وزير الشباب ورئيس جامعة حلوان يشهدان توقيع بروتوكول تعاون لدعم الاستثمار الرياضي    مدبولي يوجه بسرعة إعداد تصور متكامل لجذب أكبر مصنعي السيارات الكهربائية    بسبب سموتريش وبن غفير.. وزير الخارجية الإسرائيلي يستدعي السفيرة الهولندية    عمدة نيويورك: مسلحو هجوم مانهاتن كانوا يستهدفون مقر الرابطة الوطنية لكرة القدم الأمريكية لكنهم استقلوا مصعدا خطأ    وفد حماس المفاوض يغادر الدوحة إلى تركيا    برشلونة يصدر بيانا رسميا بخصوص جراحة شتيجن    أحمد الجفالي يعطل تعاقد الزمالك مع الصفقة الأجنبية.. الغندور يكشف    الإسكندرية.. البحث عن جثمان شاب غرق بشاطئ بليس بالعجمي    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    قطار يصطدم بالرصيف فى محطة مصر دون إصابات.. صور    دار الشروق تهنئ الكاتبة فاطمة المعدول بعد فوزها بجائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 2025    محمود سعد يكشف تفاصيل حالة أنغام: هتخرج من المستشفى خلال يومين    أنشطة فنية وثقافية وتربوية في المتحف القومي للحضارة ضمن برنامج التدريب الصيفي للأطفال والطلاب    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    مقتل وإصابة 52 سجينًا جراء هجوم جوي روسي على سجن أوكراني    ستروين تكشف النقاب عن C5 Aircross الكهربائية الجديدة.. شاهدها    سفيرة الاتحاد الأوروبى: مصر ركيزة الاستقرار الإقليمى وندعم جهودها لوقف حرب غزة    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    الكهرباء: تشغيل الكابل الثاني بمحطة جزيرة الدهب وتقدم في التغذية البديلة.. فيديو    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    مدير تعليم الفيوم يتابع إجراءات عمل اللجنة التنسيقية لمسابقة الوظائف الإشرافية    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    الأردن: الكارثة في غزة وصلت لوضع لا يمكن وصفه    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    نادية مصطفى ومنصور هندى في انتخابات التجديد النصفى لنقابة الموسيقيين    «الأعلى للثقافة» يُعلن الفائزين بجوائز الدولة التقديرية لعام 2025 (الأسماء)    أحمد التهامي يكشف كواليس العمل مع عادل إمام ويشاركنا رحلته الفنية|خاص    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    أمين الفتوى: الطهارة شرط أساسي لصحة الصلاة.. وهناك نجاسات مغلظة وأخرى مخففة ولكل منها أحكامه    كيف أعرف أن الله يحبني؟.. عالم أزهري يجيب    وزير الصحة يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الصحة وشركة روش مصر لتطوير رعاية مرضى التصلب المتعدد    ماء المخلل.. هل هو مفيد؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    تحرير (144) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    المياه أغرقت الشوارع.. كسر في خط مياه رئيسي بالدقهلية    هنا قرية برخيل فى سوهاج.. حقيقة إشعال"الجن" النيران بالأحواش والمنازل ونفوق الحيوانات.. الأزهر يرسل وفدا لزيارة وتوعية الأهالى: الدين لا يقبل بتفسير النوازل بالخرافات والدجل.. والمحافظ يوجه بصرف التعويضات.. صور    «التعليم» تعلن ضوابط صرف الكتب المدرسية للمدارس الخاصة والدولية 2025/2026    بايرن ميونخ يجدد عقد لاعب الفريق لمدة موسم    الداخلية تكشف ملابسات مقطع فيديو الاعتداء على بائع متجول في الجيزة    بالصور.. اندلاع حريق بمخلفات الأشجار على طريق البراجيل    «أحط فلوسي في البنك ولا لأ؟».. الفوائد تشعل الجدل بين حلال وحرام والأزهر يحسم    ريال مدريد يعلن انتقال لاعبه إلى خيتافي    حقيقة مفاوضات النصر مع كوكوريلا    بمشاركة وزير السياحة.. البابا تواضروس يفتتح معرض لوجوس للمؤسسات الخدمية والثقافية    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    مجمع إعلام القليوبية يطلق أولى فعاليات الحملة الإعلامية «صوتك فارق»    انطلاق تصوير فيلم «ريد فلاج» بطولة أحمد حاتم    موسوي: إسرائيل كشفت عن وجهها الوحشي بانتهاكها كافة الأعراف الدولية    كوكا يتدرب في معسكر الاتفاق قبل الإعلان الرسمي لضمه    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    القبض على رمضان صبحى فى مطار القاهرة أثناء العودة من تركيا    أسعار الأسماك بأسواق كفر الشيخ اليوم.. البوري ب130 جنيها    "بقميص الزمالك".. 15 صورة لرقص شيكابالا في حفل زفاف شقيقته    عيار 21 الآن بالمصنعية.. أسعار الذهب تنخفض 320 جنيهًا اليوم بالصاغة (السبيكة بكام؟)    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    5 أبراج «معاهم مفاتيح النجاح».. موهوبون تُفتح لهم الأبواب ويصعدون بثبات نحو القمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عباس بيضون يحنّ إلى «خريف البراءة»
نشر في صوت البلد يوم 27 - 12 - 2015

ينطلق السرد في «خريف البراءة» مثل سهم مشدود إلى وتر صلب، فارشاً مروحة واسعة من العناصر الدرامية، وفي طليعتها خلفية القصة والشخصيات المعنية بها. السرد مشدود ومتوتر السرد هنا، حتى أننا قبل السطر السابع من مطلع الرواية نكون قد علمنا بأن الراوي هو نفسه بطل الرواية وأن أمه قُتلت وهو في الثالثة من العمر وأن أباه توارى بعد مقتلها. عند السطر السابع تكون معالم البلدة والقبيلة التي غزتها «الحداثة» قبل الأوان قد رُسمت بما يشبه الفحم الأسود، بلا تلوين ولا زخارف. وعلى الرغم من ذلك، تأخذنا اللهفة لتقصي دخيلة هذا الطفل المستوحد، بخاصة أنّ من حوله يهجس بفرضية تأثره بالجرم الذي ارتكبه أبوه، «إذ لا يعقل أن يبرأ ابن من فعلة أبيه».
ما إن ينطلق السرد، حتى تتدفق العناصر تدفقاً غزيراً مرهِقاً وتتوالى الشخصيات ليجد القارئ نفسه لاهثاً خلفها، لعلّه يُمسك بالخفي من الحكاية خشية أن يضنّ عليه الراوي الغريب الأطوار بكشف ما ينبغي كشفه. غريب، ابن القتيلة المتهمة هذا، وابن زوجها القاتل البغيض على قلوب الناس. غرابته كطفل تنسحب عليه كراوئي مزاجي، يتوقف فجأة عن الحكي أو يطير فوقه. يسلمه إلى صانع الرواية مرّة أو إلى أقربائه وقريباته الذين نشأ معهم مرات. كأنما في حاجة إلى شهادات الآخرين ليكتمل نسيج الدراما أو لتنال هذه شرعيتها عبر مرورها بوعي هؤلاء. عند مشارف الخاتمة سنكتشف أن هذا التناوب كان من ضرورات السرد، فالراوي يغدو الضحية الذي تقع عليه مأساة أفظع من كل ما سبقها. سيغيب كما يغيب الآن أبرياء كثيرون فلا يبقى «من يخبّر عنه» سوى كاتب شجاع.
سيغيب، ولن ينفعه التحليق الذي دأب عليه هذا الطفل المجروح في نرجسيته منذ باكر طفولته، المتشرّد بين بيوت الأقارب. الشكاكون منهم بخيانة أمه أو الرافضون تصديقها. جميعاً يهجسون بالسؤال، من هو العشيق ومن هو القاتل؟ وآخرون باستعراض الاحتمالات: إن كان هذا الابن سيبرأ من الفعل الشنيع الذي ارتكبه أبوه ذو الكفين الكبيرتين؟ إن كانت كفاه هو أيضاً ستكبران وتغدوان أداة لجريمة أخرى يعجزون عن تخيّل معالمها أو ضحيتها؟
هل كان لهذا المتّهم الافتراضي من سبيل للنجاة غير التحليق والطيران؟ كيف لا ومشهد أمه المخنوقة بكفّي أبيه يطارده؟ كابوس يُطارده على الرغم من أنه لم «يره» إنما «تناهى» له عبر كلام الآخرين، أو بالتصوّر من خلال إشاراتهم ونظراتهم. من تلك الإشارات والتلميحات شاهد أمه مخنوقة وقد تدلّى لسانها وجحظت عيناها وازرقت رقبتها وطارت حكايتها على الألسن. كيف لن يطير هو فوق الأرض وفوق الزرع وفوق الناس ويحلّق بعيداً مستوحداً، لا سلوى له سوى حكايات ينسجها لنفسه، مشكّلاً عالمه الرهيف. عالم من حكايات لا علاقة لها بواقعه ولا بمأساته. حكايات مبتكرة تغلّفه وتفصله عن عالم الآخرين. هكذا دأب على الطيران، لا سيما حين يستولي عليه الخوف من أمه الميتة ولسانها الممدود ومن قبرها القائم في حوش الدار. إذاك يبالغ في تحليقه، يتحرر منها، من أبيه ومن كامل ماضيه، كما تتحرر العناصر من أثقالها: «الهواء من حوله يغدو فضاء من السحر اللازم لمداواة الروح. حتى الألم يغدو فضائياً حنوناً. شيء أخف من الألم يجعله يطير. قدماه تنفكان عن التراب وتمشيان بما يشبه الارتفاع. وحده –كما يقول- كان هكذا دون غيره. عالمه سيّار جوّاب متحرّك خفيف وعامر».
هكذا يشيّد لامبالاته. ويبذل جهداً ليصيبنا بعدواها فلا يفلح، إذ لن يتأخر عن جذبنا إلى محطات تأملاته الذاتية البليغة، حول الحياة والموت والعلاقات الملتبسة. تأملات تصيبنا في العمق، إذ لا تعدو كونها لسان حالنا في المواقف العبثية التي خبرناها. نحن قراء عباس بيضون وأبنا جيله الذين لا نختلف عنه سوى بالقدر الذي يقرّبنا من عالمه.
من «فوق الواقع» هذا وفي كثرة الحكايات وتداخلها، تغيب أسماء في الجزء الأول من الرواية، هي الأهم في عالم التسميات: أسماء الأطراف الثلاثة المعنيين بمأساة حدثت وأخرى قيد الحدوث. اسم الأب، الأم وابنهما. يا لهذا الثلاثي الطاغي في حضوره وفي غيابه! القاتل والقتيلة وطفل لهما يتأرجح في هذا العالم المنحرف بين صورة أب غابت بغيابه، وصورة أم قتلت لتبقى ساطعة المعالم.
في مناخ الجريمة تغيب أسماء أمه وأبيه كما يغيب اسمه هو عن خارطة العائلة الممتدة. خريطة تعج بأناس يتدخلون في السرد، لهم أبناء وبنات، عموم وأخوال وجيران، وقد يقع أحدهم في هوى آخر وينسج حكايته الخاصة به، وهي تعبّر بشكل أو بآخر عن حكاية هذا المستوحد الهارب إلى عالمه المتخيّل. لهؤلاء أسماء، لا في العناوين فقط بل على ألسنة الآخرين: شري، سامية وسامي وعادل ويسري وفؤاد. جميعاً يتمتعون بأسماء ما عدا الراوي/ البطل القائم في قلب الحدث. ولولا عناوين الفصول الأولى لغاب اسمه كلياً عن بالنا وظلت الحكاية وحدها سيدة الموقف، على أن الاسم لن يلبث أن يظهر. بعد غياب عقدين، ظهر الأب ومعه الأسماء. وكنية العائلة أيضاً ظهرت. إنه غسان الشربيني ابن القاتل مسعود الشربيني وابن أمه المخنوقة «عايدة»، ابنة الطحيني صاحب الدكان.
لقد شبّ الابن، تعلّم وتخرج واتخذ لنفسه المكان اللائق وسط أهله، وكاد يصير «غسان» الجامعي اللامع لولا تاريخه الشخصي القاهر، الذي على غفلة من جميع الأطراف، عقد حلفاً مع حاضر يفوقه قدرة على القهر.
في تحالف الخاص والعام يتفاقم العنف، تتسارع عجلته وتتخذ مساراً ووقائع مذهلة، مقزّزة وخليقة بأفلام الرعب، غير أنها صورة لواقع فجّ نعيش فظائعه. نعيشها نحن أيضاً في «الإنكار»، إذ لا يمكننا تصديقها على الرغم من فرط تكرارها. لا يمكننا. فالمتوحش مرتكب الفظائع هذا و «أتباعه» ينتمون إلى السلالة ذاتها التي ننتمي نحن إليها. وعار أفعاله يهزّ أعماقنا فنمعن في الهرب كما أمعن غسان طفلاً في التحليق لينجو. لكنه لم يفلح.
لن يكتب للتفاؤل الاستمرار طويلاً بعد ذلك. ليس الفضح ما يؤجج طاقة العنف الهائجة في دخيلة هذا القاتل. بل الإنكار. إنكار ابنه له. ها هو الابن يحذو حذو أمه فينكر على أبيه كيانه كما كانت تنكره عايدة، التي كانت تتشاوف على «بعلها» سيد الفحول وتنكر جوهر زواجها منه. والابن هذا يحمل «سرّ» أمه لا «سر» أبيه. أبوه الذي «عاد» مغواراً حاملاً «راية» الدين. على الرغم من مريديه «المؤمنين» وأتباعه هواة القتل والترهيب، يجد نفسه الآن عاجزاً أمام ابنه! هو مسعود الشربيني ثانية يرى نفسه في وقفة الذل عينها التي دفعته قبل عقدين إلى قتل المرأة التي عيّرته، هو الفحل، بعجزه أمامها. كيف إذن لن تقع المأساة والفحل حلّق طويلاً في هوامات الإجرام حتى تخيّل ابنه حاملاً رايته منادياً بأهلية زعامته وسطوته، مرتكباً أفعاله؟ لكنّ الابن قال كلمته. في حقيقة الأمر كان هذا هو الفعل الوحيد الذي ارتكب. أيهما أشدّ بلاغة، الكلام أم السيف؟ يا له من سؤال ساذج والأجوبة ترمينا بسهامها كل يوم!
منبع التراجيديا في «خريف البراءة» ليس غياب الأب كما في «أوديب الملك» بل في طغيان حضور الفحل وتبجيل الذكر ورعونة التسلط. طغيان يقلب المفاهيم فلا نميز بعدها بين الرجولة والذكورة. ولا بين الفحل والإنسان. مَن لم يخبر إنجازات الرجولة، سينهار كيانه تحت وطأة الفحولة، تحت مزاجيتها أو رعونتها.
يلزمه دخول عالم الرجال ليتخذ المسافة اللازمة مع ذكورته البدائية، ليعبر إلى كيانه الإنساني ينتمي إلى الإنسانية وإلى الآخرين. ليغدو أباً لا يتوارى عن ابنه ولا يقتل أمه. ما أيسر أن يهتز كيان ذكر يتوارى في جلباب التسلّط والترهيب، كما تتوارى خلف هذا هشاشة أي دكتاتور آخر أوصلته الملابسات إلى السلطة. ما أيسر أن تُعمى بصيرته ويرتكب ما فيه مهانة للإنسان وللإنسانية. على أن أفعال القاتل هذه المرة ستفوق كل تصور وتتجاوز كل الحدود. في عباءته الفضفاضة وتحت راية لا تُقهر، سيرفع الفحل شعارات مبتورة من جذورها فاقدة أصولها ناكرة أصالتها. يا لبؤسنا والعنف الشخصي البدائي قد وجد في «العام» ما يغريه بالاستسلام إلى أقصى حدود العنف. أقصاها، أفظعها وأشدها بشاعة. أفظعها تلك التي يرتكب فيها الأب كبرى الكبائر: ذبح ابنه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.