يتحدث الكاتب الكبير د. زكي نجيب محمود في كتابه القيم "قيم من التراث" في فصل بعنوان "النفخة الكذابة"، يتحدث عن المغرورين الذين يريدون أن يحمدوا بما ليس فيهم، فيقول: وللتفرقة بين أصحاب النفخة الصادقة الواثقة بنفسها والنفخة الكذابة التي تخفى خواءها؛ أهمية كبرى لأن رجال الفئة الأولى إنما هم العظماء حقا، الذين هم ذخيرة أوطانهم وشعوبهم بل والإنسانية كلها، وأما رجال الفئة الثانية فهم - على المدى الزمني الطويل - نكبة على أوطانهم وشعوبهم لأنهم كثيرا ما يحجبون الحق بباطلهم إلى أن يشاء الله للحق ظهورا وانتشارا. ( قيم من التراث؛ ص: 266). وفي مجالنا الأدبي تقابل نماذج عديدة من أصحاب الحالة الثانية - النفخة الكذابة - ففي الإسكندرية عدة حالات واضحة للغاية، وأصحابها يعانون مرضاً نفسياً بدرجات متفاوتة، أول هذه النماذج وأعلاها. رجل يقترب من الثمانين "مرسي المرزوقي"، لم تُنشر له قصة واحدة في مجلة أو جريدة معروفة، فتوارى خلف الروايات، (وكثير من المدعين يتوارون خلف الرواية، فإذا كتبوا قصصاً قصيرة ؛ سرعان ما ينكشفوا وتظهر حالتهم المريضة، لأن القصة القصيرة يسهل قراءتها، إنما الرواية تتوه وسط الصفحات الكثيرة). طبعت هيئة الكتاب له رواية منذ أكثر من أربعين عاما. ولا أدري كيف طبعوها ووافقوا عليها. وكتب رواية أخرى طبعها على حسابه الخاص بعد خروجه على المعاش، وقدمها إلى الحركة الثقافية فلم يهتم بها أحد. فهي صعبة للغاية، وكتاباته كلها عسيرة الهضم، ويفرح بهذه الصفة،فيقدم إليك كتابه قائلا: - صعب عليك. كتاباته تشبه الصوت القبيح، أو الوجه الذي لا ترتاح لرؤيته، فلا تستطيع أن تُكمل صفحات قليلة من الكتاب. يتحدث في زهو مفتعل، يحاول أن يحمي نفسه التي تعلم أنها ضعيفة ولا تملك أية موهبة.كل الكُتاب في نظره ضعاف وغير قادرين على الكتابة الصحيحة. وانتشارهم سببه أنهم يطبطبون على النقاد وعلى المسئولين في دور النشر والجرائد والمجلات، وهو لا يفعل هذا، ويقول للأعور: أنت أعور في عينه، مما أدي إلى تأخره. وقد قال لي يوما إنه وماركيز الوحيدان القادران على الكتابة الحديثة، وهو قبل ماركيز، واستدرك قائلا: من حقي أن أن أقول عن نفسي ما أشاء. قرأت صفحات قليلة من رواية له مكتوبة بالآلة الكاتبة، فوجدت فيها كلمات غير مفهومة، فبحثت في القواميس التي عندي، فلم أجدها، وعندما سألته عن ذلك، قال: - "مرسي المرزوقي" له قاموسه الخاص. وعندما حدثته عن قصة لي نشرت في جريدة الأهرام، قال: - إللي ما يعبرنيش؛ ما عبرهوش. (ثم استدرك قائلا): "مرسي المرزوقي" تترفض له قصة؟!". على أساس أنه أرسل كثيرا إلى جريدة الأهرام فلم ينشروا له. قابلته أول مرة في قصر ثقافة الحرية، فحدثني عن رواية له، وذكر لي أسمها، فقلت له: - أعرفها، فقد كنت في هيئة الكتاب بالقاهرة مع الأستاذ عبد العليم القباني، ووصى عليها أمامي. وإذا به يصرخ: - مش أنا اللي يوصوا على أعماله، لو فعل القباني هذا، سأذهب وأسحبها. قلت له مندهشا: - توصيته ليس فيها إساءة لك، فلو وافقت لجنة النشر على نشرها، فقد استعجل القباني نشرها. وذهبت معه إلى قطاع الثقافة في شارع "ونجت" لكي يقدم إليهم رواية ليطبعوها له ضمن النشر المحلي، فقالت المديرة المسئولة بأدب جم: - حاضر، سأرسلها إلى الدكتور - المسئول عن النشر - ليقول رأيه فيها. وإذ به يصيح: فلان؛ دكتور على نفسه، "مرسي المرزوقي" لايقال لي هذا الكلام. وقرأت لجنة النشر الرواية، فإذ بها ضعيفة ولا تستحق النشر، وقال الدكتور المسئول: - من رأيي إلا نحرج رجلا في هذه السن، واقترح أن نعتذر عن نشرها لأن عدد صفحاتها كبير جداً. وأخذ يطارد د. محمد زكي العشماوي، ويطلب منه قراءة روايته التي طبعها على حسابه، فأحس الرجل بالحرج، فطلب من أستاذ في الكلية من تلاميذه أن يقرأها، ويقول له رأيه فيها. وأخبرني هذا الأستاذ بهذا، وسألته عن رأيه، فقال لي بضيق وقرف: أنا عارف بيعملوا إيه دول؟! وعندما علم مرسي المرزوقي بأن الأستاذ فلان قرأ روايته، سأله عن رأيه فيها، فقال الرجل في ارتباك: - كوني قرأتها، ده في حد ذاته إنجاز. أراد بقوله هذا أن يقول إنها سيئة، لكنه نظر إلي وقال سعيدا: سامع؟! وقد تصدي هذا الأستاذ لمناقشة هذه الرواية مع كاتب قصة معروف كان يقدم ندوة شهرية بقصر التذوق بالإسكندرية، فأظهرا عيوبها، ونالا من مؤلفها بدرجة كبيرة جداً، مما أثاره. الغريب أنه يحكي للآن على أنه واجههما وجعلهما لا يساويان شيئا. وسافر الأستاذ الدكتور معارًا إلى بلد من بلاد الخليج. وابتعد الكاتب المعروف عن إدارة ندوته في القصر. فاعتبر صاحبنا أن هجومه عليهما أدي إلى ترك الدكتور للإسكندرية. واستغناء إدارة القصر عن خدمات الكاتب المعروف. وقد صور السيناريست الكبير وحيد حامد هذه الحالة ببراعة في فيلمه "الدنيا على جناح يمامة"، فقد أخذت البطلة (ميرفت أمين) التاكسي من صاحبه (محمود عبد العزيز) وذهبت به إلى مستشفى الأمراض العقلية لمقابلة حبيبها القديم (يوسف شعبان)، وحاول سائق التاكسي دخول المستشفى، فشك الحارس فيه، وظنه هارب من الداخل؛ فأدخلوه المستشفى بالقوة، واتضح أن شبيهاً له محجوز بها، وعندما ذهبوا لاستدعاء المريض واجههم بطريقة ذكرتني بمرسي المرزوقي، فقد قال للتومرجي: - لابد أن الدكتور يريدني لكي يلاعبني شطرنج، وسأغلبه وبالجزمة. والمرزوقي، كل الناس ممكن أن يناظرهم وفي كل المجالات، وسيغلبهم، ويذكر دائما كلمة "وبالجزمة". فقد تحدثت معه عن أستاذ كبير تخصص في الكتابة عن اليهود والصهيونية، فقال لي: - أنا مستعد أن أناظره، وسأغلبه، وبالجزمة. ورجل يدعي أنه حاصل على الدكتوراة، (وفي بلادنا الكثير ممن يدعون أنهم حاصلون على درجة الدكتوراة؛ دون أن يحصلوا عليها) أسس جمعية أدبية وضم إليها الكثير. وفي جمعيته هذه يجتمع بمجموعة من الزجالين والكتاب، ويفرض عليهم سطوته، وقد حكى لي أحدهم بأنه أخذ هذه المجموعة وزار قناة تليفزيونية محلية، وقبل أن تتحرك السيارة بهم، سألهم: - ماذا ستقدمون؟ فذكر كل منهم الذي سيقوله في القناة، فقال لهم: - طيب، كلكم حاتقولوا، وأنا حاقعد كده؟! وأخذ قصيدة من أحدهم، وتدرب على إلقائها،وألقاها في القناة التليفزيونية، وتعامل معه العاملون فيها على أنه كاتب كبير، ورئيس كل هؤلاء المبدعين. والغريب أنه رأس اللجنة الثقافية في الحزب الوطني بالإسكندرية لمدة طويلة. ومن شدة إعجابالمسئولين به، أطلقوا اسمه على الشارع الذي تقع فيه جمعيته الأدبية، وهو مازال حياً يرزق.