رغم تجربة السجن المريرة إلا أن الفنان محسن شعلان استثمر تجربته التي اعتبرها ظالمة وقاسية ومريرة إلى ينابيع من الفن التشكيلي التي تعبر عن أحاسيسه ومشاعره بكل صدق، فهو يعتقد أنه كان ضحية، ودفع ثمن الفساد في الدولة. وقرر " شعلان" أن يفتتح معرضه الجديد ؛ ليكشف جرحًا غائرًا في القلب، ويرسم بدمه يومياته داخل السجن، ولذلك شهدت قاعة المؤتمرات بمركز الجزيرة للفنون بالزمالك حضورًا كبيرًا من جانب زملاء وجمهور ومحبي الفنان الذين حرصوا على متابعة معرضه الجديد بمشاركة الفنان جورج بهجوري، ود. صلاح المليجي رئيس قطاع الفنون التشكيلية، والناقد د. صلاح بيصار حول معرضه "القط الأسود.. تجربة سجن"، كأول معرض شخصي يعود به لجمهوره بعد قضائه فترة الحُكم الذي صدر ضده في قضيته التي شغلت الرأي العام المصري، والمتعلقة بملابسات اختفاء لوحة "زهرة الخشخاش" للفنان العالمي "فان جوخ" من متحف محمد محمود خليل وحرمه في أغسطس 2010 إبان فترة توليه رئاسة قطاع الفنون التشكيلية. حادث السرقة ونعود نتذكر في 23 أغسطس 2010 حين تم إعلان حالة طوارئ في جميع مخارج مصر وجميع المطارات، وقد تم حبس مسئولين كبار على خلفية اختفاء زهرة الخشخاش. منهم وكيل أول وزارة الثقافة ورئيس قطاع الفنون التشكيلية الفنان محمد محسن شعلان، وأربعة مسئولين آخرين ، ثم بمعاقبته بالسجن و10 آخرين بالحبس مع الشغل ثلاث سنوات عقب اتهامهم بإهدار المال العام، والإهمال مما تسبب في سرقة لوحة "زهرة الخشخاش" . وخلال فترة السجن كان محسن شعلان يعبر عن تجربته الأليمة واقتناعه التام، أنه بريء بالتعبير عن مشاعره وأفكاره من خلال رسومات من نبع تجربة السجن الأليمة ورفع صوته ليقول: "يمكنكم أن تسلبوا جيشًا جرارًا قائده، ولكنكم لن تستطيعوا سلب إرادة رجل عادي".. بهذه الكلمات أكد الفنان على تمرده ضد الظلم وعبر عنه في معرضه "القط الأسود.. تجربة سجن". ويقول شعلان: "أتشوق أن يشاركني المعرض كل أصدقائي وأحبابي وجمهوري الوفي الذي لم يتخلَ عني يومًا وكل من تعاطف معي في محنتي، والتي كانت وقفتهم ومشاعرهم هذه باقة النور الوحيدة وسط ظلام هذه التجربة الممتلئة بشعور قاسٍ للغاية بالقهر وإحساس مرير بالظلم والمهانة.. ولعل هذا ما جعل صورة القط الأسود تسيطر على مخيلتي، فالقط الأسود ارتبط في ذاكرتنا الوجدانية بالخوف والخطر والشر والأشرار، ووجدته في لحظات كثيرة يقتحم سطوح لوحاتي سواء كرمز للظلم أو للظالم أو معاونيه، وأحيانًا رمز للصورة بشكل عام ببشاعتها وقبحها، وهي بالفعل تجربة رغم قسوتها تلك إلا أنها كانت مفيدة لي كفنان، وأشعر أنني خرجت منها أكثر قوة، عكس ما أرادوه لي، وهنا أحب أن أتوجه لكل من شارك في هذه المهزلة القبيحة "أن سطوح لوحاتي قهرتكم وقهرت قضبان سجاني، وأشهد أنكم عانيتم بالسجن الذي طوّق روحكم الشريرة أكثر مني؛ لأن السجن ليس قضبانًا خارجية تمنع حرية الإنسان.. وواهم من يعتقد قدرته على تقييد روح الفنان.. أما حينما يتمكن الشر من أصحابه.. فهو سجن موحش لهم لا يسهل الخلاص منه!!. واقع مؤلم وقال الفنان محسن شعلان: إنه قد قضى فترة من سجنه مع علاء مبارك نجل الرئيس السابق، وأحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق، وأمين أباظة، وهاني كامل، ومنير ثابت، ونبيل شكري، وعهدي فضلي. وأضاف أنه كان يفضي بهمومه معهم، ويقضون أوقاتًا طيبة سواء في تناول الطعام أو الضحك أو غيره، وهو ما جعله يرتبط بهم وجدانيًّا بعيدًا عن ما فعلوه. وقد يقابل سارقًا أو فاسدًا لكنه يعرفه إنسانيًّا فيحبه، وألمح شعلان إلى تعاطفه مع علاء مبارك حين رآه وقد وضع صورة ابنه على باب الزنزانة، وهي كما وصفه، تفصيلة إنسانية مؤثرة. وعن طريق معاملتهم في السجن قال: إنهم لا يلقون أي معاملة مميزة، بل يعاملون كأي سجين، ويتلقون تفتيشًا مضاعفًا، عندما ترد لهم زيارات، أو أي شيء يستوجب التفتيش. أما عن تجربة السجن في حد ذاتها فقال: إنها تجربة قاسية، لا تتناسب مع حجم خطأه، وأنه كان يجب أن يعاقب إداريًّا وليس بالسجن كالمجرمين، مؤكدًا أن هناك معرضًا بأمريكا سرقت منه سبع لوحات رغم التكنولوجيا المتوفرة، ولم يسجن أحد وإنما يعاقب بأن يعزل من منصبه. المعرض والمحنة وحول المعرض قال محسن: إنه كان يرسم هذه اللوحات من واقع تجربته، ولم يفتعل أي شيء. وأنه طلب من أسرته إحضار أوراق وأقلام للسجن، لكي يستطيع التعبير عن مشاعره بالرسم، ولم يكن يفكر في فكره المعرض، إلا أنه عندما وجد نفسه وقد أنتج عددًا جيدًا من اللوحات، جاءته فكرة المعرض. وتابع أن معظم أبطال لوحاته من زملاء السجن، ولوحات أخرى تجسد مأساته، بالإضافة للوحات، تبدو فيها وجوه واضحة لمن رآهم تسببوا في ظلمه، هذا بالإضافة للقط الأسود الحاضر دائمًا في معظم لوحات المعرض. وأضاف شعلان: "أقدم في معرضي نحو 120 لوحة باستخدام الأحبار والألوان المائية والزيتية رسمتها جميعها خلال فترة محنتي التي بدأت مع اختفاء لوحة "زهرة الخشخاش"، وأعتقد أنها رغم خروجي من السجن ستستمر تنشر وتوثّق معناها بأنني لم أكن سوى كبش فداء لمن حاولوا أن يحولوني إلى شماعة يعلقون عليها فسادهم الذي أزكمت رائحته الأنوف ...". وأعتقد أن المعرض لجمهوري بمثابة عرض بصري يستطيع من خلاله الوقوف على حجم هذه التجربة بكل تفاصيلها... ولعلمي أن هذا المعرض يختلف بكل المعايير عن كل معارضي السابقة.. فهو قضية في ثوب معرض.. أو معرض يفضح قضية..!! لذا فقد حرصت على تقديم هذا المعرض بشكل أكثر تفصيلًا من خلال المؤتمر الصحفي بقاعة مؤتمرات مركز الجزيرة للفنون، ويصاحبني خلاله الصديق الفنان الكبير جورج بهجوري، والفنان د. صلاح المليجي، والناقد الفني المثقف صلاح بيصار، ودعوت له الصحفيين والإعلاميين وجمهوري لنتشارك معًا في تساؤلاتنا وآرائنا وأطروحاتنا لتلك الفترة في محاولة لرؤية أشمل وأكثر تعبيرًا ومصداقية..". واختتم شعلان حديثه بأبيات أمير الشعراء "فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا، لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابا، جنيت بروضها وردًا وشوكًا وذقت بكأسها شهدًا وصابا، فلم أرَ غير حكم الله حكمًا ولم أرَ دون باب الله بابا". وبعد افتتاح المعرض تحث " شعلان " لجمهور الحاضرين حديثا من القلب تفاعل معه جميع الحاضرين، موضحًا أهمية هذا المعرض الذي يُعد بمثابة رسالة قوية ضد الظلم والقهر، ومجسدًا صورة صادقة ومُعبرة لحجم المعاناة التي عايشها الفنان طوال محنته، كاشفًا خلال حديثه النقاب عن الكثير من التفاصيل التي صاحبت أحداث قضيته، والتي أكد بها شعوره بأنه كان مُتعمَدًا تقديمه ككبش فداء لمنظومة تراكم بها الفساد والقبح، صارت معها المُهدئات المعتادة لن تُجدي، فكان لابد من تقديم أُضحية سمينة يمكن من خلالها تضليل الرأي العام عن المذنب الحقيقي.. وقدم شعلان لجمهوره كشف حساب بإنجازاته منذ أن كان مديرًا لإدارة الإعلام، ثم مديرًا لمراسم وكالة الغوري، ثم نائب لرئيس الإدارة المركزية للحرف التقليدية، ثم رئيسًا لها، ثم رئيسًا للإدارة المركزية للمتاحف والمعارض، فرئيسًا للقطاع كأول رئيس قطاع والوحيد حتى الآن يأتي من بين أبنائه، وذلك لما عهد عنه من كفاءة ورؤية وتاريخ مهني مليء بالنجاحات ومشرف، مؤكدًا اعتزازه بما قدمه لبلده ولم يقصر يومًا في حقها سواء في ميدان الشجاعة والتضحية كجندي أو في ميادين الإبداع كفنان، مُعقبًا أنه بعد ما لاقاه من ظلم ومهانة يتملكه أحيانًا شعور بحقه في معاتبتها عتاب الحبيب لحبيبته. كشف الألغاز وفاجأ شعلان الحضور بإفصاحه عن العديد من الألغاز التي دائمًا ما حامت حول لوحة زهرة الخشخاش منذ عودتها بعد سرقتها الأولى لمدة 11 عامًا، منها خروج جميع مقتنيات متحف محمد محمود خليل في عرض بأحد متاحف فرنسا ولكنه تفاجأ أن المتحف لم يرغب في استعارة هذه اللوحة فقط برغم أهميتها خاصة للجمهور الفرنسي، كاشفًا أن هذه اللوحة دائمًا ما كانت تبعد عن أية محاولة للكشف عنها أو ترميمها على أيدي خبراء، وهو ما قد يُعزز ما ذهب إليه البعض من احتمالية كونها ليست اللوحة الأصلية.