يعود الروائي المصري عبد الرشيد محمودي في روايته «بعد القهوة» الحائزة جائزة الشيخ زايد 2013 (الدار العربية للكتاب)، إلى مصر في زمن الأربعينات المنصرمة؛ لتستمر الأحداث على مدار أكثر من نصف عقد من الزمن. تتعدد الشخصيات، ويتفاوت مستوى وعيها، ولكن يظل ثمة خيط خفي مشترك يشدها إلى النقطة ذاتها، التي تبدو في أحيان، الأرض، بما عليها من تاريخ، وحكايات، وأساطير، ومعتقدات شعبية، وإيمان متجذر بالغيبيات. البطل في الرواية هو الطفل مدحت، الذي يرتحل من القرية إلى مدينة الإسماعيلية مع السيدة اليونانية ماريكا، وزوجها سالم، وانطلاقاً من هذا الحدث تبدأ الأحداث المحورية في الرواية، وإن سبق هذا التحول المهم سرد طويل لأحداث وتفاصيل تقدم بانوراما مشهدية للواقع الريفي في مصر، حيث ينقل محمودي في «ما بعد القهوة» أجواء الريف ليس على مستوى الأحداث والحكايات، والأجواء فقط، بل على مستوى اللغة الريفية المهيمنة على أجزاء كبيرة من الحوارات والوصف، مثلاً : «فين أمي يا ناعسة؟» راحت السوج تجيب لك حلاوة ورغيفين عيش من البندر». تحضر هذه اللغة في معظم أجزاء الرواية، ويمثل حضورها المكثف في بعض المشاهد أسلوباً خاصاً للتعبير عن بيئة معينة أراد الكاتب إحاطة القارئ بتفاصيلها وأجوائها، التي صاغت هوية البطل، وشكلته بحيث لا يتحرر منها رغم ارتحالاته وأسفاره، إلا أن حياة القرية وشخوصها ظلت تسيطر على داخله وهذا ما يعترف به في نهاية الرواية. يسرد أحداث الرواية راو عليم، يصف برؤية عين الطائر، كل ما يجري من أحداث خارجية وداخلية، ويركز على ازدهار الخرافة في قرية «القواسمة» حيث الأهالي يعتقدون أن بئر الجامع مسكونة بالجان، وفي مغطس الجامع يوجد ثعبان أسود ذو قرنين، وفي البركة التي تعلوها الطحالب تغفو الغيلان، والويل لمن يقع هناك. يعنون الكاتب الفصل الأول باسم «قاتلة الذئب»، للدلالة على امرأة قوية تمتلك شجاعة الرجال هي الجدة زينب التي قتلت الذئب، وتظل حتى آخر عمرها وهي عمياء مهيبة وقورة فلا يمر بها رجل على ظهر مطيته إلا ويترجل، و «إذا مرت بجمع وهي تتوكأ على عكازها، ساد صمت إلى أن يهمس أحدهم سبحان الله هي دي اللي قتلت الديب» ص 45. الجدة زينب هي جدة البطل مدحت، ومن المهم الإشارة إلى الحضور النسوي المؤثر في الرواية، بحيث تؤدي المرأة دوراً مفصلياً في الأحداث، فالطفل مدحت ينتقل من الريف إلى المدينة بسبب ماريكا، التي يغير قرارها بتبنيه مجرى حياته ككل. هناك أيضاً الجدة نفيسة التي تظهر في بداية الرواية، بالإضافة إلى نساء مؤثرات في مسار الأحداث. لنقرأ ما يكشف عن أثر المرأة في حياة البطل: «هو مدحت من قرية القواسمة ابن جدته زينب، ومرضعته ناعسة، وماريكا اليونانية، وزوجة عمه هنية، فما أكثر أمهاته.»ص 408 يستخدم الكاتب أسلوب التشويق واضعاً القارئ منذ الصفحات الأولى أمام شخصية خليل - وهو أحد شخصيات القرية - والسؤال عن أخته زكية التي اختفت، ولا يجرؤ أحد على مواجهته بالقول : «أين راحت زكية؟» لأنهم يخافون من بأسه. ويستمر لصفحات في الحديث عن حكاية سلامة وزكية، وملابسات انكشاف قصة حبهما، على رغم أن الحدث الرئيسي يبدأ بعد أكثر من خمسين صفحة مع حكاية مدحت، وانتقاله مع ماريكا اليونانية وزوجها سالم من القرية إلى المدينة. في فصل «الخروف الضال»، ينتقل السرد من عمق الريف ومن قرية القواسمة في محافظة الشرقية، إلى مدينة الإسماعيلية في منطقة القنال وأبوكبير في محافظة الشرقية. تكشف الرواية طبيعة مدينة الإسماعيلية في زمن الأربعينات، وانقسامها بين حي الإفرنج، وحي العرب، وكيف يوجد تداخل بين الحيين. في حي العرب «يقيم يونانيون وأرمن، وفرنسيون ومالطيون، وفي حي الإفرنج يقيم بعض المصريين أو يعملون.» ومع ذلك يظل للبطل عين لاقطة للفروق بين الحي الإفرنجي حيث دور السينما، ومتاجر الكتب، والمقاهي، والمطاعم، والمنتزهات، وبين الحي العربي الذي يخلو من كل هذه الأشياء. بل إن انشغال سكان هذا الحي بالمال فقط وتجميعه فهم لا تعنيهم أمور الثقافة. ينشغل البطل بالقراءة التي خلبت لبه منذ طفولته، وفي شبابه أحب رواية «السيمفونية الرعوية» لأندريه جيد، ومن خلال تعلقه برواية «تاييس» التي فتحت في داخله بوابة تساؤلات دينية، أصر على قراءة الإنجيل، والعهد القديم، ثم قرأ الأناجيل الأربعة، وأعمال الرسل، ورسائلهم، ورؤيا يوحنا. ومن روح الشرق وتقاليده، إلى عالم الغرب الفتان في الفصل الثالث الذي حمل عنوان «البرهان» يظهر اكتشاف الوجه الآخر للحداثة، للفنون، للموسيقى، للثقافة، للحرية. يغوص البطل مدحت في عوالم جديدة لا يعرفها، وتأسره الموسيقى تحديداً. ورغم ذلك يعترف بأنه في قرارة نفسه لايزال ريفياً، لنقرأ : «تعلقت بسلوى لأنها بندراوية، انتقلت إلى البندر وعشت في كثير من حواضر الدنيا، وها أنا ذا أنتقل إلى فينا بندر البنادر، ومع ذلك فإني مازلت أحمل معي صورة الجمل الذي يدير السرجة، أنا فلاح في أعماقي، لي جلد فلاح، وصبر الأرض التي يفلحها على العطش... ولي صمود السنط والجميز، والصبار والغربان في مواسم الجفاف» ص 410. ولعله في هذا الاعتراف، يحول دون التوقف أمام صراع حضاري يشطر البطل ما بين شرق وغرب، بحيث يبدو متلقياً للعالم الجديد، يتفرج عليه عبر مسافة تبعده من التماهي معه. تبني رواية «بعد القهوة» عالمها الروائي عبر سرد كلاسيكي، يتتبع حياة الأبطال، ومسارات تحولات حيواتهم على مدار أربعين عاماً. وعلى رغم حضور الميثولوجيا الدينية، والأساطير الإغريقية، والحكايات والمعتقدات الشعبية، إلا أن الانعكاس الفكري لهذه المؤثرات يحضر من الجانب الاستقرائي للفروق بين الشرق والغرب، أكثر مما يتشعب للتساؤلات الفلسفية المركبة الباحثة عن إجوبة لأسئلة مقلقة. تدور أسئلة مدحت عن علاقته مع الريف والمدينة، مع الموسيقى، والحب، والعلاقة مع الجنس الآخر، في بؤرة تساؤل ذاتي تخلو من الصراع الفردي المنبثق من أزمة هوية أو وجود مُعذب بفعل الاغتراب المكاني، إذ على رغم سيطرة الوعي بالهوية الداخلية للمكان السابق ( الريف المصري)، والمكان الحالي ( فينا) إلا أن هذا الوعي لا يمثل ثقلاً ومعاناة، بقدر ما يحمل في طياته سرداً حدثياً للواقع الفعلي. ولعل أكثر المشاهد الروائية تعبيراً عن الداخل تلك التي تناولت تساؤلات البطل عن الموسيقى، وتحليله لموسيقى فيردي في أوبرا «لاترافياتا»، ومقارنتها بأغنية لأسمهان. لكنه لا يسترسل في هذه التأملات التي سرعان ما تُطوى لمصلحة سرد الأحداث اليومية، التي بدت في حاجة للتكثيف في مشاهد عدة. تظل الإشارة إلى عنوان الرواية الذي يأتي معبراً عن حالات معينة، كأن يأتي ذكر القهوة للدلالة عنها، وتحديداً في المشهد الأخير في الرواية الذي يجمعه مع سلمى، مع حضور القهوة كمشروب يرتبط بوجود البطل في الغرب، في مقابل الحضور المتكرر للشاي وطرق إعداده، وارتباطه بثقافة الريف المصري.