بدء التصويت في انتخابات مجلس الشيوخ بسفارات مصر بالسعودية والكويت والأردن    انتخابات الشيوخ 2025.. توافد لافت ورسائل دعم للدولة المصرية خلال تصويت المصريين بالسعودية    توقيع بروتوكول تعاون بين الجمارك والغرفة التجارية بالقاهرة لتيسير الإجراءات الجمركية    استشهاد 23 فلسطينيا في قصف إسرائيلي متواصل على غزة    الدفاع الروسية: اعتراض وتدمير 112 طائرة مسيرة أوكرانية    مواعيد مباريات السبت 2 أغسطس 2025.. البدري ضد كهربا وافتتاح أمم إفريقيا للمحليين    مواعيد مباريات اليوم السبت 2- 8- 2025 والقنوات الناقلة    ماسكيرانو: نحلم باستمرار ميسي مع إنتر ميامي.. والقرار بيده    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    الرئيس البرازيلي: نستعد للرد على الرسوم الجمركية الأمريكية    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب شمال باكستان    مصطفى عبده يكتب: خيانة مكتملة الأركان    ذات يوم.. 02 أغسطس 1990.. اتصالات هاتفية بالرئيس مبارك والملكين فهد وحسين لإبلاغهم بمفاجأة احتلال العراق للكويت ومحاولات الاتصال بصدام حسين تفشل بحجة «التليفون بعيد عنه»    أسعار الأسماك بكفر الشيخ اليوم    الهيئة الوطنية للانتخابات: سفراء مصر بالخارج يدعمون التصويت    استقرار أسعار العملات العربية في بداية تعاملات اليوم 2 أغسطس 2025    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    تعرف على منافسات مصر بسابع أيام دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    يحيى عطية الله يعود إلى الوداد بعد موافقة سوتشي الروسي    «مياه الإسكندرية» تنهي استعداداتها لتأمين انتخابات مجلس الشيوخ    الطقس اليوم السبت 2-8-2025.. أجواء حارة ورطبة نهارًا على أغلب الأنحاء    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    أخبار مصر: مفاجأة بمنزل البلوجر أم مكة، وفاة غامضة لعم أنغام، ترامب يهدد بوتين ب"النووي"، مأساة في زفة عريس بكفر الشيخ    وفاة عم أنغام .. وشقيقه: الوفاة طبيعية ولا توجد شبهة جنائية    القاهرة الإخبارية تعرض تقريرا عن مجلس الشيوخ.. ثمرة عقود من التجربة الديمقراطية    حملة «100 يوم صحة» تقدم 26.7 مليون خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    جنين تم تجميده عام 1994.. ولادة أكبر طفل في العالم    أسعار السبائك الذهبية اليوم السبت 2-8-2025 بعد الارتفاع القياسي العالمي    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    "تيسلا" مطالبة ب 242 مليون دولار كتعويض عن حادث مميت    وفاة والد معتمد جمال مدرب الزمالك السابق    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية اليوم السبت 2-8-2025    سعر الأرز الشعير والأبيض اليوم السبت 2-8-2025 في أسواق الشرقية    الأجهزة الأمنية تداهم منزل البلوجر «أم مكة» في شبرا الخيمة وتتحفظ على معدات التصوير    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. قائمة الكليات المتاحة لعلمي علوم ورياضة ومؤشرات الحد الأدنى    جريمة تهز سيوة.. مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة وإصابة ابنهم    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    تشيع جنازة عريس لحق بعروسه بعد ساعات من وفاتها بكفر الشيخ    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    إصابة 5 عمال في مشاجرة بسوهاج لتنافس على الزبائن    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يشهد فعاليات اليوم العلمى ل«الفنية العسكرية»    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسكندرية الشاعرة وتعاقب الأجيال
نشر في صوت البلد يوم 08 - 06 - 2016

هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها" هكذا تحدث الإسكندر الأكبر عندما وقعت عينه على قرية "راقودة"، تلك القرية الصغيرة التي تسكن بأحضان البحر، وما لبث أن فرغ من كلامه حتى أمر مهندسه "دينوقراطيس" بالشروع في تشييدها، هكذا بدأت الإسكندرية, قصة حبٍ من النظرة الأولى أوقعت الملك الشاب في غرامها ومن خلفه كل من ولد أو سكن أو مرَّ بها منذ ذلك الحين.
وتوافرت في الإسكندرية منذ عهدٍ مبكرٍ عبقرية المكان, فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي والفني والعلمي وامتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ وأنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية واليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها وفنانيها حتى فاضت بنورها وبصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم والفنون ليس لبلاد اليونان فحسب ولكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجاً فارقاً وفريداً بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراعٌ يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم, لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر, بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية, وكان للأدب والشعر خاصةً نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم, إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" الذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخراً من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس".
ويؤكد "ثيوكريتس" على استقلالية الإسكندرية الثقافية ورؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية وذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري والتي كانت تقتضي وزناً معيناً لكلِّ غرضٍ شعريٍّ, وآثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية, وقد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة الملاحم ولعلَّ أشهرها ملحمة "أبوللونيوس" الشهيرة "الأرجونوتيكا" أو "بحارة الأرجو", "والتي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث, فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس, وإنما روح المغامرة, أي الإنسان".
وهذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه "ثيوكريتس"؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام, لم يكونوا مقلِّدين وإنما أعادوا إنتاج وتجديد الشعر اليوناني ومن ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد, "فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد".
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها وازدهارها وريادتها وقدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة والتي مازالت محتفظة بتخطيط "دينوقراطيس" لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور وقصور وحمامات وبساتين وأحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم وجذام والتي استوطنت - ومازالت - غرب الإسكندرية، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية والإسلامية، حتى أضحت شوارعها متحفاً مفتوحاً تقف منارتها - إحدى عجائب الدنيا - حارساً على كلِّ ذلك وشاهداً على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري؛ فلم يكن مقدَّراً للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها ويذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن, والذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ وثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف والأبهة.
يقول "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب: "يتصف عصر الفاطميين, الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون. وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد. وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور".
وكان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد والمدارس والتي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها؛ إذ "كانت المساجد مراكز فكرية, فالجامع الجيوشي كان مركزاً مهماً من مراكز الفكر بالثغر, تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه والقراءات والنحو وغير ذلك".
وساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث "كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة".
وقد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد، وكان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر وغير ذلك من العلوم.
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم وظهور طبقة من العلماء والأدباء والمشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي أبنائها فلم يكن عجيباً إذن أن نرى شاعراً حداداً مثل "ظافر الحداد السكندري" (ت: 529ه) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية وحتى عصر النهضة بلا منازعٍ.
وكان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي والذين نبغوا في الشعر كثيرين، منهم "ابن قلاقس" الشاعر الرحالة الذي عشق البحر وطوَّف في أرجائه شمالاً وجنوباً ما بين صقلية واليمن واتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين وعندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها وقضى نحبه وهو مازال في الخامسة والثلاثين تاركاً ديواناً بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية والبحر ومنارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم "أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز الأندلسي" ( صاحب الرسالة المصرية) والإمام البوصيري (صاحب البردة عين عيون المديح النبوي) وبها توفي ودُفن، و"تقيَّة الصورية"، وغيرهم العديد والعديد، منهم مَن هم مِن أبنائها ومنهم مَن وفد عليها واستقرَّ بها حيناً وخلَّف لنا شعراً ينتمي إليها؛ فشعر الإسكندرية "يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين، وحتى دون أن يكونوا مصريين".
وهذا الحد للشعر السكندري تراث الإسكندرية الشعري والذي وضعه الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة؛ فالإسكندرية كانت دوماً محط أنظار الشعراء يأتونها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلباً للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثاً عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل.
ويردف حجازي بقوله: "الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطناً أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلماً أو فكرة".
وما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية وازدانت بهم وأخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعراً عربياً أم زجلاً أم شعراً مكتوباً بلغاتٍ أخرى كاليونانية والإيطالية.
والإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ولمَّا تزل ونراها مبثوثةً في كتاباتهم شعراً ونثراً تحتضن أحرفهم وتحنو عليهم، فتلك الحقبة التي عاش فيها بيرم التونسي (ت: 1961) وخليل شيبوب (ت: 1951) وعتمان حلمي (1894 – 1962) وعبدالحميد السنوسي، شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال: نقولا فياض (ت: 1959) وردة اليازجي (ت 1924) عبدالرحمن شكري (ت: 1958) زكريا جزارين (ت: 1955) حسن فهمي (ت: 1930) محمد غالب (ت: 1950) فخري أبو السعود (ت: 1940) عبداللطيف النشار، محمد مفيد الشوباشي، أحمد راسم (ت: 1958) منيرة توفيق (ت: 1965).
كذلك العديد من الشعراء غير العرب الذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري، نذكر قنسطنطين كفافيس الشاعر اليوناني العالمي، أونجاريتي الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث، مارينيتي رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والنثر، راؤول ولكنسون، هنري تويل، ألك سكوفي، رنيه تاسو.. وغيرهم العديد.
وتستمر الإسكندرية في إنجاب أجيال جديدة من المبدعين شعراً وسرداً ونقداً.
هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها" هكذا تحدث الإسكندر الأكبر عندما وقعت عينه على قرية "راقودة"، تلك القرية الصغيرة التي تسكن بأحضان البحر، وما لبث أن فرغ من كلامه حتى أمر مهندسه "دينوقراطيس" بالشروع في تشييدها، هكذا بدأت الإسكندرية, قصة حبٍ من النظرة الأولى أوقعت الملك الشاب في غرامها ومن خلفه كل من ولد أو سكن أو مرَّ بها منذ ذلك الحين.
وتوافرت في الإسكندرية منذ عهدٍ مبكرٍ عبقرية المكان, فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي والفني والعلمي وامتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ وأنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية واليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها وفنانيها حتى فاضت بنورها وبصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم والفنون ليس لبلاد اليونان فحسب ولكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجاً فارقاً وفريداً بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراعٌ يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم, لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر, بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية, وكان للأدب والشعر خاصةً نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم, إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" الذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخراً من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس".
ويؤكد "ثيوكريتس" على استقلالية الإسكندرية الثقافية ورؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية وذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري والتي كانت تقتضي وزناً معيناً لكلِّ غرضٍ شعريٍّ, وآثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية, وقد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة الملاحم ولعلَّ أشهرها ملحمة "أبوللونيوس" الشهيرة "الأرجونوتيكا" أو "بحارة الأرجو", "والتي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث, فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس, وإنما روح المغامرة, أي الإنسان".
وهذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه "ثيوكريتس"؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام, لم يكونوا مقلِّدين وإنما أعادوا إنتاج وتجديد الشعر اليوناني ومن ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد, "فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد".
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها وازدهارها وريادتها وقدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة والتي مازالت محتفظة بتخطيط "دينوقراطيس" لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور وقصور وحمامات وبساتين وأحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم وجذام والتي استوطنت - ومازالت - غرب الإسكندرية، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية والإسلامية، حتى أضحت شوارعها متحفاً مفتوحاً تقف منارتها - إحدى عجائب الدنيا - حارساً على كلِّ ذلك وشاهداً على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري؛ فلم يكن مقدَّراً للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها ويذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن, والذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ وثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف والأبهة.
يقول "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب: "يتصف عصر الفاطميين, الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون. وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد. وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور".
وكان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد والمدارس والتي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها؛ إذ "كانت المساجد مراكز فكرية, فالجامع الجيوشي كان مركزاً مهماً من مراكز الفكر بالثغر, تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه والقراءات والنحو وغير ذلك".
وساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث "كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة".
وقد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد، وكان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر وغير ذلك من العلوم.
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم وظهور طبقة من العلماء والأدباء والمشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي أبنائها فلم يكن عجيباً إذن أن نرى شاعراً حداداً مثل "ظافر الحداد السكندري" (ت: 529ه) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية وحتى عصر النهضة بلا منازعٍ.
وكان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي والذين نبغوا في الشعر كثيرين، منهم "ابن قلاقس" الشاعر الرحالة الذي عشق البحر وطوَّف في أرجائه شمالاً وجنوباً ما بين صقلية واليمن واتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين وعندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها وقضى نحبه وهو مازال في الخامسة والثلاثين تاركاً ديواناً بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية والبحر ومنارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم "أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز الأندلسي" ( صاحب الرسالة المصرية) والإمام البوصيري (صاحب البردة عين عيون المديح النبوي) وبها توفي ودُفن، و"تقيَّة الصورية"، وغيرهم العديد والعديد، منهم مَن هم مِن أبنائها ومنهم مَن وفد عليها واستقرَّ بها حيناً وخلَّف لنا شعراً ينتمي إليها؛ فشعر الإسكندرية "يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين، وحتى دون أن يكونوا مصريين".
وهذا الحد للشعر السكندري تراث الإسكندرية الشعري والذي وضعه الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة؛ فالإسكندرية كانت دوماً محط أنظار الشعراء يأتونها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلباً للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثاً عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل.
ويردف حجازي بقوله: "الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطناً أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلماً أو فكرة".
وما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية وازدانت بهم وأخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعراً عربياً أم زجلاً أم شعراً مكتوباً بلغاتٍ أخرى كاليونانية والإيطالية.
والإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ولمَّا تزل ونراها مبثوثةً في كتاباتهم شعراً ونثراً تحتضن أحرفهم وتحنو عليهم، فتلك الحقبة التي عاش فيها بيرم التونسي (ت: 1961) وخليل شيبوب (ت: 1951) وعتمان حلمي (1894 – 1962) وعبدالحميد السنوسي، شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال: نقولا فياض (ت: 1959) وردة اليازجي (ت 1924) عبدالرحمن شكري (ت: 1958) زكريا جزارين (ت: 1955) حسن فهمي (ت: 1930) محمد غالب (ت: 1950) فخري أبو السعود (ت: 1940) عبداللطيف النشار، محمد مفيد الشوباشي، أحمد راسم (ت: 1958) منيرة توفيق (ت: 1965).
كذلك العديد من الشعراء غير العرب الذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري، نذكر قنسطنطين كفافيس الشاعر اليوناني العالمي، أونجاريتي الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث، مارينيتي رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والنثر، راؤول ولكنسون، هنري تويل، ألك سكوفي، رنيه تاسو.. وغيرهم العديد.
وتستمر الإسكندرية في إنجاب أجيال جديدة من المبدعين شعراً وسرداً ونقداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.