وزير الكهرباء يبحث مستجدات تنفيذ مشروعات «مصدر» الإماراتية في مصر    مصر تشجب إعلان حالة المجاعة في قطاع غزة    الأهلي بطلا لكأس السوبر السعودي على حساب النصر    استئناف الإسكندرية تفتح تحقيقات موسعة بصدد حادث الغرق الجماعي في شاطىء أبو تلات    توجيهات حكومية بسرعة إنهاء أعمال تطوير المواقع الأثرية بالإسكندرية    محافظ الغربية يفتتح قسم جراحة المخ والأعصاب بمستشفى كفر الزيات العام    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    بحوث الصحراء.. دعم فني وإرشادي لمزارعي التجمعات الزراعية في سيناء    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    مؤتمر ألونسو: هذا سبب تخطيط ملعب التدريبات.. وموقفنا من الانتقالات    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    قيادي بمستقبل وطن: تحركات الإخوان ضد السفارات المصرية محاولة بائسة ومشبوهة    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    وزارة الصحة تقدم 314 ألف خدمة طبية مجانية عبر 143 قافلة بجميع المحافظات    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    وزيرا الإنتاج الحربي والبترول يبحثان تعزيز التعاون لتنفيذ مشروعات قومية مشتركة    منال عوض تناقش استعدادات استضافة مؤتمر الأطراف ال24 لحماية بيئة البحر الأبيض المتوسط من التلوث    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    ماذا ينتظر كهربا حال إتمام انتقاله لصفوف القادسية الكويتي؟    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    الداخلية تكشف ملابسات اعتداء "سايس" على قائد دراجة نارية بالقاهرة    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    إزالة مزرعة سمكية مخالفة بمركز الحسينية في الشرقية    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النصوص الطغاة
نشر في صوت البلد يوم 23 - 03 - 2016

منذ فترة قليلة، رحل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي عرفناه بنصه القديم: «اسم الوردة»، على الرغم من أنه كتب نصوصا أخرى، منها: «جزيرة اليوم السابق»، ونص ترجم للعربية مؤخرا، هو: مقبرة براغ، الذي كتبه مستوحيا التاريخ، كما يفعل دائما، وكل تلك النصوص تحقق نسبة قراءة عالية، اعتمادا على اسم الكاتب، وشهرته في كتابة الملاحم، لكن «اسم الوردة» كان شيئا آخر، مختلفا تماما، إنه واحد من النصوص الطغاة، أو النصوص التي يمارس القراء ديكتاتورية متعسفة من أجل قراءتها، تماما مثل نصوص أخرى، في تاريخ الكتابة، سأتعرض لها لاحقا.
أول مرة سمعت باسم الوردة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين زارني في بيتي، مثقف عربي، كان قرأ بداياتي، في الكتابة، ويبدو أن ما كتبته لم يرق له، واعتبرني بحاجة لنصح قوي وفعال، وكان هذا النصح، حين أخرج من حقيبته نسخة من كتاب: «اسم الوردة»، في ترجمته العربية، وضعها أمامي على الطاولة وهو يقول بغضب: أنت لم تقرأ «اسم الوردة»، ولو قرأتها لعرفت كيف تكتب، وقبل أن أمد يدي لأتصفح الكتاب، التقطه وأعاده لحقيبته، ثم ذهب، لكنه ترك لي في تلك الأمسية قرارا ديكتاتوريا واضحا، وهو أن أقرأ ذلك الكتاب الإيطالي. وكأنني سأعاقب بالسجن أو الجلد أو الطرد من حرفة الكتابة، إن لم أقرأه.
بعد ذلك ظللت أشهرا طويلة أبحث عن اسم الوردة، لم يكن موجودا في المكتبات، ورفض كل صديق يملكه أن يعيرني النسخة، وكنت أتمزق في الداخل حقيقة، وحين أجلس في مقهى برفقة أصدقاء مثقفين، أو أوجد في احتفالية ثقافية، أخاف أن يذكر اسم الوردة، ويعرف الناس أنني لم أقرأه، وفي أول زيارة قمت بها للقاهرة بعد ذلك، أسرعت إلى مكتبة مدبولي العظيمة، في ميدان طلعت حرب واقتنيت «اسم الوردة»، وقرأته مباشرة في اليوم نفسه، لأتحرر من كابوس ديكتاتوريته، وأجلس في المقاهي والمناسبات الثقافية، هادئا، أتحين فرصة أن يطرح أحدهم موضوع ذلك الكتاب، لأشارك في النقاش بمتعة.
لن أتحدث عن موضوع الكتاب، ولا عن انطباعي بعد أن قرأته في تلك الأيام، إن كان سلبيا أو إيجابيا، وإنما فقط أوردته، لأنه كان من تلك الكتب التي يضطر العالق في درب الكتابة، إلى قراءتها، بما تملكه من صلف وسطوة على الأذهان.
«رواية العطر»، لباتريك زوسكيند، الألماني الذي دخل بها قوائم الأعلى مبيعا، والأكثر انتشارا، وكتب بعدها نصوصا أخرى مثل «الحمامة»، لم ترتق لجمالها، كانت أيضا من النصوص الطغاة، التي مارس المثقفون في تلك الفترة، ضغوطا كثيرة على زملائهم، من أجل الحصول عليها وقراءتها، لقد كتب على الغلاف أنها قصة قاتل، وهذا من شأنه أن ينخفض بإيحاء النص كثيرا، فليس كل القراء يبحثون عن قصص القتل، وتلك القصص في مجملها لا تصبح أبدا في مصاف القراءة الراقية، لكنها في الحقيقة حين تقرأها، وقبل أن تصل إلى مرحلة القتل، تعثر على معرفة كبيرة، في صناعة العطور، تلك الحرفة التي كان يمارسها غرينوي البطل، كما أذكر اسمه، ومن داخلها أراد الحصول على عطر الجسد.
قصة جيدة، وفكرة جيدة جدا، واجتهاد كتابي كبير، وفي ترجمتها العربية التي قرأتها بها، وكنت حصلت عليها من معرض للكتاب أقيم في الدوحة بعد أن أرهقني الكثيرون بسؤال غدا روتينيا: هل قرأت رواية «العطر»؟
وحين أرد بأنني لم أقرأها، يلوي السائل حنكه، ويبتعد عني، موقنا بأنني لست مثقفا، ولست جديرا بأن أحمل لقب كاتب، ولم أقرأ رواية «العطر» بعد.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهر اسم البرازيلي باولو كويلهو بشدة، عبر نصه: «الخيميائي»، ثم تبعته نصوص أخرى مثل: «الجبل الأصفر»، و»حاج كومبو استيلا»، وبعدها «فيرونيكا تقرر أن تموت»، وغيرها من النصوص، المختلف في شأنها، ففي حين يقسم كثير من القراء، أنها نصوص مبدعة، تجد آخرين، يتحدثون عن عاديتها، وأنها ليست خارقة على الإطلاق.
كنت أجلس في صالة إحدى الصحف التي تعاملت معها في بداية تعرفي إلى كتابة المقال الثقافي، حين همس أحد الحاضرين في أذني: لماذا لم تكتب عن رواية الخيميائي؟ تلك الرائعة العالمية. قلت له ببساطة شديدة، وبلا تردد أنني لم أقرأها، في الحقيقة لم أسمع بها إلا مؤخرا، ولا أجد لدي فضول لقراءتها. أظن أن الرجل صدم، لأنه طالعني باستغراب شديد، وقال هذه المرة بصوت سمعه الحاضرين كلهم: لم تقرأ الخيميائي للعظيم باولو كويلهو، ولا تريد قراءتها؟، كيف تقنعني أنك كاتب روائي؟
أحسست بالحرج، وبالغضب أيضا، واشتبكت مع الرجل في جدال متشعب، شارك فيه الحاضرون كلهم وكان ثمة ضغط عنيف في تلك الأمسية من الجميع بأنني لا بد أن اقرأ الخيميائي، لأتعرف على أسرار مهمة في الكتابة، ذلك الضغط الديكتاتوري الذي ذكرته، ولأنها كانت منتشرة أكثر من غيرها من النصوص الطغاة، فقد عثرت عليها في أول مكتبة، وظلت مغبرة في أحد الرفوف، في بيتي سنوات، قبل أن أنفض غبارها، وأقرأها ليس بمتعة ولكن للعلم بالشيء، وبدت لي موجهة لفئة عمرية أصغر، ولا أدري هل كنت محقا أم لا؟
«الأشياء تتداعى»، للنيجيري تشينيا تشيبي، من النصوص الطغاة التي ظهر طغيانها مبكرا، لكن للحقيقة كان طغيانا متحضرا، ورائعا، لأن النص ليس عظيما فقط، وإنما من النصوص التي تحفر في الذاكرات عميقا، وتبقى مشعلا مضيئا، ومعقلا من معاقل المعرفة بالثقافة الأفريقية والأساطير، وكثير من التراث الشعبي الشفاهي. لقد سمعت عن الأشياء تتداعى، وأنا طالب في مصر، نهاية الثمانينيات، كان كل من جلست معه في تلك الفترة يتحدث عن كتابين في الغالب: «يوليسيس» لجيمس جويس، و«الأشياء تتداعى» لتشيبي، وكان الوجود في مصر مساعدا للحصول على الكتب بسهولة، فاقتنيت الكتابين، قرأت الأشياء تتداعى بسرعة، ودخلت في طغيانها بأن أفرضها على أصدقائي الذين لا يعرفونها، بينما بقيت رواية جويس مشروع قراءة لزمن طويل، اقرأ منها صفحات عدة في كل فترة وأتركها، ولا أذكر إن كنت أكملتها أم لا؟ لقد كانت في الحقيقة نصا عظيما بلا شك، ومن النصوص الرائدة في الأدب، لكن دائما توجد تعقيدات في القراءة، قد لا تمنح الوقت والذهن الصافي، لقراءة كل نص عظيم كتب، وما حدث لرواية جويس معي، حدث أيضا في كتاب «البحث عن الزمن المفقود»، تلك الرواية الملحمية، لمارسيل بروست، التي استغرقت زمنا طويلا، حتى أكملتها، ولا أذكر أنها كانت من النصوص الطغاة، وأن هناك من فرضها عليّ، كتلك النصوص الأخرى.
وكما تصنع الشعوب طغاتها، فقد صنع غابرييل غارسيا ماركيز، نصا ديكتاتورا، هو نص: «الجميلات النائمات»، للياباني ياسوناري كواباتا، حين كتب له تقديما في الترجمة الإسبانية، وحين أعلن عن تأثره به، وأذكر أن مقدمة ماركيز، كانت تذكر مباشرة حين يفرض أحدهم ذلك الكتاب: هل قرأت «الجميلات النائمات» الرواية التي قدم لها ماركيز؟
وحقيقة لم أكن مقتنعا بأن يقدم كاتب، آخر، ومن النادر أن أقرأ المقدمات، لكن لأن ماركيز نفسه كان ديكتاتورا أدبيا، بنصوصه طبعا، فقد كان لا بد من قراءة مقدمته، والاستسلام لجميلات كواباتا النائمات.
كثير من النصوص، التي تمارس مثل هذا التعسف، لكن في النهاية، هو في صالح القراءة وليس ضدها، وربما يكون دليلا على أن القراءة ما زالت مسلحة، وتصلح لتحظى بمقاعد متقدمة في مجال الثقافة.
...
روائي سوداني
منذ فترة قليلة، رحل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي عرفناه بنصه القديم: «اسم الوردة»، على الرغم من أنه كتب نصوصا أخرى، منها: «جزيرة اليوم السابق»، ونص ترجم للعربية مؤخرا، هو: مقبرة براغ، الذي كتبه مستوحيا التاريخ، كما يفعل دائما، وكل تلك النصوص تحقق نسبة قراءة عالية، اعتمادا على اسم الكاتب، وشهرته في كتابة الملاحم، لكن «اسم الوردة» كان شيئا آخر، مختلفا تماما، إنه واحد من النصوص الطغاة، أو النصوص التي يمارس القراء ديكتاتورية متعسفة من أجل قراءتها، تماما مثل نصوص أخرى، في تاريخ الكتابة، سأتعرض لها لاحقا.
أول مرة سمعت باسم الوردة، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين زارني في بيتي، مثقف عربي، كان قرأ بداياتي، في الكتابة، ويبدو أن ما كتبته لم يرق له، واعتبرني بحاجة لنصح قوي وفعال، وكان هذا النصح، حين أخرج من حقيبته نسخة من كتاب: «اسم الوردة»، في ترجمته العربية، وضعها أمامي على الطاولة وهو يقول بغضب: أنت لم تقرأ «اسم الوردة»، ولو قرأتها لعرفت كيف تكتب، وقبل أن أمد يدي لأتصفح الكتاب، التقطه وأعاده لحقيبته، ثم ذهب، لكنه ترك لي في تلك الأمسية قرارا ديكتاتوريا واضحا، وهو أن أقرأ ذلك الكتاب الإيطالي. وكأنني سأعاقب بالسجن أو الجلد أو الطرد من حرفة الكتابة، إن لم أقرأه.
بعد ذلك ظللت أشهرا طويلة أبحث عن اسم الوردة، لم يكن موجودا في المكتبات، ورفض كل صديق يملكه أن يعيرني النسخة، وكنت أتمزق في الداخل حقيقة، وحين أجلس في مقهى برفقة أصدقاء مثقفين، أو أوجد في احتفالية ثقافية، أخاف أن يذكر اسم الوردة، ويعرف الناس أنني لم أقرأه، وفي أول زيارة قمت بها للقاهرة بعد ذلك، أسرعت إلى مكتبة مدبولي العظيمة، في ميدان طلعت حرب واقتنيت «اسم الوردة»، وقرأته مباشرة في اليوم نفسه، لأتحرر من كابوس ديكتاتوريته، وأجلس في المقاهي والمناسبات الثقافية، هادئا، أتحين فرصة أن يطرح أحدهم موضوع ذلك الكتاب، لأشارك في النقاش بمتعة.
لن أتحدث عن موضوع الكتاب، ولا عن انطباعي بعد أن قرأته في تلك الأيام، إن كان سلبيا أو إيجابيا، وإنما فقط أوردته، لأنه كان من تلك الكتب التي يضطر العالق في درب الكتابة، إلى قراءتها، بما تملكه من صلف وسطوة على الأذهان.
«رواية العطر»، لباتريك زوسكيند، الألماني الذي دخل بها قوائم الأعلى مبيعا، والأكثر انتشارا، وكتب بعدها نصوصا أخرى مثل «الحمامة»، لم ترتق لجمالها، كانت أيضا من النصوص الطغاة، التي مارس المثقفون في تلك الفترة، ضغوطا كثيرة على زملائهم، من أجل الحصول عليها وقراءتها، لقد كتب على الغلاف أنها قصة قاتل، وهذا من شأنه أن ينخفض بإيحاء النص كثيرا، فليس كل القراء يبحثون عن قصص القتل، وتلك القصص في مجملها لا تصبح أبدا في مصاف القراءة الراقية، لكنها في الحقيقة حين تقرأها، وقبل أن تصل إلى مرحلة القتل، تعثر على معرفة كبيرة، في صناعة العطور، تلك الحرفة التي كان يمارسها غرينوي البطل، كما أذكر اسمه، ومن داخلها أراد الحصول على عطر الجسد.
قصة جيدة، وفكرة جيدة جدا، واجتهاد كتابي كبير، وفي ترجمتها العربية التي قرأتها بها، وكنت حصلت عليها من معرض للكتاب أقيم في الدوحة بعد أن أرهقني الكثيرون بسؤال غدا روتينيا: هل قرأت رواية «العطر»؟
وحين أرد بأنني لم أقرأها، يلوي السائل حنكه، ويبتعد عني، موقنا بأنني لست مثقفا، ولست جديرا بأن أحمل لقب كاتب، ولم أقرأ رواية «العطر» بعد.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهر اسم البرازيلي باولو كويلهو بشدة، عبر نصه: «الخيميائي»، ثم تبعته نصوص أخرى مثل: «الجبل الأصفر»، و»حاج كومبو استيلا»، وبعدها «فيرونيكا تقرر أن تموت»، وغيرها من النصوص، المختلف في شأنها، ففي حين يقسم كثير من القراء، أنها نصوص مبدعة، تجد آخرين، يتحدثون عن عاديتها، وأنها ليست خارقة على الإطلاق.
كنت أجلس في صالة إحدى الصحف التي تعاملت معها في بداية تعرفي إلى كتابة المقال الثقافي، حين همس أحد الحاضرين في أذني: لماذا لم تكتب عن رواية الخيميائي؟ تلك الرائعة العالمية. قلت له ببساطة شديدة، وبلا تردد أنني لم أقرأها، في الحقيقة لم أسمع بها إلا مؤخرا، ولا أجد لدي فضول لقراءتها. أظن أن الرجل صدم، لأنه طالعني باستغراب شديد، وقال هذه المرة بصوت سمعه الحاضرين كلهم: لم تقرأ الخيميائي للعظيم باولو كويلهو، ولا تريد قراءتها؟، كيف تقنعني أنك كاتب روائي؟
أحسست بالحرج، وبالغضب أيضا، واشتبكت مع الرجل في جدال متشعب، شارك فيه الحاضرون كلهم وكان ثمة ضغط عنيف في تلك الأمسية من الجميع بأنني لا بد أن اقرأ الخيميائي، لأتعرف على أسرار مهمة في الكتابة، ذلك الضغط الديكتاتوري الذي ذكرته، ولأنها كانت منتشرة أكثر من غيرها من النصوص الطغاة، فقد عثرت عليها في أول مكتبة، وظلت مغبرة في أحد الرفوف، في بيتي سنوات، قبل أن أنفض غبارها، وأقرأها ليس بمتعة ولكن للعلم بالشيء، وبدت لي موجهة لفئة عمرية أصغر، ولا أدري هل كنت محقا أم لا؟
«الأشياء تتداعى»، للنيجيري تشينيا تشيبي، من النصوص الطغاة التي ظهر طغيانها مبكرا، لكن للحقيقة كان طغيانا متحضرا، ورائعا، لأن النص ليس عظيما فقط، وإنما من النصوص التي تحفر في الذاكرات عميقا، وتبقى مشعلا مضيئا، ومعقلا من معاقل المعرفة بالثقافة الأفريقية والأساطير، وكثير من التراث الشعبي الشفاهي. لقد سمعت عن الأشياء تتداعى، وأنا طالب في مصر، نهاية الثمانينيات، كان كل من جلست معه في تلك الفترة يتحدث عن كتابين في الغالب: «يوليسيس» لجيمس جويس، و«الأشياء تتداعى» لتشيبي، وكان الوجود في مصر مساعدا للحصول على الكتب بسهولة، فاقتنيت الكتابين، قرأت الأشياء تتداعى بسرعة، ودخلت في طغيانها بأن أفرضها على أصدقائي الذين لا يعرفونها، بينما بقيت رواية جويس مشروع قراءة لزمن طويل، اقرأ منها صفحات عدة في كل فترة وأتركها، ولا أذكر إن كنت أكملتها أم لا؟ لقد كانت في الحقيقة نصا عظيما بلا شك، ومن النصوص الرائدة في الأدب، لكن دائما توجد تعقيدات في القراءة، قد لا تمنح الوقت والذهن الصافي، لقراءة كل نص عظيم كتب، وما حدث لرواية جويس معي، حدث أيضا في كتاب «البحث عن الزمن المفقود»، تلك الرواية الملحمية، لمارسيل بروست، التي استغرقت زمنا طويلا، حتى أكملتها، ولا أذكر أنها كانت من النصوص الطغاة، وأن هناك من فرضها عليّ، كتلك النصوص الأخرى.
وكما تصنع الشعوب طغاتها، فقد صنع غابرييل غارسيا ماركيز، نصا ديكتاتورا، هو نص: «الجميلات النائمات»، للياباني ياسوناري كواباتا، حين كتب له تقديما في الترجمة الإسبانية، وحين أعلن عن تأثره به، وأذكر أن مقدمة ماركيز، كانت تذكر مباشرة حين يفرض أحدهم ذلك الكتاب: هل قرأت «الجميلات النائمات» الرواية التي قدم لها ماركيز؟
وحقيقة لم أكن مقتنعا بأن يقدم كاتب، آخر، ومن النادر أن أقرأ المقدمات، لكن لأن ماركيز نفسه كان ديكتاتورا أدبيا، بنصوصه طبعا، فقد كان لا بد من قراءة مقدمته، والاستسلام لجميلات كواباتا النائمات.
كثير من النصوص، التي تمارس مثل هذا التعسف، لكن في النهاية، هو في صالح القراءة وليس ضدها، وربما يكون دليلا على أن القراءة ما زالت مسلحة، وتصلح لتحظى بمقاعد متقدمة في مجال الثقافة.
...
روائي سوداني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.