وسط ما يعيشه الربيع العربي خلال الآونة الراهنة من ثورات لا تزال أصداؤها تصدح في سماء الشرق الأوسط، بدأت جسور الحرية تتمدد أمام القصيدة الشعرية، وهو ما أسماه البعض بفترة "المصالحة" بينهما، إلا أن هناك ثمة خطوات ملتبسة، لا تخلو منها طريق الشعر نحو حريته أو ماهيته، فاستطلعنا آراء عدد من الشعراء المصريين للوقوف علي ماهية جديدة لشعر ما بعد ثورات العرب. فقال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: إن الشاعر الذي يسعي للتفرد يراهن دائمًا على أدواته الخاصة، احترامًا منه لاستقلالية الشعر، وقدرته على أن يفعل لا أن يكون مجرد صوتي لعدة أفعال، أما أن ينادي الشعر بالحرية أو يهتف باسمها في الميادين فهذا شيء آخر، فالتصفيق لقصيدة الثورة أمر، وأن تكون القصيدة بذاتها ثورة مكتملة هو أمر آخر يحتاج إلي دراسات متأنية خلال الفترة المقبلة. وأضاف حجازي، بأنه في ظل ما تشهده المنطقة العربية من ثورات تطل علينا الحرية بوجوه ومفاهيم كثيرة، ومن ثم تتباين تجلياتها في التجربة الشعرية الحديثة، التي رفعت الحرية شعارًا لها منذ الرواد، حتى آخر أجيال قصيدة النثر.. منوهًا بأن الشعر الجديد نفسه تسمى باسم "الشعر الحر" في بعض مراحله، واقترن مفهوم الحرية وقتها بفعل فيزيائي هو كسر عمود الخليل، بغض النظر عن العوامل الأخرى. أما الشاعر عبداللطيف عبدالحليم (أبو همام)، فقال بأن اختزال مفهوم حرية القصيدة في ملمح واحد أو عدة ملامح محدودة يخل كثيرًا بالتحرر الفعلي لها، فتعليق التحرر على المعارضة السياسية، يحولها إلى بيان ثوري؛ وهو ما من شأنه أن يضر بشعرية القصيدة الجديدة، رغم أنها ولدت من رحم الدعوة إلى الحرية، والثورة على النمطي والسائد.. وأوضح: إن الحرية التي تطمح إلي إنجازها القصيدة الآنية، هي حرية الوجود والتحقق والتفاعل والاكتفاء الذاتي، أي أن تكون القصيدة هي "فعل التحرر" على مختلف المستويات، لا أن تكون بيانًا للتحرر والثورية، علي أن يحدث هذا التحرر في سياق عفوي وحيوي في آن. ونوه بضرورة استقلال القصيدة بشعريتها،لتحلق في الفضاء الأدبي بجمالياتها الفنية فقط، دون أن تنفصل بالطبع عن معطيات واقعها، ومستجدات عصرها، الجديد عليها. هوة واسعة وفي السياق ذاته، يقول الشاعر شعبان يوسف: إن هناك هوة واسعة بين "ثورة الشعر"، و"شعر الثورة"، وهذا لم يحدث للأسف الشديد إلا في حالات نادرة للغاية في تاريخ الذائقة العربية.. وأضاف: إن غاية العدالة أن يكون المحك الجوهري لامتحان القصيدة الجديدة هو القصيدة نفسها، وقابليتها للاستساغة الطبيعية، وكذا إشباع الأذهان والحواس بما يُغني ويُمتع في آن. وألمح يوسف إلي أن الأغلبية ربطوا تراجع القصيدة العربية في السنوات الأخيرة بأسباب إجرائية، ورغم غرابة هذا المنطق، إلا أنه ساد المشهد الثقافي لسنوات طوال، ولم يمتلك أحد الشجاعة الكافية ليقول بثقة وبأعلى صوت: "الأزمة أزمة قصيدة في الأساس". وأشار إلي أن ما نمر به الآن هو اللحظة المناسبة لعودة القصيدة الحقيقية لسابق عهدها، أو ميلادها بصورتها النقية، بل لعلها اللحظة التاريخية الأكثر مثالية منذ سنوات بعيدة، بعد أن انهارت الوسائط التقليدية لتوصيل النص. وعلي المنوال ذاته، نسج الشاعر هشام الجخ، وأضاف بأن المنطلقات والرؤى المغايرة، التي تخص الشعر والكتابة الجديدة عمومًا، تفرض نفسها بقوة، والمعطيات النظرية لكتابة القصيدة تجاهد كي تتفعل أوتوماتيكيا بلا صعوبة.. في إشارة منه إلي أن الشاعر الآن قادر على استشفاف أنه يعيش في عالم رقمي، وأن القضايا المصيرية التي تعنيه وتعني غيره صارت تتعلق بوجوده كإنسان، أكثر من تعلقها بالعارض الزائل من قضايا سياسية واجتماعية وما شابهها. وقال: إن عافية الشعر الجديد "مرهونة" بالترفع عن مراجعة هذه الصغائر والمفاهيم البالية التي باتت مضحكة، وكذا بالقبض على جوهر الشعر ذاته، وببزوغ شعر رفيع كبير، يحتضنه القراء بوعي وبلا وعي.. وهو ما ننشده في قصيدة ما بعد الثورة، أن تتحدث بأبجدية جديدة لها لون وطعم ورائحة العصر، تتصالح فيها الأجيال والتيارات المتناحرة، علي مختلف الأصعدة.