متحدث الزمالك: شيكابالا أسطورة الزملكاوية.. وهناك لاعب يهاجمه في البرامج أكثر مما يلعب    نائب رئيس جامعة الزقازيق يتفقد سير الامتحانات بكلية التربية الرياضية بنات    وزير التعليم العالي يترأس اجتماع المجلس الأعلى للتعليم التكنولوجي    بدء تسليم وحدات " بيت الوطن " بمشروع جنة بدمياط الجديدة الأحد المقبل    بدء أعمال الجلسة العامة لمجلس النواب    توريد 340 ألف طن قمح لمراكز التجميع في المنيا منذ بدء الموسم    رئيس «خطة النواب»: تحويل الدعم العيني إلى نقدي يحتاج حوارًا واسعًا ودراسة جدوى    وزير الإسكان يتابع موقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي فيما يخص الاستخدام الآمن لمياه الصرف الصحي والصناعي المعالجة    تداول 15 ألف طن و736 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    أستاذ علاقات دولية: مصر دائما تعمل على وقف النزيف والمعاناة للشعب الفلسطيني    انتقادات أيرلندية وأمريكية لاذعة لنتنياهو.. «يستحق أن يحترق في الجحيم»    أضرار مادية كبيرة وإصابة شخص بقصف إسرائيلي على سوق مدينة بنت جبيل جنوب لبنان    كوريا الجنوبية: سول سترد بهدوء على سلسلة التحركات العدائية الأخيرة للشمال    أمر أميري في الكويت بتعيين الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصباح وليا للعهد    «إكسترا نيوز» تبرز تقرير «الوطن».. «تحذير من استمرار الأزمة في رفح الفلسطينية»    وزير الخارجية يتوجه إلى إسبانيا للتشاور حول مستجدات القضية الفلسطينية    حزب الله يشن هجوما جويا بسرب من المسيرات الانقضاضية على مقر كتيبة إسرائيلية في الجولان    محافظ مطروح يهنئ الإعلاميين بعيدهم ال90    بقاء الأسطورة.. الأنباء السارة تتوالى على جماهير ريال مدريد    الوديات تجهز الزمالك لعودة الدوري    عاجل بالأسماء.. شلبي يكشف رحيل 5 لاعبين من الأهلي    محامي الشيبي: عقوبة اتحاد الكرة استفزت موكلي.. وتم إخفاء قرار الانضباط    عاجل - الآن نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة كفر الشيخ 2024 الترم الثاني بالاسم ورقم الجلوس عبر بوابة الفجر.. اعرف نتيجتك دلوقتي حالا    للنطق بالحكم.. تأجيل محاكمة إنجي حمادة وكروان مشاكل إلى جلسة 22 يونيو    ضبط شخص بالقاهرة بحوزته عدد من الأسلحة والذخائر غير مرخصة    10 يونيو.. معارضة بطل مسلسل "حضرة المتهم أبي" على حكم حبسه    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبى جرائم الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبى    التحقيق في واقعة العثور على رضيع داخل كيس بلاستيك ببولاق الدكرور    الأربعاء.. ندوة لمناقشة رواية "صيد الذئاب" بنقابة الصحفيين    البابا تواضروس يستقبل قيادات الشركة المتحدة تزامنا مع عرض فيلم أم الدنيا في الكاتدرائية    ل برج الجوزاء والعقرب والسرطان.. من أكثرهم تعاسة في الزواج 2024؟    دعاء دخول مكة المكرمة.. اللهم أَمِّني من عذابك يوم تبعث عبادك    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر بل هو مستحب    قبل عيد الأضحى 2024.. أيهما أفضل الأضحية أم الصدقة؟ (الإفتاء توضح)    غرفة الرعاية الصحية باتحاد الصناعات: نتعاون مع القطاع الخاص لصياغة قانون المنشآت الجديدة    "صحة الإسماعيلية": بدء تشغيل قسم الحضانات بمستشفى حميات التل الكبير    تحرير 139 محضرا للمحلات المخالفة لقرار الغلق خلال 24 ساعة    الاستماع لأقوال عامل سقط من الطابق الرابع بعد تشاجره مع شخصين بأكتوبر    العليا للحج والعمرة: انتظام أعمال تفويج حجاج السياحة وتكاتف لإنجاح الموسم    مى عز الدين تطلب من جمهورها الدعاء لوالدتها بالشفاء العاجل    طريقة عمل الكيكة الباردة بدون فرن في خطوات سريعة.. «أفضل حل بالصيف»    ما هي محظورات الحج المتعلقة بالنساء والرجال؟.. أبرزها «ارتداء النقاب»    «الإفتاء» توضح حكم التصوير أثناء الحج والعمرة.. مشروط    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    وزير الري يؤكد عمق العلاقات المصرية التنزانية على الأصعدة كافة    إضافة 3 مواد جدد.. كيف سيتم تطوير المرحلة الإعدادية؟    «أوقاف شمال سيناء» تنظم ندوة «أسئلة مفتوحة عن مناسك الحج والعمرة» بالعريش    ورشة حكي «رحلة العائلة المقدسة» ومحطات الأنبياء في مصر بالمتحف القومي للحضارة.. الثلاثاء    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 2 يونيو 2024    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    «أبوريدة الوحيد اللي منزلش قدامه».. أحمد مجاهد يكشف موقفه من انتخابات اتحاد الكرة    بعد حديث «حجازي» عن ملامح تطوير الثانوية العامة الجديدة.. المميزات والعيوب؟    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    من شوارع هولندا.. أحمد حلمي يدعم القضية الفلسطينية على طريقته الخاصة (صور)    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واسيني الأعرج في حكايته مع «العربي الأخير»: القوة والنبوءة في زمن الديكتاتور
نشر في صوت البلد يوم 16 - 02 - 2016

حتى يكون الإنسان وفياً لفنه يجب أن يكون وفياً لعصره”
فان أوكنر
على الرغم من أبعاد فانتازية قد تُدخل «حكاية العربي الأخير» في المجرد المطلق, إلا أن الرواية بقيت محتفظة بإشارات تضمن لها تحركاً مقنعاً في إطار محددات مكانية وزمانية وإنسانية، يعرفها القارئ العربي جيداً؛ بل ويصبح قادراً وهو يرقب أناس آرابيا الضائعين في صحراء مترامية، أن يعيش مآلات خطيرة تهدد بفناء واندثار يبذل الروائي جهده كي يرفع مستوى وعي المتلقي بها، من دون تضليل عماده تفاؤل أبله وبطولات وهمية, أو حتى عويل لا ينتهي حول عبثية ما يجري, فالرواية تتوسل سرداً هو المفتاح للتفكير بقصة حياتنا، أو البحث عن ذاتنا العربية.
تتمحور الرواية حول «آدم» العالم النووي من أصول عربية، الذي يُقتاد فور نزوله من المطار في باريس إلى قلعة وسط الصحراء. وفي هذا المكان «القلعة» يمكث آدم ويعود لمزاولة أبحاثه العلمية في المجال النووي، الذي كان يمارسه في مختبره في بنسلفانيا. يحصل هذا لآدم في زمن تكشف فيه الرواية أن الآرابيين باتوا «يتقاتلون على الماء والكلأ وبقايا النخيل المحروق، لسبب تافه», وهو الزمن ذاته الممتلئ عنصرية وكراهية رآها آدم منذ وقعت عيناه عند مدخل القلعة على شعار «العربي الجيد هو العربي الميت».
نستطيع القول إن في هذه الرواية من الإشارات ما هو كفيل بالشهادة على تفاعل حي مع رواية جورج أورويل الشهيرة «1984». أبرزها ذلك العنوان الذي يتصدر الغلاف «العربي الأخير 2084» الذي يعقبه احتفال تبدأ به الرواية بمناسبة مرور قرن على ميلاد الأخ الأكبر «بيغ بروذر» الطاغية أو المجرم الذي تعلمنا الرواية أن «ليتل بروز» لا يعدو أن يكون حفيداً أو امتداداً له يقتديه في شعارات تم تثبيتها في المدخل الجنوبي للقلعة منها: «الحرب هي السلام. الحرية هي العبودية. الجهل قوة».
وإذ تحكي الرواية مجتمعاً غارقاً في التيه ولم تبق منه سوى ملامحه الأخيرة, فإنها تنهل من حقائق ومعلومات تقول لنا من خلالها كيف حصلت الأشياء، ولماذا في دورة لا تنفصل فيها نهايات الأشياء عن مقدماتها. وهو ما يواجهه الروائي بنجاح، حين تمكن من النهوض بركام الحقائق والتاريخ إلى آفاق التخييل المتزامن مع مؤثرات صوتية وصورية وحسية تدفعنا باتجاه الإنصات لنداءات داخلية عميقة.
تستحضر الرواية بطلها «آدم» في إطار صراع أخلاقي بامتياز ارتكز حول مشروعية صناعة قنبلة نووية مضى آدم فيها متأرجحاً في يقينه حولها بين مضي وعزوف. وهو ما تنجح الرواية في تقديمه عبر سلسلة من أفعال وحوارات متنامية غنية تستدعي لحظات زمنية متفاوتة بغرض إيضاح كل ما بدا إشكالياً أو حتى مبهماً. تأتي شخصية « ليتل بروز» تباعاً أنموذجاً لكل من آمن بالكبار وبالقوة، لدرجة تؤكد توليد خاصية زمن الديكتاتور من حيث هو زمن يتكرر ولا ينتهي كأنه أبدي مطلق. لذلك يظهر مؤمناً ببراغماتية أشبه ما تكون بزيت يسهل حركة الطاحونة. والروائي يظهره بمكون جسدي يعكس ما يريد أن يحكيه عن داخله, ومن هنا يحضر بجسد مختل في إطار نسب تشريحية قائمة على التهويل والمبالغة والسخرية، ضمن تشكلات بصرية قبيحة بمسالك كاريكاتيرية هدفها تحجيمه والسخرية منه, بل وتحرص على نزع قناعه عنه بوضعه تحت المجهر، بغرض الكشف عن تفاصيله التي غاب بعض منها عن الناس. وهو ما ينجح الأدب عادة فيه حين يُعمل المتخيل في إطار انتقام رمزي من شأنه تجريح الغالب بدلاً من تفخيمه. يحضر في الرواية أيضاً «الكوربو سيف/ الغراب» أنموذجا للإرهابي الذي ينضم إليه الضائعون من آرابيا. جعل من الإسلام واجهة لتحليل قتل الأبرياء. علما أن الرواية- رغم ما تظهره من عداوة بين الكوربو والمسؤولين في إميروبا- فإنها تحيل في أكثر من موضع إلى ما يمكن وصفه بأنه التقاء مصالح بين طرفين متناقضين في المشروع.
في أكثر من مشهد يصبح بإمكان القارئ استذكار حالة تكنولوجية لها انعكاساتها اللافتة على بنية الحدث الروائية, إذ لا عجب لو تحول الأدب – كما يقول شيفان سركاني- إلى واصف للصورة الملتصقة بالتواصل وأدواته الحديثة, وبذلك تغدو الثقافة الأدبية الجديدة هي المحاور الجدلي للتكنولوجيا الجديدة. لهذا حضرت في الرواية مشاهد لآلات تعرض صوراً يتحكم فيها البشر ابتداء, لتعود من بعد ذلك وتمارس سطوتها على البشر من جديد، بل وكنا نرى «بروز» مستفيداً من كل ما يمكن للتكنولوجيا أن تمنحه من تسهيلات لمراقبة البشر صغيرهم وكبيرهم في القلعة بكل ما فيهم عدا جوهر القلب الذي تعجز الآلة عن مراقبته.
الرواية عموماً تتحاشى نظرة حدية قاطعة تضع شخوصها الغربية في حزمة متجانسة؛ ففي مواضع بعينها يظهر الغربي كارهاً للعربي, وكل ما يعنيه منه محاولة الحصول على المواد الأولية واستغلاله بشكل أو بآخر. وفي هذا السياق يحضر «بروز» ليمثل الغربي العنصري الذي يرى في كل عربي إرهابياً حتى يثبت العكس. لكن الرواية في المقابل تظهر العديد من شخوص غربية محملة بجانب إنساني، أراه وقد حضر على نحو ملتبس بقصدية من الروائي نفسه، تفتح إمكانية أن يكون الغربي صديقاً قريباً من الروح، في وقت لا يمنع هذا خلافاً في الرؤية والتحاليل.
الأصل في الروائي أن لا ينزلق في لغة وقائعية حرفية, وكثيراً ما يكتسب النص قيمته من خلال مواقف أو محطات ارتبطت برغبة ملحة تنتاب مبدعه في التعبير عن نفسه بعلاقات رمزية أحياناً. ومن هنا تلفتنا في الرواية قصدية تضبط نحتاً للأسماء؛ «إميروبا، إيروشينا، روشيناريا»، أو اختيارا متعمدا لاسم آدم المحكوم بدافع التفكير بأن نقطة نهاية التاريخ تصبح كامنة في البداية, فظني أن آدم وفقاً لمسارات الرواية شأنه شأن آدم الأول حمل علامة إثمه حين تورط بشكل أو بآخر بعملية الموت والتلاشي التي أصابت إميروبا وأبادت أهلها. ومن هذا الباب نستطيع هنا أن نرصد ما يطلق عليه اسم حيوانات رامزة «Bestiary» نقلتنا من تصوير واقعي أليف إلى آخر عجائبي؛ فهناك أكثر من نوع حيواني يتداخل ويتشابك بعنف مع غيره لاعباً دور الوسيط بين القارئ وما يحيط به من عوالم؛ ما بين أسد يزأر بأنياب بارزة، إلى عقارب وثعابين «تقاتلت حتى شبعت موتا قبل أن تستقر نهائياً وتتآلف». ليبقى الأكثر أهمية بين هذه الحيوانات مجتمعة صورة «رماد» «الذئب الأول والأخير في السلالة، كما آدم العربي الأول والأخير الذي تموت سلالته تباعاً، فيصبح بإمكاننا القول إن رماد يحضر في حالات آدم المختلفة ليكون علامته الأكثر صدقاً في سجن إميروبا؛ فلكل حالة نفسية يعيشها آدم ما يمكن الوقوف على ما يناظرها لدى رماد.
على العموم – كما هو الشائع في روايات واسيني الأعرج- فإن الطبيعة تُسخر باقتدار لاستكناه علاقة مفترضة بينها وبين البشر, وهو ما تصادق عليه علاقة وشيجة بين طبيعة صحراوية وبشر يقطنونها بما ساعد على أن تتجاور الأحداث وعناصر مستنسخة من هذه الطبيعة. لذلك- وعلى سبيل المثال- اختلطت ألوان وجوه مقشرة حزينة في آرابيا بلون صحراء صفراء في مهب الريح, لتحضر في هذا كله عين السارد الواصفة المرافقة لآدم في تماهيه مع الطبيعة.
وإذ تتضافر مظاهر الطبيعة كلها في نهايات مأساوية مفجعة تضعنا مع حيوانات رامزة في مشهد بصري بامتياز أبطاله ذئاب وضباع تتعارك مخلفة وراءها الجثث عائمة هنا وهناك. وإذ يحصل هذا فإن الرواية لم تشأ أن تنغلق بعيداً عن ومضة نور أو شعاع شمس يلمع فجأة, واختارت حالة بينية أو حالة نوم بارد مع كورس جنائزي يقول عن آدم: «إنه حي، لكنه ينزف وبدأت أعضاؤه تتيبّس بسبب البرد والثلج. جيد أنه ما يزال يتنفس». لنخلص من هذا كله أن نهاية تماشت ونبوءة العنوان ما لبثت أن تراجعت قليلا لتضعه في دائرة الاحتمال أو الممكن, فرماد كما تخبرنا الحكاية يحدث معه «أن يندفن ويغيب نهائياً حتى يظن جميع من تعودوا عليه أنه مات.. لكنه سرعان ما يعود مالئاً المكان والآذان بنداءاته القاسية».
يبقى أن رواية حكاية العربي الأخير اقتربت كثيرا من كرسي الاعتراف الأول- وفقا لتعبير عبد الرحمن منيف- إن جلسنا فوقه وبدأنا بالكلام الصادق, فعندئذ نعرف من نكون، وماذا يجب علينا أن نفعل الآن وغداً.
حتى يكون الإنسان وفياً لفنه يجب أن يكون وفياً لعصره”
فان أوكنر
على الرغم من أبعاد فانتازية قد تُدخل «حكاية العربي الأخير» في المجرد المطلق, إلا أن الرواية بقيت محتفظة بإشارات تضمن لها تحركاً مقنعاً في إطار محددات مكانية وزمانية وإنسانية، يعرفها القارئ العربي جيداً؛ بل ويصبح قادراً وهو يرقب أناس آرابيا الضائعين في صحراء مترامية، أن يعيش مآلات خطيرة تهدد بفناء واندثار يبذل الروائي جهده كي يرفع مستوى وعي المتلقي بها، من دون تضليل عماده تفاؤل أبله وبطولات وهمية, أو حتى عويل لا ينتهي حول عبثية ما يجري, فالرواية تتوسل سرداً هو المفتاح للتفكير بقصة حياتنا، أو البحث عن ذاتنا العربية.
تتمحور الرواية حول «آدم» العالم النووي من أصول عربية، الذي يُقتاد فور نزوله من المطار في باريس إلى قلعة وسط الصحراء. وفي هذا المكان «القلعة» يمكث آدم ويعود لمزاولة أبحاثه العلمية في المجال النووي، الذي كان يمارسه في مختبره في بنسلفانيا. يحصل هذا لآدم في زمن تكشف فيه الرواية أن الآرابيين باتوا «يتقاتلون على الماء والكلأ وبقايا النخيل المحروق، لسبب تافه», وهو الزمن ذاته الممتلئ عنصرية وكراهية رآها آدم منذ وقعت عيناه عند مدخل القلعة على شعار «العربي الجيد هو العربي الميت».
نستطيع القول إن في هذه الرواية من الإشارات ما هو كفيل بالشهادة على تفاعل حي مع رواية جورج أورويل الشهيرة «1984». أبرزها ذلك العنوان الذي يتصدر الغلاف «العربي الأخير 2084» الذي يعقبه احتفال تبدأ به الرواية بمناسبة مرور قرن على ميلاد الأخ الأكبر «بيغ بروذر» الطاغية أو المجرم الذي تعلمنا الرواية أن «ليتل بروز» لا يعدو أن يكون حفيداً أو امتداداً له يقتديه في شعارات تم تثبيتها في المدخل الجنوبي للقلعة منها: «الحرب هي السلام. الحرية هي العبودية. الجهل قوة».
وإذ تحكي الرواية مجتمعاً غارقاً في التيه ولم تبق منه سوى ملامحه الأخيرة, فإنها تنهل من حقائق ومعلومات تقول لنا من خلالها كيف حصلت الأشياء، ولماذا في دورة لا تنفصل فيها نهايات الأشياء عن مقدماتها. وهو ما يواجهه الروائي بنجاح، حين تمكن من النهوض بركام الحقائق والتاريخ إلى آفاق التخييل المتزامن مع مؤثرات صوتية وصورية وحسية تدفعنا باتجاه الإنصات لنداءات داخلية عميقة.
تستحضر الرواية بطلها «آدم» في إطار صراع أخلاقي بامتياز ارتكز حول مشروعية صناعة قنبلة نووية مضى آدم فيها متأرجحاً في يقينه حولها بين مضي وعزوف. وهو ما تنجح الرواية في تقديمه عبر سلسلة من أفعال وحوارات متنامية غنية تستدعي لحظات زمنية متفاوتة بغرض إيضاح كل ما بدا إشكالياً أو حتى مبهماً. تأتي شخصية « ليتل بروز» تباعاً أنموذجاً لكل من آمن بالكبار وبالقوة، لدرجة تؤكد توليد خاصية زمن الديكتاتور من حيث هو زمن يتكرر ولا ينتهي كأنه أبدي مطلق. لذلك يظهر مؤمناً ببراغماتية أشبه ما تكون بزيت يسهل حركة الطاحونة. والروائي يظهره بمكون جسدي يعكس ما يريد أن يحكيه عن داخله, ومن هنا يحضر بجسد مختل في إطار نسب تشريحية قائمة على التهويل والمبالغة والسخرية، ضمن تشكلات بصرية قبيحة بمسالك كاريكاتيرية هدفها تحجيمه والسخرية منه, بل وتحرص على نزع قناعه عنه بوضعه تحت المجهر، بغرض الكشف عن تفاصيله التي غاب بعض منها عن الناس. وهو ما ينجح الأدب عادة فيه حين يُعمل المتخيل في إطار انتقام رمزي من شأنه تجريح الغالب بدلاً من تفخيمه. يحضر في الرواية أيضاً «الكوربو سيف/ الغراب» أنموذجا للإرهابي الذي ينضم إليه الضائعون من آرابيا. جعل من الإسلام واجهة لتحليل قتل الأبرياء. علما أن الرواية- رغم ما تظهره من عداوة بين الكوربو والمسؤولين في إميروبا- فإنها تحيل في أكثر من موضع إلى ما يمكن وصفه بأنه التقاء مصالح بين طرفين متناقضين في المشروع.
في أكثر من مشهد يصبح بإمكان القارئ استذكار حالة تكنولوجية لها انعكاساتها اللافتة على بنية الحدث الروائية, إذ لا عجب لو تحول الأدب – كما يقول شيفان سركاني- إلى واصف للصورة الملتصقة بالتواصل وأدواته الحديثة, وبذلك تغدو الثقافة الأدبية الجديدة هي المحاور الجدلي للتكنولوجيا الجديدة. لهذا حضرت في الرواية مشاهد لآلات تعرض صوراً يتحكم فيها البشر ابتداء, لتعود من بعد ذلك وتمارس سطوتها على البشر من جديد، بل وكنا نرى «بروز» مستفيداً من كل ما يمكن للتكنولوجيا أن تمنحه من تسهيلات لمراقبة البشر صغيرهم وكبيرهم في القلعة بكل ما فيهم عدا جوهر القلب الذي تعجز الآلة عن مراقبته.
الرواية عموماً تتحاشى نظرة حدية قاطعة تضع شخوصها الغربية في حزمة متجانسة؛ ففي مواضع بعينها يظهر الغربي كارهاً للعربي, وكل ما يعنيه منه محاولة الحصول على المواد الأولية واستغلاله بشكل أو بآخر. وفي هذا السياق يحضر «بروز» ليمثل الغربي العنصري الذي يرى في كل عربي إرهابياً حتى يثبت العكس. لكن الرواية في المقابل تظهر العديد من شخوص غربية محملة بجانب إنساني، أراه وقد حضر على نحو ملتبس بقصدية من الروائي نفسه، تفتح إمكانية أن يكون الغربي صديقاً قريباً من الروح، في وقت لا يمنع هذا خلافاً في الرؤية والتحاليل.
الأصل في الروائي أن لا ينزلق في لغة وقائعية حرفية, وكثيراً ما يكتسب النص قيمته من خلال مواقف أو محطات ارتبطت برغبة ملحة تنتاب مبدعه في التعبير عن نفسه بعلاقات رمزية أحياناً. ومن هنا تلفتنا في الرواية قصدية تضبط نحتاً للأسماء؛ «إميروبا، إيروشينا، روشيناريا»، أو اختيارا متعمدا لاسم آدم المحكوم بدافع التفكير بأن نقطة نهاية التاريخ تصبح كامنة في البداية, فظني أن آدم وفقاً لمسارات الرواية شأنه شأن آدم الأول حمل علامة إثمه حين تورط بشكل أو بآخر بعملية الموت والتلاشي التي أصابت إميروبا وأبادت أهلها. ومن هذا الباب نستطيع هنا أن نرصد ما يطلق عليه اسم حيوانات رامزة «Bestiary» نقلتنا من تصوير واقعي أليف إلى آخر عجائبي؛ فهناك أكثر من نوع حيواني يتداخل ويتشابك بعنف مع غيره لاعباً دور الوسيط بين القارئ وما يحيط به من عوالم؛ ما بين أسد يزأر بأنياب بارزة، إلى عقارب وثعابين «تقاتلت حتى شبعت موتا قبل أن تستقر نهائياً وتتآلف». ليبقى الأكثر أهمية بين هذه الحيوانات مجتمعة صورة «رماد» «الذئب الأول والأخير في السلالة، كما آدم العربي الأول والأخير الذي تموت سلالته تباعاً، فيصبح بإمكاننا القول إن رماد يحضر في حالات آدم المختلفة ليكون علامته الأكثر صدقاً في سجن إميروبا؛ فلكل حالة نفسية يعيشها آدم ما يمكن الوقوف على ما يناظرها لدى رماد.
على العموم – كما هو الشائع في روايات واسيني الأعرج- فإن الطبيعة تُسخر باقتدار لاستكناه علاقة مفترضة بينها وبين البشر, وهو ما تصادق عليه علاقة وشيجة بين طبيعة صحراوية وبشر يقطنونها بما ساعد على أن تتجاور الأحداث وعناصر مستنسخة من هذه الطبيعة. لذلك- وعلى سبيل المثال- اختلطت ألوان وجوه مقشرة حزينة في آرابيا بلون صحراء صفراء في مهب الريح, لتحضر في هذا كله عين السارد الواصفة المرافقة لآدم في تماهيه مع الطبيعة.
وإذ تتضافر مظاهر الطبيعة كلها في نهايات مأساوية مفجعة تضعنا مع حيوانات رامزة في مشهد بصري بامتياز أبطاله ذئاب وضباع تتعارك مخلفة وراءها الجثث عائمة هنا وهناك. وإذ يحصل هذا فإن الرواية لم تشأ أن تنغلق بعيداً عن ومضة نور أو شعاع شمس يلمع فجأة, واختارت حالة بينية أو حالة نوم بارد مع كورس جنائزي يقول عن آدم: «إنه حي، لكنه ينزف وبدأت أعضاؤه تتيبّس بسبب البرد والثلج. جيد أنه ما يزال يتنفس». لنخلص من هذا كله أن نهاية تماشت ونبوءة العنوان ما لبثت أن تراجعت قليلا لتضعه في دائرة الاحتمال أو الممكن, فرماد كما تخبرنا الحكاية يحدث معه «أن يندفن ويغيب نهائياً حتى يظن جميع من تعودوا عليه أنه مات.. لكنه سرعان ما يعود مالئاً المكان والآذان بنداءاته القاسية».
يبقى أن رواية حكاية العربي الأخير اقتربت كثيرا من كرسي الاعتراف الأول- وفقا لتعبير عبد الرحمن منيف- إن جلسنا فوقه وبدأنا بالكلام الصادق, فعندئذ نعرف من نكون، وماذا يجب علينا أن نفعل الآن وغداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.