ووسط الجموع، صرخ أحد الصحافيين قائلاً: "لأكثر من سبعة أعوام تمت سرقة ليالي بغداد".. جاءت كلماته علي خلفية ايقاعات الموسيقي التراثية العذبة.. وبدت العبارة بحد ذاتها لافتة للنظر، واسترعت الانتباه للمتابعة عبر إحدي الفضائيات - عن المقصود - بعودة الليالي البغدادية بكل صخبها وعنفوانها وتألقها. لقد اختار مجموعة من الصحافيين العراقيين القيام بخرق حظر التجول المفروض في بغداد ليلاً، بإقامة حفل موسيقي.. مطالبين برفع الحظر نهائياً بعد سرقة حياة الليل لأكثر من سبعة أعوام من العاصمة العراقية، أي منذ اجتياح هذا البلد ربيع عام 2003. احتفل هؤلاء الصحافيين في ساحة الفردوس احتجاجاً علي تقييد إعادة الحياة إلي شوارع بغداد. وكانت السلطات العراقية خففت سابقاً ساعات حظر التجول، بحيث يبدأ من منتصف الليل حتي الخامسة صباحاً بعدما كان بين العاشرة مساء والسادسة صباحاً. وإذا كانت صرخة الاحتجاج التي رفعها الصحفيون العراقيون هي صوت الموسيقي، فهذا لأن الموسيقي هي الرسالة الأكثر سلاما وجمالا والتي تجبر العالم علي الإنصات، والاستماع لأصوات الناس الذين يمضون الليل الطويل المعتم في سكون، وملل، لذا خرجوا إلي الشارع غير عابئين بما قد يحدث في الغد. هذا الحدث، تزامن مع تنظيم أسبوع عراقي في دار الأوبرا في القاهرة، افتُتح بمعرضين للفنون التشكيلية والتراث الشعبي، كما أقيم في المجلس الأعلي للثقافة معرض للكتاب العراقي. تضمنت أيام الثقافة العراقية في القاهرة عرضاً مسرحيا، وعروضاً سينمائية منها الفيلم الروائي "الوضوء بالدم"، والفيلم التسجيلي "حكاية وطن"، وعروضاً موسيقية لفرق منها الفرقة القومية للفنون الشعبية العراقية، وفرقة أنسام دجلة، إضافة لعزف منفرد علي العود لكل من فريد البابلي، ونصير شمة، ويوسف عباس. ربما ينبغي أن نبدي تفاؤلا إزاء أن يكون هذا الأسبوع فاتحة لإعادة التواصل الذي حُرم منه العراقيون بسبب سنوات من الاضطهاد والحروب. لكن في الحقيقة، الثقافة العراقية في حاجة إلي أكثر من أسبوع ثقافي، وفي أكثر من بلد عربي، ونحن نحتاج أكثر من هذا في العلاقة مع بغداد، نحتاج ما يتجاوز الأسبوع الثقافي، بعد الغياب العراقي عن الساحة الثقافية العربية، الذي استمر عشرين عاما، فلا يصلنا من ثقافة العراق سوي ما يقوم به مجموعة من الأدباء والمثقفين العراقيين عبر المواقع الإلكترونية، سواء من المقيمين في العراق، أو ممن انتشروا في بلاد الشتات، وظلوا حريصين علي تأكيد هويتهم الثقافية عبر الكتابة عن هم العراق المشترك بين الجميع، أي بين من هم في الداخل، ومن اضطروا للرحيل بسبب الحروب. لكن يظل التواصل الإلكتروني غير كاف، ونظل بحاجة أكثر لنسمع ونري عن كثب أخبار العراق من مثقفيه الذين يعايشونه يوميا، ويمكنهم أن يخبرونا حقائق تختلف عن التي نراها ونسمعها عبر الشاشات، نحتاج أن نري وجها حقيقيا لبغداد التي نحلم بها، ونريد أن نعرفها عبر أهلها. بغداد لا تعاني فقط من حظر تجول ليلي، بل من عزلة عن الوسط الثقافي والفني العربي ككل، فالأحداث السياسية الدامية التي عصفت علي هذا البلد طوال الأعوام التي مضت، جعلت من إمكانية حدوث فعالية ثقافية أو فنية عربية في بغداد أمرا أشبه بالمستحيل - وهو ليس كذلك - أن يتم تنظيم وفد من المثقفين والفنانين العرب، بهدف زيارة بغداد، والتواصل مع مثقفيها، والاستماع لتجربتهم الحية، خلال سنوات الاحتلال ليس أمرا عسيرا لو أردنا القيام به، لكن أن تبقي بغداد في عزلة ثقافية وفنية، واقعة بين فكي رحي الاحتلال والإرهاب، فهذا أيضا يحمل فعل استسلام للواقع الذي يفرضه الاحتلال والإرهاب معاً.