بعد انهيار سعر الدولار.. الجنيه يحقق مكاسب جديدة اليوم    سعر كرتونه البيض اليوم الأربعاء 1اكتوبر 2025فى المنيا    ارتفاع توقع البقاء على قيد الحياة في مصر عام 2025    الإصدار السادس والأربعين لسندات التوريق يرفع إجمالي إصدارات شركة ثروة للتوريق إلى 35.3 مليار جنيه، بضمان محافظ متنوعة وتصنيفات ائتمانية متميزة    ميدو يفتح النار: فيريرا لازم يمشي .. أقل من الزمالك    تعرف على أسماء 11 عامل مصابي حادث انقلاب سيارة ربع نقل علي طريق المعصرة بلقاس في الدقهلية    بدء المدارس في تنفيذ أول تقييمات الفصل الدراسي الأول لصفوف النقل    ظهور فيروس اليد والفم والقدم (HFMD) بين طلاب مدرسة في الجيزة.. تفاصيل وإجراءات عاجلة لطمأنة الأهالي    في اليوم العالمي للمسنين.. أهم الإرشادات للتغذية السليمة وحماية صحة كبار السن    أرقام من مواجهة برشلونة وباريس قبل المواجهة الأوروبية    بالتزامن مع جلسة النواب لمناقشة قانون الإجراءات الجنائية.. تعرف على المواد التي اعترض عليها رئيس الجمهورية    بدء صرف معاشات شهر أكتوبر 2025 بالزيادة الجديدة    الإدارة العامة للمرور: ضبط (112) سائقًا تحت تأثير المخدرات خلال 24 ساعة    نقابة المهندسين: البدء في تنفيذ لائحة ممارسة المهنة الجديدة    خالد بيومي يهاجم اتحاد الكرة بعد سقوط شباب مصر أمام نيوزيلندا    فوز مصر ممثلة في هيئة الرعاية الصحية بالجائزة البلاتينية في المبادرة الذهبية فئة الرعاية المتمركزة حول المريض    تعزيز الشراكة الصحية بين مصر ولبنان على هامش القمة العالمية للصحة النفسية بالدوحة    الأخبار المتوقعة اليوم الأربعاء الموافق الأول من أكتوبر 2025    الاثنين أم الخميس؟.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للموظفين بعد قرار مجلس الوزراء    محمد كامل: أمانة العمال بالجبهة الوطنية صوت جديد للطبقة العاملة في الجيزة    بالصور.. البابا تواضروس الثاني يدشن كاتدرائية مارمرقس بدير المحرق في أسيوط    «الإحصاء»: 45.32 مليار دولار صادرات مصر خلال عام 2024    «مدمن حشيش».. السجن 3 سنوات ل"طفل المرور" بتهمة تعاطى المخدرات    إصابة 14 عاملًا في انقلاب سيارة ربع نقل على طريق الفيوم الصحراوي    أمن المنوفية يكثف جهوده لكشف غموض حادث مقتل سيدة داخل منزلها بالمنوفية    تعاون بين «بحوث الصحراء» و«الأكاديمية الصينية للعلوم» لدعم التنمية المستدامة    «الدفاع المدني بغزة»: إصابة 7 ضباط إنقاذ بقصف للاحتلال    كتابان من وزارة الخارجية بشأن زيارات رئيس الجمهورية وإنجازات الدبلوماسية المصرية    بث مباشر| انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب لدور الانعقاد العادي السادس    «وزير الصحة»: مصر تترجم التزامات الأمم المتحدة إلى إجراءات وطنية ملموسة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 1-10-2025 في محافظة قنا    عاجل| الدفاع المدني بغزة: الاحتلال استهدف طاقمنا بمدرسة الفلاح بحي الزيتون بشكل متعمد    ما حكم ظهور ابنة الزوجة دون حجاب أمام زوج أمها؟.. دار الإفتاء توضح    في بداية الشهر.. أسعار الفراخ اليوم تحلق عاليًا    روسيا تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي    مغامرة وحماس واستكشاف .. تعرف على أكثر 5 أبراج مفعمة بالشغف    طقس اليوم الأربعاء.. بداية محدودة لتقلبات جوية    وزير الخارجية يترأس اجتماع مجلس إدارة الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية    مع اقترابه من سواحل غزة.. رفع حالة التأهب ب"أسطول الصمود"    الحوثيون: استهداف سفينة بصاروخ مجنح في خليج عدن    بالأسماء.. إصابة 5 أشخاص إثر اصطدام سيارتين ملاكى بصحراوى البحيرة    كرة يد - موعد مباراة الأهلي ضد ماجديبورج على برونزية كأس العالم للأندية    ماجد الكدواني وغادة عادل وحميد الشاعري في عرض "فيها إيه يعني"    انهيار "الروصيرص" السوداني خلال أيام، خبير يحذر من استمرار الفيضان العالي لسد النهضة    «محدش وقف جنبي.. وخدت 6000 صوت بدراعي».. رد غاضب من مجدي عبدالغني بسبب مقولة ولاد الأهلي    أيمن منصور: الزمالك قدم شوطا جيدا أمام الأهلي والخسارة محزنة بعد التقدم    اعرف مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 1-10-2025 في بني سويف    المحكمة الدولية تطلع على حيثيات بيراميدز في قضية سحب الدوري من الأهلي    موعد معرض القاهرة الدولي للكتاب 2026.. انطلاق الدورة ال57 بمشاركة واسعة    د.حماد عبدالله يكتب: الإدارة الإقتصادية فى المحروسة (1) !!    محمد منير: الأغنية زي الصيد.. لازم أبقى صياد ماهر عشان أوصل للناس    محمد منير: «خايف من المستقبل.. ومهموم بأن تعيش مصر في أمان وسلام»    ماذا يحدث داخل الزمالك بعد القمة؟.. تمرد اللاعبين ومستقبل فيريرا    ضياء رشوان: نتنياهو سيحاول الترويج بأن خطة ترامب انتصار له    ضياء رشوان: أي مبادرة إنسانية في غزة يجب قراءتها سياسيًا وحق العودة جوهر القضية الفلسطينية    باسم يوسف يعود إلى الشاشة المصرية عبر برنامج "كلمة أخيرة" على ON    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فينوس خوري غاتا.. شاعرة تدجّن الموت
نشر في صوت البلد يوم 07 - 03 - 2016

لم يفاجئنا دخول الشاعرة اللبنانية فينوس خوري غاتا، بعد الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، سلسة «شعر» العريقة التي تحتفل دار «غاليمار» الباريسية حالياً بمرور خمسين عاماً على تأسيسها. فمثل اللعبي، تمكنت فينوس منذ فترة طويلة من فرض نفسها داخل المحيط الشعري الفرنسي بقيمة أعمالها الشعرية الغزيرة وفرادة صوتها.
الأنطولوجيا التي صدرت لها حديثاً تحت عنوان «كانت الكلمات ذئاباً» تتضمن مختارات من مجموعاتها الشعرية الأربع الأخيرة: «أيّ ليلٍ بين الليالي» (2004)، «المعتَّمون» (2009)، «إلى أين تذهب الأشجار؟» (2011) و»كتاب التوسّلات» (2015)، وبالتالي تمنحنا فرصة عبور السنوات العشر الأخيرة من إنتاجها الشعري. عبور مؤلم لليلٍ أسوّد لا ينتهي، ولا تقوى على عتمته سوى كلمات الشاعرة التي تحضر بإشراقاتٍ مذهلة وإيقاعاتٍ محمومة مثل رقصة أموات.
وفعلاً، لطالما استعادت فينوس في نصوصها الشعرية والروائية أصوات أشخاص صمتوا نهائياً ولم يتبق منهم سوى ذكريات حية فيها. أصوات صديقة أو حبيبة ما برحت الشاعرة تناديها وتحاورها من خلف حجاب الموت. في مجموعة « أيّ ليل بين الليالي»، تعود إلى منزل طفولتها المحاصَر بالشوك، إلى أمّها المتوفّية، إلى أبناء وطنها المطرودين من ديارهم والذين نراهم يعبرون نهراً، يتكدّسون تحت سقوفٍ من صفيح، يحفرون خنادق في الشوارع والمنازل، ويتحوّلون إلى أعداء لبعضهم بعضاً.
في قبرها، تحصي الأم خطوات الغزاة، تعبر بلاداً تشتعل فيها النيران والكراهية، تقتلع الأعشاب المتمرّدة، قبل أن تستقر تحت شجرة التوت في قريتها حيث يكسو الثلج كل شيء. قرية غريبة الأطوار يتعايش فيها التطيُّر مع التديّن تحت ضجيج أجراس الكنائس والشلالات. قرية تعانق الغيم بعلوّها الشاهق، ويسلك الأطفال فيها درب التبانة للذهاب إلى المدرسة، بينما تضطلع الريح بتعليم الأمّيين القراءة. أما المرايا فأمكنة عبور بين حياةٍ وموت.
باختصار، حكايات خارقة ومشاهد سوريالية تتحوّل تحت أنظارنا إلى مُعاش بسحر ذاكرة ومخيّلة الشاعرة التي تبدو في هذه المجموعة منحنيةً نحو فراغ بئرٍ لا قعر له، مصغيةً لليلٍ يتصاعد حولها، هو ليلها وليل الآخرين، مصغيةً حتى الانبعاث، ملتفتةً إلى مملكة صفحتها المحاصرة بالكلمات والصراخ: «صرخاتنا تلحق بي لاهثةً/ لا نفع في الانتقال إلى بلدٍ أو مدينة أخرى/ مصطفّين خلف النوافذ يتابع جيراننا الأموات إطفاء الحريق/ بينما النار الحقيقية في أفواهنا».
مجموعة «المعتَّمون» أهدتها فينوس إلى الشاعر الفرنسي الراحل كلود إستيبان، وتشكّل جواباً على قصيدته «أنا الميّت». في القسم الأول الذي يحمل عنوان «رأفة الحجارة»، تتحدث الشاعرة عن ولادة الكلمات، حين كانت الريح وحدها تسكن كوكبنا، عن لغةٍ كانت مجرّد خطٍّ مستقيم ومخصَّص للعصافير، ترتدي الحروف الساكنة فيها ثياباً خشنة، وتحضر حروف العلّة عاريةً.
في القسم الثاني بعنوان «تقول»، تروي فينوس قصة نساء قريتها، أولئك الأرامل اللواتي يحاورن الأشجار ويومئن للجبال، قبل أن تتوقف مجدداً في القسم الأخير عند قرية طفولتها الجاثمة على غيمة، بماعزها الذي يتجاوز عديده سكان القرية، بشلالاتها التي تصرخ في أذن الوادي، بنسّاكها الذين يقطنون المغاور، بقمرها الذي يشبه قربانة، وخصوصاً بالمعتَّمين فيها: «يقال إن المعتَّمين يسلكون في عودتهم قفا الطرقات/ ينقّلون الأشياء المألوفة/ يزحزحون الطاولات/ يكدّسون الكراسي/ يهزّون محتوى المرايا/ ثم يعبرون في صرخةٍ المنازل التي سكنوها وتلك التي تسكنهم».
نتقدّم داخل هذه المجموعة في حالة خدرٍ، داخل مكانٍ تمسك المرأة فيه بحقيقة كُشفت لها، وتبدو خاضعة، مستسلمة لأمرها، كما لو أن القدر يتلاعب بها، لكن من دون أن يتمكن من خداعها. مكانٌ يبدو الزمن فيه معلّقاً، في حالة انتظار، كما في حلم: «كان زمناً بلا ساعات جدران ولا موانئ/ كانت الساعات تتصلّب في الصحون/ وكنا نقيس النهار بواسطة عصا/ العصا نفسها التي كانت تدفع الصباح المعانِد إلى الأمام». مكانٌ يعجّ بأشباحٍ لا نعرف إن كانوا يسهرون على الأحياء أو يراقبون سلوكهم. أما الرجال فلا يحضرون إلا في مناخٍ من الخوف والقلق: «الرجل الذي يعود إلى داره عند المساء يسير على حطام صمتٍ/ لا ينتظر شيئاً من تلك التي يرفض الأموات تخصيبها».
في مجموعة «إلى أين تذهب الأشجار»، أرادت الشاعرة في البداية التحدّث عن غابات بلدها التي أحرقتها همجية الحروب، قبل أن يتحوّل هذا الموضوع إلى استعارة لمأساة طفولتها ولذلك الحريق الشامل الذي طاول الشجر والبشر على السواء في لبنان. وعلى هذه الأرضية المحروقة والمنكوبة تظهر شخصيات حميمة تكتسح بسرعة قصائد الديوان وتُلهِب خطابه الأسوَد أو تلطّفه، كتلك الأم الكلية الحضور التي «تحمل حزنها على كفّها» وتخيط لأطفالها «جيوباً كبيرة لاحتواء فزعهم». «أمٌّ من لا شيء/ تعبر السنوات بمريولها الذي فقد ألوانه/ ممسحةً بيدٍ/ وكرامتها باليد الأخرى».
تارةً ضعيفة وشفّافة، وتارةً صلبة مثل صخرة، تظهر أبداً كركيزة المنزل الأساسية: «راكعةً أمام الموقد/ كانت الأم تشتم اللهب حين يولّد غصنٌ شديد الخضرة شراراتٍ/ كان لديها حسابٌ تصفّيه مع البرد/ مع كليتيها/ أربعة أطفال معلّقون على وركيها/ أرضٌ تتقيّأ الوحل والغبار/ والمكنسة رفيقتها الوفية/ تركتها على حافة القبر».
ولا تختلف مجموعة فينوس الأخيرة، «كتاب التوسلات»، عن مجموعاتها السابقة، سواء في موضوعها أو في نبرتها. فالموت، موت رفيق دربها الأخير الذي فقدته حديثاً، يظلل القصيدة الأولى التي تحتل معظم صفحات المجموعة. قصيدة مكتوبة على شكل توسلات، ويعبرها شعور بالذنب تجاه هذا الفقيد الذي لم تعتنِ الشاعرة به طوال فترة علاقتهما لانشغالها بالكتابة وحصر اهتمامها بالكلمات.
أما القصيدة الثانية، «الأمهات والمتوسط»، فتشكل صدى للحرب الأهلية اللبنانية التي لعب فيها القناصة دوراً كبيراً، فحصدوا آلاف الأبرياء. قصيدة تستحضر ألم أولئك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن أو أبناءهن في عبث الحرب وضنّ القتلة عليهن بجثث ذويهم التي رميت في الآبار وعلى الأرصفة أو في البحر.
في القصيدة الأولى، تتقمص الشاعرة شخصية أورفيوس فتنزل إلى عالم الأموات للبحث عن الفقيد ومحاورته. وفي القصيدة الثانية، تنزلق تحت جلد المكلومات لقول ألمهن، مستعينةً من حين إلى آخر بعبارات سمعتها كثيراً على لسان نساء قريتها.
هو شعرٌ أسود إذاً، ذلك الذي تكتبه فينوس، شعرٌ يملي الموت نصوصه، لكنه لا يخلو من طرافة وألوان، لتمكُّن الشاعرة على مر السنين من تدجين هذا الموت بعدما طرق على بابها مراراً، ولتسييرها داخل نصها صوراً سورّيالية مبتكَرة وفعّالة، وصقلِها لغةً تحافظ على قرب مدهش من الأشياء. شعرٌ ملموس تحضر فيه الطبيعة بكل عناصرها وروائحها وألوانها وطقوس قاطنيها، وتجعل فينوس منه تجربةً مُعاشة. شعرٌ لا يسقط متنه في اللغة المحكية، على رغم جانبه المباشر ومفرداته البسيطة، كما لا ينجرف في اتجاه التجريد أو الميتافيزيقا أو التجريب، بل يبقى وفيّاً لما يعتمل داخل الشاعرة.
لم يفاجئنا دخول الشاعرة اللبنانية فينوس خوري غاتا، بعد الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، سلسة «شعر» العريقة التي تحتفل دار «غاليمار» الباريسية حالياً بمرور خمسين عاماً على تأسيسها. فمثل اللعبي، تمكنت فينوس منذ فترة طويلة من فرض نفسها داخل المحيط الشعري الفرنسي بقيمة أعمالها الشعرية الغزيرة وفرادة صوتها.
الأنطولوجيا التي صدرت لها حديثاً تحت عنوان «كانت الكلمات ذئاباً» تتضمن مختارات من مجموعاتها الشعرية الأربع الأخيرة: «أيّ ليلٍ بين الليالي» (2004)، «المعتَّمون» (2009)، «إلى أين تذهب الأشجار؟» (2011) و»كتاب التوسّلات» (2015)، وبالتالي تمنحنا فرصة عبور السنوات العشر الأخيرة من إنتاجها الشعري. عبور مؤلم لليلٍ أسوّد لا ينتهي، ولا تقوى على عتمته سوى كلمات الشاعرة التي تحضر بإشراقاتٍ مذهلة وإيقاعاتٍ محمومة مثل رقصة أموات.
وفعلاً، لطالما استعادت فينوس في نصوصها الشعرية والروائية أصوات أشخاص صمتوا نهائياً ولم يتبق منهم سوى ذكريات حية فيها. أصوات صديقة أو حبيبة ما برحت الشاعرة تناديها وتحاورها من خلف حجاب الموت. في مجموعة « أيّ ليل بين الليالي»، تعود إلى منزل طفولتها المحاصَر بالشوك، إلى أمّها المتوفّية، إلى أبناء وطنها المطرودين من ديارهم والذين نراهم يعبرون نهراً، يتكدّسون تحت سقوفٍ من صفيح، يحفرون خنادق في الشوارع والمنازل، ويتحوّلون إلى أعداء لبعضهم بعضاً.
في قبرها، تحصي الأم خطوات الغزاة، تعبر بلاداً تشتعل فيها النيران والكراهية، تقتلع الأعشاب المتمرّدة، قبل أن تستقر تحت شجرة التوت في قريتها حيث يكسو الثلج كل شيء. قرية غريبة الأطوار يتعايش فيها التطيُّر مع التديّن تحت ضجيج أجراس الكنائس والشلالات. قرية تعانق الغيم بعلوّها الشاهق، ويسلك الأطفال فيها درب التبانة للذهاب إلى المدرسة، بينما تضطلع الريح بتعليم الأمّيين القراءة. أما المرايا فأمكنة عبور بين حياةٍ وموت.
باختصار، حكايات خارقة ومشاهد سوريالية تتحوّل تحت أنظارنا إلى مُعاش بسحر ذاكرة ومخيّلة الشاعرة التي تبدو في هذه المجموعة منحنيةً نحو فراغ بئرٍ لا قعر له، مصغيةً لليلٍ يتصاعد حولها، هو ليلها وليل الآخرين، مصغيةً حتى الانبعاث، ملتفتةً إلى مملكة صفحتها المحاصرة بالكلمات والصراخ: «صرخاتنا تلحق بي لاهثةً/ لا نفع في الانتقال إلى بلدٍ أو مدينة أخرى/ مصطفّين خلف النوافذ يتابع جيراننا الأموات إطفاء الحريق/ بينما النار الحقيقية في أفواهنا».
مجموعة «المعتَّمون» أهدتها فينوس إلى الشاعر الفرنسي الراحل كلود إستيبان، وتشكّل جواباً على قصيدته «أنا الميّت». في القسم الأول الذي يحمل عنوان «رأفة الحجارة»، تتحدث الشاعرة عن ولادة الكلمات، حين كانت الريح وحدها تسكن كوكبنا، عن لغةٍ كانت مجرّد خطٍّ مستقيم ومخصَّص للعصافير، ترتدي الحروف الساكنة فيها ثياباً خشنة، وتحضر حروف العلّة عاريةً.
في القسم الثاني بعنوان «تقول»، تروي فينوس قصة نساء قريتها، أولئك الأرامل اللواتي يحاورن الأشجار ويومئن للجبال، قبل أن تتوقف مجدداً في القسم الأخير عند قرية طفولتها الجاثمة على غيمة، بماعزها الذي يتجاوز عديده سكان القرية، بشلالاتها التي تصرخ في أذن الوادي، بنسّاكها الذين يقطنون المغاور، بقمرها الذي يشبه قربانة، وخصوصاً بالمعتَّمين فيها: «يقال إن المعتَّمين يسلكون في عودتهم قفا الطرقات/ ينقّلون الأشياء المألوفة/ يزحزحون الطاولات/ يكدّسون الكراسي/ يهزّون محتوى المرايا/ ثم يعبرون في صرخةٍ المنازل التي سكنوها وتلك التي تسكنهم».
نتقدّم داخل هذه المجموعة في حالة خدرٍ، داخل مكانٍ تمسك المرأة فيه بحقيقة كُشفت لها، وتبدو خاضعة، مستسلمة لأمرها، كما لو أن القدر يتلاعب بها، لكن من دون أن يتمكن من خداعها. مكانٌ يبدو الزمن فيه معلّقاً، في حالة انتظار، كما في حلم: «كان زمناً بلا ساعات جدران ولا موانئ/ كانت الساعات تتصلّب في الصحون/ وكنا نقيس النهار بواسطة عصا/ العصا نفسها التي كانت تدفع الصباح المعانِد إلى الأمام». مكانٌ يعجّ بأشباحٍ لا نعرف إن كانوا يسهرون على الأحياء أو يراقبون سلوكهم. أما الرجال فلا يحضرون إلا في مناخٍ من الخوف والقلق: «الرجل الذي يعود إلى داره عند المساء يسير على حطام صمتٍ/ لا ينتظر شيئاً من تلك التي يرفض الأموات تخصيبها».
في مجموعة «إلى أين تذهب الأشجار»، أرادت الشاعرة في البداية التحدّث عن غابات بلدها التي أحرقتها همجية الحروب، قبل أن يتحوّل هذا الموضوع إلى استعارة لمأساة طفولتها ولذلك الحريق الشامل الذي طاول الشجر والبشر على السواء في لبنان. وعلى هذه الأرضية المحروقة والمنكوبة تظهر شخصيات حميمة تكتسح بسرعة قصائد الديوان وتُلهِب خطابه الأسوَد أو تلطّفه، كتلك الأم الكلية الحضور التي «تحمل حزنها على كفّها» وتخيط لأطفالها «جيوباً كبيرة لاحتواء فزعهم». «أمٌّ من لا شيء/ تعبر السنوات بمريولها الذي فقد ألوانه/ ممسحةً بيدٍ/ وكرامتها باليد الأخرى».
تارةً ضعيفة وشفّافة، وتارةً صلبة مثل صخرة، تظهر أبداً كركيزة المنزل الأساسية: «راكعةً أمام الموقد/ كانت الأم تشتم اللهب حين يولّد غصنٌ شديد الخضرة شراراتٍ/ كان لديها حسابٌ تصفّيه مع البرد/ مع كليتيها/ أربعة أطفال معلّقون على وركيها/ أرضٌ تتقيّأ الوحل والغبار/ والمكنسة رفيقتها الوفية/ تركتها على حافة القبر».
ولا تختلف مجموعة فينوس الأخيرة، «كتاب التوسلات»، عن مجموعاتها السابقة، سواء في موضوعها أو في نبرتها. فالموت، موت رفيق دربها الأخير الذي فقدته حديثاً، يظلل القصيدة الأولى التي تحتل معظم صفحات المجموعة. قصيدة مكتوبة على شكل توسلات، ويعبرها شعور بالذنب تجاه هذا الفقيد الذي لم تعتنِ الشاعرة به طوال فترة علاقتهما لانشغالها بالكتابة وحصر اهتمامها بالكلمات.
أما القصيدة الثانية، «الأمهات والمتوسط»، فتشكل صدى للحرب الأهلية اللبنانية التي لعب فيها القناصة دوراً كبيراً، فحصدوا آلاف الأبرياء. قصيدة تستحضر ألم أولئك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن أو أبناءهن في عبث الحرب وضنّ القتلة عليهن بجثث ذويهم التي رميت في الآبار وعلى الأرصفة أو في البحر.
في القصيدة الأولى، تتقمص الشاعرة شخصية أورفيوس فتنزل إلى عالم الأموات للبحث عن الفقيد ومحاورته. وفي القصيدة الثانية، تنزلق تحت جلد المكلومات لقول ألمهن، مستعينةً من حين إلى آخر بعبارات سمعتها كثيراً على لسان نساء قريتها.
هو شعرٌ أسود إذاً، ذلك الذي تكتبه فينوس، شعرٌ يملي الموت نصوصه، لكنه لا يخلو من طرافة وألوان، لتمكُّن الشاعرة على مر السنين من تدجين هذا الموت بعدما طرق على بابها مراراً، ولتسييرها داخل نصها صوراً سورّيالية مبتكَرة وفعّالة، وصقلِها لغةً تحافظ على قرب مدهش من الأشياء. شعرٌ ملموس تحضر فيه الطبيعة بكل عناصرها وروائحها وألوانها وطقوس قاطنيها، وتجعل فينوس منه تجربةً مُعاشة. شعرٌ لا يسقط متنه في اللغة المحكية، على رغم جانبه المباشر ومفرداته البسيطة، كما لا ينجرف في اتجاه التجريد أو الميتافيزيقا أو التجريب، بل يبقى وفيّاً لما يعتمل داخل الشاعرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.