تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 23 أغسطس 2025    مواعيد مباريات اليوم السبت 23 أغسطس والقنوات الناقلة    استشهاد 12 فلسطينيًا جراء قصف للاحتلال استهدف خيام نازحين شمال غرب خان يونس    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    القاهرة تسجل 40 مجددا والصعيد يعود إلى "الجحيم"، درجات الحرارة اليوم السبت في مصر    ثوانٍ فارقة أنقذت شابًا من دهس القطار.. وعامل مزلقان السادات يروي التفاصيل    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    «ميستحقوش يلعبوا في الزمالك».. إكرامي يفتح النار على ألفينا وشيكو بانزا    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النصوص الطغاة
نشر في صوت البلد يوم 23 - 03 - 2016

منذ فترة قليلة، رحل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي عرفناه بنصه القديم: «اسم الوردة»، على الرغم من أنه كتب نصوصا أخرى، منها: «جزيرة اليوم السابق»، ونص ترجم للعربية مؤخرا، هو: مقبرة براغ، الذي كتبه مستوحيا التاريخ، كما يفعل دائما، وكل تلك النصوص تحقق نسبة قراءة عالية، اعتمادا على اسم الكاتب، وشهرته في كتابة الملاحم، لكن «اسم الوردة» كان شيئا آخر، مختلفا تماما، إنه واحد من النصوص الطغاة، أو النصوص التي يمارس القراء ديكتاتورية متعسفة من أجل قراءتها، تماما مثل نصوص أخرى، في تاريخ الكتابة، سأتعرض لها لاحقا.
أول مرة سمعت باسم الوردة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين زارني في بيتي، مثقف عربي، كان قرأ بداياتي، في الكتابة، ويبدو أن ما كتبته لم يرق له، واعتبرني بحاجة لنصح قوي وفعال، وكان هذا النصح، حين أخرج من حقيبته نسخة من كتاب: «اسم الوردة»، في ترجمته العربية، وضعها أمامي على الطاولة وهو يقول بغضب: أنت لم تقرأ «اسم الوردة»، ولو قرأتها لعرفت كيف تكتب، وقبل أن أمد يدي لأتصفح الكتاب، التقطه وأعاده لحقيبته، ثم ذهب، لكنه ترك لي في تلك الأمسية قرارا ديكتاتوريا واضحا، وهو أن أقرأ ذلك الكتاب الإيطالي. وكأنني سأعاقب بالسجن أو الجلد أو الطرد من حرفة الكتابة، إن لم أقرأه.
بعد ذلك ظللت أشهرا طويلة أبحث عن اسم الوردة، لم يكن موجودا في المكتبات، ورفض كل صديق يملكه أن يعيرني النسخة، وكنت أتمزق في الداخل حقيقة، وحين أجلس في مقهى برفقة أصدقاء مثقفين، أو أوجد في احتفالية ثقافية، أخاف أن يذكر اسم الوردة، ويعرف الناس أنني لم أقرأه، وفي أول زيارة قمت بها للقاهرة بعد ذلك، أسرعت إلى مكتبة مدبولي العظيمة، في ميدان طلعت حرب واقتنيت «اسم الوردة»، وقرأته مباشرة في اليوم نفسه، لأتحرر من كابوس ديكتاتوريته، وأجلس في المقاهي والمناسبات الثقافية، هادئا، أتحين فرصة أن يطرح أحدهم موضوع ذلك الكتاب، لأشارك في النقاش بمتعة.
لن أتحدث عن موضوع الكتاب، ولا عن انطباعي بعد أن قرأته في تلك الأيام، إن كان سلبيا أو إيجابيا، وإنما فقط أوردته، لأنه كان من تلك الكتب التي يضطر العالق في درب الكتابة، إلى قراءتها، بما تملكه من صلف وسطوة على الأذهان.
«رواية العطر»، لباتريك زوسكيند، الألماني الذي دخل بها قوائم الأعلى مبيعا، والأكثر انتشارا، وكتب بعدها نصوصا أخرى مثل «الحمامة»، لم ترتق لجمالها، كانت أيضا من النصوص الطغاة، التي مارس المثقفون في تلك الفترة، ضغوطا كثيرة على زملائهم، من أجل الحصول عليها وقراءتها، لقد كتب على الغلاف أنها قصة قاتل، وهذا من شأنه أن ينخفض بإيحاء النص كثيرا، فليس كل القراء يبحثون عن قصص القتل، وتلك القصص في مجملها لا تصبح أبدا في مصاف القراءة الراقية، لكنها في الحقيقة حين تقرأها، وقبل أن تصل إلى مرحلة القتل، تعثر على معرفة كبيرة، في صناعة العطور، تلك الحرفة التي كان يمارسها غرينوي البطل، كما أذكر اسمه، ومن داخلها أراد الحصول على عطر الجسد.
قصة جيدة، وفكرة جيدة جدا، واجتهاد كتابي كبير، وفي ترجمتها العربية التي قرأتها بها، وكنت حصلت عليها من معرض للكتاب أقيم في الدوحة بعد أن أرهقني الكثيرون بسؤال غدا روتينيا: هل قرأت رواية «العطر»؟
وحين أرد بأنني لم أقرأها، يلوي السائل حنكه، ويبتعد عني، موقنا بأنني لست مثقفا، ولست جديرا بأن أحمل لقب كاتب، ولم أقرأ رواية «العطر» بعد.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهر اسم البرازيلي باولو كويلهو بشدة، عبر نصه: «الخيميائي»، ثم تبعته نصوص أخرى مثل: «الجبل الأصفر»، و»حاج كومبو استيلا»، وبعدها «فيرونيكا تقرر أن تموت»، وغيرها من النصوص، المختلف في شأنها، ففي حين يقسم كثير من القراء، أنها نصوص مبدعة، تجد آخرين، يتحدثون عن عاديتها، وأنها ليست خارقة على الإطلاق.
كنت أجلس في صالة إحدى الصحف التي تعاملت معها في بداية تعرفي إلى كتابة المقال الثقافي، حين همس أحد الحاضرين في أذني: لماذا لم تكتب عن رواية الخيميائي؟ تلك الرائعة العالمية. قلت له ببساطة شديدة، وبلا تردد أنني لم أقرأها، في الحقيقة لم أسمع بها إلا مؤخرا، ولا أجد لدي فضول لقراءتها. أظن أن الرجل صدم، لأنه طالعني باستغراب شديد، وقال هذه المرة بصوت سمعه الحاضرين كلهم: لم تقرأ الخيميائي للعظيم باولو كويلهو، ولا تريد قراءتها؟، كيف تقنعني أنك كاتب روائي؟
أحسست بالحرج، وبالغضب أيضا، واشتبكت مع الرجل في جدال متشعب، شارك فيه الحاضرون كلهم وكان ثمة ضغط عنيف في تلك الأمسية من الجميع بأنني لا بد أن اقرأ الخيميائي، لأتعرف على أسرار مهمة في الكتابة، ذلك الضغط الديكتاتوري الذي ذكرته، ولأنها كانت منتشرة أكثر من غيرها من النصوص الطغاة، فقد عثرت عليها في أول مكتبة، وظلت مغبرة في أحد الرفوف، في بيتي سنوات، قبل أن أنفض غبارها، وأقرأها ليس بمتعة ولكن للعلم بالشيء، وبدت لي موجهة لفئة عمرية أصغر، ولا أدري هل كنت محقا أم لا؟
«الأشياء تتداعى»، للنيجيري تشينيا تشيبي، من النصوص الطغاة التي ظهر طغيانها مبكرا، لكن للحقيقة كان طغيانا متحضرا، ورائعا، لأن النص ليس عظيما فقط، وإنما من النصوص التي تحفر في الذاكرات عميقا، وتبقى مشعلا مضيئا، ومعقلا من معاقل المعرفة بالثقافة الأفريقية والأساطير، وكثير من التراث الشعبي الشفاهي. لقد سمعت عن الأشياء تتداعى، وأنا طالب في مصر، نهاية الثمانينيات، كان كل من جلست معه في تلك الفترة يتحدث عن كتابين في الغالب: «يوليسيس» لجيمس جويس، و«الأشياء تتداعى» لتشيبي، وكان الوجود في مصر مساعدا للحصول على الكتب بسهولة، فاقتنيت الكتابين، قرأت الأشياء تتداعى بسرعة، ودخلت في طغيانها بأن أفرضها على أصدقائي الذين لا يعرفونها، بينما بقيت رواية جويس مشروع قراءة لزمن طويل، اقرأ منها صفحات عدة في كل فترة وأتركها، ولا أذكر إن كنت أكملتها أم لا؟ لقد كانت في الحقيقة نصا عظيما بلا شك، ومن النصوص الرائدة في الأدب، لكن دائما توجد تعقيدات في القراءة، قد لا تمنح الوقت والذهن الصافي، لقراءة كل نص عظيم كتب، وما حدث لرواية جويس معي، حدث أيضا في كتاب «البحث عن الزمن المفقود»، تلك الرواية الملحمية، لمارسيل بروست، التي استغرقت زمنا طويلا، حتى أكملتها، ولا أذكر أنها كانت من النصوص الطغاة، وأن هناك من فرضها عليّ، كتلك النصوص الأخرى.
وكما تصنع الشعوب طغاتها، فقد صنع غابرييل غارسيا ماركيز، نصا ديكتاتورا، هو نص: «الجميلات النائمات»، للياباني ياسوناري كواباتا، حين كتب له تقديما في الترجمة الإسبانية، وحين أعلن عن تأثره به، وأذكر أن مقدمة ماركيز، كانت تذكر مباشرة حين يفرض أحدهم ذلك الكتاب: هل قرأت «الجميلات النائمات» الرواية التي قدم لها ماركيز؟
وحقيقة لم أكن مقتنعا بأن يقدم كاتب، آخر، ومن النادر أن أقرأ المقدمات، لكن لأن ماركيز نفسه كان ديكتاتورا أدبيا، بنصوصه طبعا، فقد كان لا بد من قراءة مقدمته، والاستسلام لجميلات كواباتا النائمات.
كثير من النصوص، التي تمارس مثل هذا التعسف، لكن في النهاية، هو في صالح القراءة وليس ضدها، وربما يكون دليلا على أن القراءة ما زالت مسلحة، وتصلح لتحظى بمقاعد متقدمة في مجال الثقافة.
...
روائي سوداني
منذ فترة قليلة، رحل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي عرفناه بنصه القديم: «اسم الوردة»، على الرغم من أنه كتب نصوصا أخرى، منها: «جزيرة اليوم السابق»، ونص ترجم للعربية مؤخرا، هو: مقبرة براغ، الذي كتبه مستوحيا التاريخ، كما يفعل دائما، وكل تلك النصوص تحقق نسبة قراءة عالية، اعتمادا على اسم الكاتب، وشهرته في كتابة الملاحم، لكن «اسم الوردة» كان شيئا آخر، مختلفا تماما، إنه واحد من النصوص الطغاة، أو النصوص التي يمارس القراء ديكتاتورية متعسفة من أجل قراءتها، تماما مثل نصوص أخرى، في تاريخ الكتابة، سأتعرض لها لاحقا.
أول مرة سمعت باسم الوردة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين زارني في بيتي، مثقف عربي، كان قرأ بداياتي، في الكتابة، ويبدو أن ما كتبته لم يرق له، واعتبرني بحاجة لنصح قوي وفعال، وكان هذا النصح، حين أخرج من حقيبته نسخة من كتاب: «اسم الوردة»، في ترجمته العربية، وضعها أمامي على الطاولة وهو يقول بغضب: أنت لم تقرأ «اسم الوردة»، ولو قرأتها لعرفت كيف تكتب، وقبل أن أمد يدي لأتصفح الكتاب، التقطه وأعاده لحقيبته، ثم ذهب، لكنه ترك لي في تلك الأمسية قرارا ديكتاتوريا واضحا، وهو أن أقرأ ذلك الكتاب الإيطالي. وكأنني سأعاقب بالسجن أو الجلد أو الطرد من حرفة الكتابة، إن لم أقرأه.
بعد ذلك ظللت أشهرا طويلة أبحث عن اسم الوردة، لم يكن موجودا في المكتبات، ورفض كل صديق يملكه أن يعيرني النسخة، وكنت أتمزق في الداخل حقيقة، وحين أجلس في مقهى برفقة أصدقاء مثقفين، أو أوجد في احتفالية ثقافية، أخاف أن يذكر اسم الوردة، ويعرف الناس أنني لم أقرأه، وفي أول زيارة قمت بها للقاهرة بعد ذلك، أسرعت إلى مكتبة مدبولي العظيمة، في ميدان طلعت حرب واقتنيت «اسم الوردة»، وقرأته مباشرة في اليوم نفسه، لأتحرر من كابوس ديكتاتوريته، وأجلس في المقاهي والمناسبات الثقافية، هادئا، أتحين فرصة أن يطرح أحدهم موضوع ذلك الكتاب، لأشارك في النقاش بمتعة.
لن أتحدث عن موضوع الكتاب، ولا عن انطباعي بعد أن قرأته في تلك الأيام، إن كان سلبيا أو إيجابيا، وإنما فقط أوردته، لأنه كان من تلك الكتب التي يضطر العالق في درب الكتابة، إلى قراءتها، بما تملكه من صلف وسطوة على الأذهان.
«رواية العطر»، لباتريك زوسكيند، الألماني الذي دخل بها قوائم الأعلى مبيعا، والأكثر انتشارا، وكتب بعدها نصوصا أخرى مثل «الحمامة»، لم ترتق لجمالها، كانت أيضا من النصوص الطغاة، التي مارس المثقفون في تلك الفترة، ضغوطا كثيرة على زملائهم، من أجل الحصول عليها وقراءتها، لقد كتب على الغلاف أنها قصة قاتل، وهذا من شأنه أن ينخفض بإيحاء النص كثيرا، فليس كل القراء يبحثون عن قصص القتل، وتلك القصص في مجملها لا تصبح أبدا في مصاف القراءة الراقية، لكنها في الحقيقة حين تقرأها، وقبل أن تصل إلى مرحلة القتل، تعثر على معرفة كبيرة، في صناعة العطور، تلك الحرفة التي كان يمارسها غرينوي البطل، كما أذكر اسمه، ومن داخلها أراد الحصول على عطر الجسد.
قصة جيدة، وفكرة جيدة جدا، واجتهاد كتابي كبير، وفي ترجمتها العربية التي قرأتها بها، وكنت حصلت عليها من معرض للكتاب أقيم في الدوحة بعد أن أرهقني الكثيرون بسؤال غدا روتينيا: هل قرأت رواية «العطر»؟
وحين أرد بأنني لم أقرأها، يلوي السائل حنكه، ويبتعد عني، موقنا بأنني لست مثقفا، ولست جديرا بأن أحمل لقب كاتب، ولم أقرأ رواية «العطر» بعد.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهر اسم البرازيلي باولو كويلهو بشدة، عبر نصه: «الخيميائي»، ثم تبعته نصوص أخرى مثل: «الجبل الأصفر»، و»حاج كومبو استيلا»، وبعدها «فيرونيكا تقرر أن تموت»، وغيرها من النصوص، المختلف في شأنها، ففي حين يقسم كثير من القراء، أنها نصوص مبدعة، تجد آخرين، يتحدثون عن عاديتها، وأنها ليست خارقة على الإطلاق.
كنت أجلس في صالة إحدى الصحف التي تعاملت معها في بداية تعرفي إلى كتابة المقال الثقافي، حين همس أحد الحاضرين في أذني: لماذا لم تكتب عن رواية الخيميائي؟ تلك الرائعة العالمية. قلت له ببساطة شديدة، وبلا تردد أنني لم أقرأها، في الحقيقة لم أسمع بها إلا مؤخرا، ولا أجد لدي فضول لقراءتها. أظن أن الرجل صدم، لأنه طالعني باستغراب شديد، وقال هذه المرة بصوت سمعه الحاضرين كلهم: لم تقرأ الخيميائي للعظيم باولو كويلهو، ولا تريد قراءتها؟، كيف تقنعني أنك كاتب روائي؟
أحسست بالحرج، وبالغضب أيضا، واشتبكت مع الرجل في جدال متشعب، شارك فيه الحاضرون كلهم وكان ثمة ضغط عنيف في تلك الأمسية من الجميع بأنني لا بد أن اقرأ الخيميائي، لأتعرف على أسرار مهمة في الكتابة، ذلك الضغط الديكتاتوري الذي ذكرته، ولأنها كانت منتشرة أكثر من غيرها من النصوص الطغاة، فقد عثرت عليها في أول مكتبة، وظلت مغبرة في أحد الرفوف، في بيتي سنوات، قبل أن أنفض غبارها، وأقرأها ليس بمتعة ولكن للعلم بالشيء، وبدت لي موجهة لفئة عمرية أصغر، ولا أدري هل كنت محقا أم لا؟
«الأشياء تتداعى»، للنيجيري تشينيا تشيبي، من النصوص الطغاة التي ظهر طغيانها مبكرا، لكن للحقيقة كان طغيانا متحضرا، ورائعا، لأن النص ليس عظيما فقط، وإنما من النصوص التي تحفر في الذاكرات عميقا، وتبقى مشعلا مضيئا، ومعقلا من معاقل المعرفة بالثقافة الأفريقية والأساطير، وكثير من التراث الشعبي الشفاهي. لقد سمعت عن الأشياء تتداعى، وأنا طالب في مصر، نهاية الثمانينيات، كان كل من جلست معه في تلك الفترة يتحدث عن كتابين في الغالب: «يوليسيس» لجيمس جويس، و«الأشياء تتداعى» لتشيبي، وكان الوجود في مصر مساعدا للحصول على الكتب بسهولة، فاقتنيت الكتابين، قرأت الأشياء تتداعى بسرعة، ودخلت في طغيانها بأن أفرضها على أصدقائي الذين لا يعرفونها، بينما بقيت رواية جويس مشروع قراءة لزمن طويل، اقرأ منها صفحات عدة في كل فترة وأتركها، ولا أذكر إن كنت أكملتها أم لا؟ لقد كانت في الحقيقة نصا عظيما بلا شك، ومن النصوص الرائدة في الأدب، لكن دائما توجد تعقيدات في القراءة، قد لا تمنح الوقت والذهن الصافي، لقراءة كل نص عظيم كتب، وما حدث لرواية جويس معي، حدث أيضا في كتاب «البحث عن الزمن المفقود»، تلك الرواية الملحمية، لمارسيل بروست، التي استغرقت زمنا طويلا، حتى أكملتها، ولا أذكر أنها كانت من النصوص الطغاة، وأن هناك من فرضها عليّ، كتلك النصوص الأخرى.
وكما تصنع الشعوب طغاتها، فقد صنع غابرييل غارسيا ماركيز، نصا ديكتاتورا، هو نص: «الجميلات النائمات»، للياباني ياسوناري كواباتا، حين كتب له تقديما في الترجمة الإسبانية، وحين أعلن عن تأثره به، وأذكر أن مقدمة ماركيز، كانت تذكر مباشرة حين يفرض أحدهم ذلك الكتاب: هل قرأت «الجميلات النائمات» الرواية التي قدم لها ماركيز؟
وحقيقة لم أكن مقتنعا بأن يقدم كاتب، آخر، ومن النادر أن أقرأ المقدمات، لكن لأن ماركيز نفسه كان ديكتاتورا أدبيا، بنصوصه طبعا، فقد كان لا بد من قراءة مقدمته، والاستسلام لجميلات كواباتا النائمات.
كثير من النصوص، التي تمارس مثل هذا التعسف، لكن في النهاية، هو في صالح القراءة وليس ضدها، وربما يكون دليلا على أن القراءة ما زالت مسلحة، وتصلح لتحظى بمقاعد متقدمة في مجال الثقافة.
...
روائي سوداني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.