفة في سياقاتها المتعددة والمتخللة لكل تلك العناصر، والتي يقول عنها الكاتب في موضوع آخر:
"إن (قواعد العشق الأربعون) رواية نتجت عن المعرفة العميقة بحقائق الأشياء، وبدون معرفة حقيقية فلا إبداع على الإطلاق، فالمعرفة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق، أو اكتساب المعلومة عن طريق التجربة، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم، المعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات".
فالعلاقة بين المعرفة وعنصر الزمن الذي يضرب في أغوار التاريخ والتراث، هي علاقة أزلية بين الجذور والحداثة، ولكن بمفاهيم قد تختلف إلى حد بعيد مع تلك المفاهيم التي صيغت بها العلاقة قديما، فالثورة التكنولوجية التي قربت الاتصالات بين البشر والتي تلوح في النص الروائي من خلال السرد في مرحلته الحالية والانترنت والشبكات الجوالة قد خلقت هذه المساحة الشاسعة والفارق التقني الذي لم يستطع أن يفصل الروح السارية في الأثير، فاللأرواح تكاد تكون متطابقة، والقيم والمثل والمعايير الإنسانية هي كما هي لم تتغير ولم ينضب معينها لتصير الرحلة إلى الجذور بهذه المفاهيمية رحلة إلى الحاضر وإلى المستقبل، كي تترسخ ذات القيم ويعاد إنتاجها من جديد في أثواب جديدة أكثر عصرية وأكثر قدرة على اختراق الزمن
ولعل ما جاء في سياق الطرح في قول الكاتب، ترسيخا لمفهوم العودة إلى الجذور:
"اعتمدت الرواية على طريقة السرد الدائري، والزمن الدائري هو الزمن الذي يقوم على أساس ابتداء أحداث الرواية بشئ من أحداث النهاية فيها، وهذا النوع من الزمن له جذور في التراث السردي العربي، فهو يعد أهم تيمة من تيمات ألف ليلة وليلة، وقد استمد هذا الاتجاه في سير الزمن من التصور القديم للزمن، فقد تصور كل من الإغريق والهنود والحضارات القديمة أن الزمن دائري، أي متكرر على هيئة فترات منتظمة، وهذا التصور ربما يكون مستمدا من الكون نفسه الذي هو بالتالي دائري".
***
وهو ما يحيل وبشدة إلى سؤال قد يفرض نفسه عن ماهية العلاقة بين الحداثة بمفهومها التجريدي الغامض أو الغموض للغموض فحسب، والحالة الإبداعية المستمرة أو دورة الحياة التي لا تتوقف عن الدوران لتأتي ربما فيما تأتي به، حتما بجديد مغاير، تبعا للمتغيرات والإحداثيات الجديدة الموَّارة لعنصر الزمن أو عملية التحديث المستمرة التي هي سنة الحياة، وأيقونتها المتحركة في فضاءاتها بحسب المسميات والتقنيات الجديدة، وبين هذه النظرة العدائية التي يطلقها الكاتب في معرض حديثه عن الحداثة، والعلاقة بينها وبين الجذور التي ربما حاولنا سبر غورها من خلال هذا الاشتباك مع طرحه لنموذج قواعد العشق في معادلة اتزانه ما بين الحداثة والتراث أو الجذور في مفهوم الكاتب أو وعيه.
حيث يثير الكاتب في معرض حديثه التأسيسي عن "العودة إلى الجذور":
"أرى أن تيار الحداثة سيقف حتما، وسنرجع لجذورنا نستمد منها وهجا جديدا ودافعا جديدا للحياة والخروج بالأدب واللغة من مأزقها الصعب".
ما يجعلنا قد نتعارض مع ذاك الطرح، فأي حداثة تلك التي يرمي إليها الكاتب؟
فليس معنى الحداثة منحصرا في الغموض والإلغاز ولا الطلاسم التي قد يأتي بها بعض مدعي الحداثة أو الخارجين عن روح الأدب لا عن قواعده، لإيماننا أن لا قواعد في الفن إلا الفن ذاته والإبداع المتجدد، فالفن هو الذي يجدد ذاته ويحدث ذاته، والمرتبط بنوع من الحداثة ربما اقترب منه النموذج الذي أشرنا إليه. وما تفرزه القريحة والذائقة وتسمو به باعترافها به بشكل ما أو بآخر، فهي التي تحرك الراكد في مياه الإبداع، وليس شرطا أيضا أن ننسلخ عن جذورنا التراثية والتاريخية كي نكون حداثيين، فالتراث في زمنه ومضمونه العابر للزمن كان حداثيا بشكل ما أو بآخر، وكان جديدا وفاعلا في زمنه، وما خلده الزمن والتاريخ صار نوعا من الحداثة التي تجدد ذاتها.
ناهيك عن الأعمال التي ربما تواترت كي تصنع هذا الجدل وهذا النقاش غير المجدي وإثارة فقاقيع في سطح آسن، فلا تمنع الجذور من تقديم رؤية فكرية وجمالية تلتحف بموضوع يهتم بالحالة الآنية، بإحداثيات وآليات التعامل مع النص بحرفية تتواكب مع كل ما هو جديد. ولا يمنع الجديد من أن يستحوذ على روح المسك التي تنبعث من الجذور فبديع البيان لا ينتقص قدره، وأدوات الكاتب من لغة وتراكيب تلتزم معايير الجمال، في كثير مما تجود به القرائح الإبداعية التي تقع في دائرة حداثتها الآنية.
ولكل تجربة كما أورد الكاتب في معرض تحليله لبعض النصوص تطبيقا لهذه الرؤية، نقاط ضعفها وقوتها وغموضها وإلغازها، والتجاور دائما هو ما يصنع الفروق ويوضح إلى أي مدى تكون الحداثة غير مجحفة، في وجود قيمة الجذور، وتكون الجذور بتراثها وتاريخها غير ملزمة وغير مكبلة لحركة الإبداع التي ينبغي أن تتحرر قليلا كي تثبت مصداقيتها وجدارتها بمواكبة الجديد مع الحفاظ على الجذور. وهو الصراع الممتد بين كل ما هو جديد وقديم. قد تظهر في منطقة الما بين بين أنصاف المواهب التي قد تثير هذه الأغبرة التي ربما طالت أول ما طالت مصطلح الحداثة بالمفهم المغلوط له، والالتصاق فيه! بحسب تعبير الكاتب.
***
هي تجربة مع الكتابة النقدية، بعد ممارسة إبداعية متحققة إلى حد بعيد، قد تصقلها الكثير من المتابعات النقدية الأخرى المتخصصة التي تعتمد منهجا أكثر تحديدا، أو التصاقا بمفهوم الجنس الأدبي الواحد، حيث تنمو القدرة على الولوج في إشكالياته، وما يموج به الفن من تغيرات وإرهاصات ونتائج، قد ترفد الحياة الأدبية والنقدية بصوت نقدي واعد يتسلح بأدواته، وهي أيضا تؤشر مؤشرا صحيا على علاقة المبدع بالنقد، والناقد بالإبداع فلا انفصال بينهما؛ فلعل أهم الكتب التي أفادت في تقنيات الكتابة كانت لمبدعين أثروا الحياة الأدبية بإبداعاتهم، كما أثروها نتاجا لهذا التلاقح الفاعل مع الفن.
ثمة حضور للذات المبدعة، إلى جانب التوجه الثقافي والمعرفي، في بعض الكتابات النقدية الجديدة التي تحاول شق طريقها نحو تأسيس تيار مغاير من تيارات الكتابة، تلك التي يجمع فيها الناقد بين ملكته الإبداعية كمبدع بالأساس والروح الناقدة فيه، إضافة إلى سعة اطلاعه، ورصيده من التعاطي مع تجارب الآخرين. وهو ما قد يخرج بهذه الكتابات عن النسق المرجعي المتشدد أو النظريات النقدية التي تتخذ القوالب والأنماط ملاذا لها، ما قد ينتج عنه في أحيان كثيرة وقوع في وهدة الجفاف والظلم للنص الجديد الذي ربما اكتسب مرجعياته من ثقافات أو أطر مغايرة قد يكون لزمن الكتابة وإشكاليات وجودها دور في ظهورها على السطح، أو دون الرجوع إلى سلطة النص، بما قد يفرض آليات جديدة للتعامل مع الظواهر النصية الجديدة.
فالعلامات الفارقة في الأدب العالمي أصبحت تتطلب الكثير من التدفق المعرفي والثقافي المقترن بالتأكيد ببعض المرجعيات التي ربما كانت علامات مختلفة ومائزة في سعيها نحو اللامحدود من الفكر المقترن بالإبداع، والتي لا يخلو منها التراث الإبداعي والنقدي. ومن خلال هذه المراوحة التي تستقي من القديم بقدر ما تتطلع إلى تلك الرؤية التي تقترب من مفهوم الحداثة بمعناها الزمنى أو الآني المرتبط.
ما قد نجد ملامح منه في إطلالات "العودة إلى الجذور" للشاعر والناقد الشاب عاطف الحناوي، في أول إصداراته النقدية، أو إبحاره المعرفي الثقافي المنطلق من إبداعه وحرفيته القادرة على سبر الغور، من خلال محاولات تعاطيه نقديا ومعرفيا صنوف الأدب من شعر فصيح وعامي وسرد، وانفتاحه على العالم الإبداعي لعدد من المبدعين..
***
ربما عبر الكاتب من خلال نموذج طرحه لرؤيته لرواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق التي ذاع صيتها في الفترة الأخيرة، جامعًا بين هذه السمة المتطلعة للمنجز الثقافي الجديد بتحولاته ومعطياته، وربما حداثته التي فرضها عامل الزمن والتقنية وزمن الرواية، إضافة إلى زمن السرد في مطلع القرن الواحد والعشرين، وهذه الجذور التاريخية التراثية بما تفرضه آليات القرن الثالث عشر والرابع عشر، أو الفكرة الإبداعية التي جمعت بين الإطارين أو المستويين الزمانيين والمكانيين، وتوازي خطوط السرد وتطابقها على مدار الرواية الضخمة التي ربما انقسمت إلى روايتين، أو العديد من الروايات التي تتبع أصحابها من خلال المتن الأكبر للرواية التي تعبر رواية روايات بالمعنى التقني الحديث.
"قواعد العشق الأربعون رواية جماعية الأصوات، لم يروها شخص واحد، بل مجموعة رواة ووجهات نظر متكاملة مثل موجات صغيرة أو نهيرات صغيرة كما أسلفنا، موجة تتبع موجة فتشكل بساطا من الماء يمكن استشفاف ما وراءه بسهولة، عبر لغة شاعرية امتلكت قوة النفاذ إلى الروح البشرية، في تجليات شخصياتها المثيرة جدا".
فالمفارقة تأتي هنا في الجمع بين البحث عن الجذور، والإحداثيات التي تفرضها الحالة الآنية بمستجداتها، ما يعكس هذا الحس الإبداعي الذي أشرنا إليه، والذي يقود العملية الاستقصائية للنص بروح صانعة للإبداع، تملك ترمومتر إحساسها بقيمة الكلمة، وهو ما يتسق إلى حد بعيد مع فكرة الكتاب أو توجهه، وطموحه نحو معانقة الفكر والفلسفة والإبداع والتاريخ، والمعرفة في سياقاتها المتعددة والمتخللة لكل تلك العناصر، والتي يقول عنها الكاتب في موضوع آخر:
"إن (قواعد العشق الأربعون) رواية نتجت عن المعرفة العميقة بحقائق الأشياء، وبدون معرفة حقيقية فلا إبداع على الإطلاق، فالمعرفة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق، أو اكتساب المعلومة عن طريق التجربة، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم، المعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات".
فالعلاقة بين المعرفة وعنصر الزمن الذي يضرب في أغوار التاريخ والتراث، هي علاقة أزلية بين الجذور والحداثة، ولكن بمفاهيم قد تختلف إلى حد بعيد مع تلك المفاهيم التي صيغت بها العلاقة قديما، فالثورة التكنولوجية التي قربت الاتصالات بين البشر والتي تلوح في النص الروائي من خلال السرد في مرحلته الحالية والانترنت والشبكات الجوالة قد خلقت هذه المساحة الشاسعة والفارق التقني الذي لم يستطع أن يفصل الروح السارية في الأثير، فاللأرواح تكاد تكون متطابقة، والقيم والمثل والمعايير الإنسانية هي كما هي لم تتغير ولم ينضب معينها لتصير الرحلة إلى الجذور بهذه المفاهيمية رحلة إلى الحاضر وإلى المستقبل، كي تترسخ ذات القيم ويعاد إنتاجها من جديد في أثواب جديدة أكثر عصرية وأكثر قدرة على اختراق الزمن
ولعل ما جاء في سياق الطرح في قول الكاتب، ترسيخا لمفهوم العودة إلى الجذور:
"اعتمدت الرواية على طريقة السرد الدائري، والزمن الدائري هو الزمن الذي يقوم على أساس ابتداء أحداث الرواية بشئ من أحداث النهاية فيها، وهذا النوع من الزمن له جذور في التراث السردي العربي، فهو يعد أهم تيمة من تيمات ألف ليلة وليلة، وقد استمد هذا الاتجاه في سير الزمن من التصور القديم للزمن، فقد تصور كل من الإغريق والهنود والحضارات القديمة أن الزمن دائري، أي متكرر على هيئة فترات منتظمة، وهذا التصور ربما يكون مستمدا من الكون نفسه الذي هو بالتالي دائري".
***
وهو ما يحيل وبشدة إلى سؤال قد يفرض نفسه عن ماهية العلاقة بين الحداثة بمفهومها التجريدي الغامض أو الغموض للغموض فحسب، والحالة الإبداعية المستمرة أو دورة الحياة التي لا تتوقف عن الدوران لتأتي ربما فيما تأتي به، حتما بجديد مغاير، تبعا للمتغيرات والإحداثيات الجديدة الموَّارة لعنصر الزمن أو عملية التحديث المستمرة التي هي سنة الحياة، وأيقونتها المتحركة في فضاءاتها بحسب المسميات والتقنيات الجديدة، وبين هذه النظرة العدائية التي يطلقها الكاتب في معرض حديثه عن الحداثة، والعلاقة بينها وبين الجذور التي ربما حاولنا سبر غورها من خلال هذا الاشتباك مع طرحه لنموذج قواعد العشق في معادلة اتزانه ما بين الحداثة والتراث أو الجذور في مفهوم الكاتب أو وعيه.
حيث يثير الكاتب في معرض حديثه التأسيسي عن "العودة إلى الجذور":
"أرى أن تيار الحداثة سيقف حتما، وسنرجع لجذورنا نستمد منها وهجا جديدا ودافعا جديدا للحياة والخروج بالأدب واللغة من مأزقها الصعب".
ما يجعلنا قد نتعارض مع ذاك الطرح، فأي حداثة تلك التي يرمي إليها الكاتب؟
فليس معنى الحداثة منحصرا في الغموض والإلغاز ولا الطلاسم التي قد يأتي بها بعض مدعي الحداثة أو الخارجين عن روح الأدب لا عن قواعده، لإيماننا أن لا قواعد في الفن إلا الفن ذاته والإبداع المتجدد، فالفن هو الذي يجدد ذاته ويحدث ذاته، والمرتبط بنوع من الحداثة ربما اقترب منه النموذج الذي أشرنا إليه. وما تفرزه القريحة والذائقة وتسمو به باعترافها به بشكل ما أو بآخر، فهي التي تحرك الراكد في مياه الإبداع، وليس شرطا أيضا أن ننسلخ عن جذورنا التراثية والتاريخية كي نكون حداثيين، فالتراث في زمنه ومضمونه العابر للزمن كان حداثيا بشكل ما أو بآخر، وكان جديدا وفاعلا في زمنه، وما خلده الزمن والتاريخ صار نوعا من الحداثة التي تجدد ذاتها.
ناهيك عن الأعمال التي ربما تواترت كي تصنع هذا الجدل وهذا النقاش غير المجدي وإثارة فقاقيع في سطح آسن، فلا تمنع الجذور من تقديم رؤية فكرية وجمالية تلتحف بموضوع يهتم بالحالة الآنية، بإحداثيات وآليات التعامل مع النص بحرفية تتواكب مع كل ما هو جديد. ولا يمنع الجديد من أن يستحوذ على روح المسك التي تنبعث من الجذور فبديع البيان لا ينتقص قدره، وأدوات الكاتب من لغة وتراكيب تلتزم معايير الجمال، في كثير مما تجود به القرائح الإبداعية التي تقع في دائرة حداثتها الآنية.
ولكل تجربة كما أورد الكاتب في معرض تحليله لبعض النصوص تطبيقا لهذه الرؤية، نقاط ضعفها وقوتها وغموضها وإلغازها، والتجاور دائما هو ما يصنع الفروق ويوضح إلى أي مدى تكون الحداثة غير مجحفة، في وجود قيمة الجذور، وتكون الجذور بتراثها وتاريخها غير ملزمة وغير مكبلة لحركة الإبداع التي ينبغي أن تتحرر قليلا كي تثبت مصداقيتها وجدارتها بمواكبة الجديد مع الحفاظ على الجذور. وهو الصراع الممتد بين كل ما هو جديد وقديم. قد تظهر في منطقة الما بين بين أنصاف المواهب التي قد تثير هذه الأغبرة التي ربما طالت أول ما طالت مصطلح الحداثة بالمفهم المغلوط له، والالتصاق فيه! بحسب تعبير الكاتب.
***
هي تجربة مع الكتابة النقدية، بعد ممارسة إبداعية متحققة إلى حد بعيد، قد تصقلها الكثير من المتابعات النقدية الأخرى المتخصصة التي تعتمد منهجا أكثر تحديدا، أو التصاقا بمفهوم الجنس الأدبي الواحد، حيث تنمو القدرة على الولوج في إشكالياته، وما يموج به الفن من تغيرات وإرهاصات ونتائج، قد ترفد الحياة الأدبية والنقدية بصوت نقدي واعد يتسلح بأدواته، وهي أيضا تؤشر مؤشرا صحيا على علاقة المبدع بالنقد، والناقد بالإبداع فلا انفصال بينهما؛ فلعل أهم الكتب التي أفادت في تقنيات الكتابة كانت لمبدعين أثروا الحياة الأدبية بإبداعاتهم، كما أثروها نتاجا لهذا التلاقح الفاعل مع الفن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.