رضا حجازي يبحث مع وفد البنك الدولي التعاون في ملفات تطوير منظومة التعليم    ارتفاع البلطي والمكرونة السويسي بسوق العبور اليوم الثلاثاء    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" يتابع سير العمل بمشروعات مدينة حدائق العاصمة    تراجع المؤشر الرئيسى للبورصة بنسبة 1% بمستهل تعاملات جلسة منتصف الأسبوع    الإسكان: إجراء القرعة الرابعة لتسكين المواطنين بمنطقة جمعية الأمل سابقا بالعبور الجديدة    وزير المالية: تطوير نظام المتعاملين الرئيسيين لتنشيط سوق الأوراق المالية الحكومية    سعر الذهب اليوم الثلاثاء في مصر يهبط ببداية التعاملات    ارتفاع طفيف لأسعار الدواجن اليوم الثلاثاء في الأسواق (موقع رسمي)    الكهرباء تفتتح مشروع محطة طاقة الرياح بخليج السويس قدرة 252 ميجاوات    الأونروا: تقديم المساعدات في غزة بات شبه مستحيل    رسميًا.. النرويج تعلن الاعتراف بدولة فلسطين    البيت الأبيض يقيم ما إذا انتهكت إسرائيل "الخط الأحمر" لبايدن فى ضربة رفح    إعلام عبري: 86 مستوطنة تضررت شمالي إسرائيل بفعل صواريخ حزب الله    "اللي بيحصل مسرحية".. محامي رمضان صبحي يفجر مفاجأة بشأن إيقافه 4 سنوات    لفتة غير متوقعة من رونالدو عقب تسجيله رقماً تاريخياً بالدوري السعودي    مواجهة ثالثة تجمع الاتحاد وسبورتنج بسلسلة مباريات نصف نهائي دوري السوبر للسلة    وصلت المدارس.. تسليم أرقام الجلوس لطلاب الثانوية بعد التأكد من هذا الأمر    حريق هائل في منزل من 4 طوابق بالدقهلية    طقس ربيعى معتدل وانخفاض فى درجات الحرارة بسوهاج.. فيديو    مترو الأنفاق يتحفظ على لوحة إعلانية تسببت في تعطل مترو الخط الأول    مصرع شخص صعقا بالكهرباء داخل منزله بقرية شنبارة فى الشرقية    مصرع عامل تناول طعاما منزليا فاسدا بالبلينا جنوب سوهاج    عاشرها 15 يوماً وهي مكبلة.. قصة "رحمة" إحدى ضحايا "سفاح التجمع"    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 28 مايو 2024.. مكاسب مالية ل«العذراء» ونصيحة مهمة ل«الميزان»    ضيف شرف "الدالي" نقابة الممثلين اللبنانية تنعى الراحل فؤاد شرف الدين    جامعة القاهرة تبحث تعزيز التعاون مع وفد صيني في تعليم اللغة الصينية والعربية    راندا عبد السلام تتألق بالأبيض في أحدث ظهور لها    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    وزير الصحة يبحث مع نظيره الفرنسي سبل تعزيز التعاون في اللقاحات والأمصال    صحة الإسماعيلية تنظم قافلة طبية في مركز التل الكبير    التفاح والتوت.. أطعمة تحسن من جودة النوم في فصل الصيف    اليوم.. الإعلان عن الفائزين بجوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية    بعد عطل المترو.. مد فترة السماح لدخول طلاب جامعة حلوان للامتحانات    «الإفتاء» توضح سنن وأحكام الأضحية.. احرص عليها للفوز بأجرها    عضو الأهلي: عشنا لحظات عصيبة أمام الترجي.. والخطيب «مش بيلحق يفرح»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 28-5-2024    حسن مصطفى: الجيل الحالي للأهلي تفوق علينا    حقوق الإنسان والمواطنة: هناك قضايا تحتاج للمناقشة فى الحوار الوطنى    فتح متحف التراث السيناوي مجانًا بمناسبة يوم الطفل    ما هي أعراض التسمم المائي؟.. وهذه الكمية تسبب تورم الدماغ    كوريا الشمالية تطلق صاروخا باتجاه أوكيناوا.. واليابان تحذر مواطنيها    «الأزهر للفتوى» يوضح المواقيت المكانية للإحرام كما حددها النبي    هند البنا: جنود الاحتلال الإسرائيلي يعانون من اضطرابات نفسية بسبب حرب غزة    استشاري صحة نفسية: نتنياهو شخص «مرتبك ووحشي»    السبت.. مجلس أمناء الحوار الوطني يواصل اجتماعاته    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 28 مايو في محافظات مصر    هل يجوز الحج بالتاتو المؤقت؟ دار الإفتاء تجيب    مدير المستشفى الكويتي برفح: أُجبرنا على الإغلاق بعد مصرع اثنين من العاملين    محمد رمضان يعلق على أحداث رفح الفلسطينية    عاجل - وكيل الأمين العام للأمم المتحدة: حذرنا من أن عملية رفح ستؤدي لمذبحة ولقد رأينا العواقب    مدرب الألومنيوم: ندرس الانسحاب من كأس مصر بعد تأجيل مباراتنا الأهلي    محمود فوزي يرحب بدعوة مدبولي لإشراك الحوار الوطني في ملف الاقتصاد    إستونيا: المجر تعرضت لضغوط كبيرة لتفسير عرقلتها مساعدات الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا    «من حقك تعرف».. هل تتنازل الزوجة عن قائمة المنقولات الزوجية عند طلب الخلع؟    شوبير: الشناوي هو أقرب الأشخاص لقلبي    عضو مجلس الزمالك: إمام عاشور تمنى العودة لنا قبل الانضمام ل الأهلي.. ولكن!    الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تستعد لإقامة احتفالية بمناسبة عيد دخول السيد المسيح أرض الكنانة    إدارة المقطم التعليمية تستقبل وفدا من مؤسسة "حياة كريمة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية العمى والوباء الافتراضي
نشر في صوت البلد يوم 04 - 11 - 2020

في عام 1995 كتب الأديب البرتغالي خوزيه ساراماغو روايته الشهيرة "العمى"، وبعد ثلاثة أعوام فاز بجائزة نوبل للأدب، عن جدارة واستحقاق وفق معاصريه، وكانت رواياته تترك جدلا واسعا بين الأوساط الثقافية، لعمقها الفلسفي وجرأتها وقدرتها على تناول الأسئلة الحادة في الفكر والحياة.
وما روايته العمى إلا مثال على ذلك، لأنها تغوص في معنى العوَق الذهني عند البشر، والذين يفقدون الأحاسيس والمشاعر في ذروة الكوارث والأوبئة، فيتركون الضحايا بمواجهة المجهول للتخلص منهم كبضاعة كاسدة، لقد تخلت الأنظمة عن قيمها وفضلت الهروب. وترك الضحايا يواجهون مصيرا غامضا.
والسؤال الذي تطرحه الرواية. هل الإنسان سلعة، يمكن التخلي عنها في وقت الشدة؟
وهل الأنظمة الرأسمالية - التي أعمتها تخمة المال - تكترث لكرامة الإنسان؟
لقد انتهجت الرواية فكرة الوباء الافتراضي، والذي يتنافى مع المنطق العلمي الذي يؤكد أن العمى حالة غير وبائية، ولكن الكاتب ساراماغو يُدرك ذلك، فقد قال في مقابلة صحفية: "إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع القارئ ، وهو أن ما يهمنا هو التطور المنطقي للفكرة، حتى وإن كانت منافيةً للعقل".
لذا فقد استعان بالخيال لإبراز فكرة العمى الشامل كمدلول مجازي يتسع للكثير من التفسيرات، ومنها الجهل والتخلف، والطبيعة الاستهلاكية للأنظمة الرأسمالية، التي حوّلت الإنسان إلى سلعة رخيصة، تبحث عن المنافع اليومية، وتلهث وراء تحقيق بعض الإنجازات المادية، متناسية في غمرة هذا اللهاث المحموم القيمَ والمُثل التي ناضل الفكر الإنساني لعصور، في سبيل صياغتها.
العمى يجتاح المدينة وينتقل من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى، حيث تنعدم الرؤية، وكأن ستارا حليبيا ناصع البياض يهبط على البصر. لم يسمّ الكاتب المدينة التي كانت مسرحا للعمى باسمها، وكذلك أبطاله كانوا بدون أسماء، وكان يطلق عليهم بعض الصفات للتعريف بهم مثل: (الطبيب، زوجة الطبيب، الطفل الأحول، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكهل..الخ) فالرواية تلغي المكان والزمان والأسماء، كي تظلّ صالحة لكل الأزمنة، ومحتملة الحدوث في كلّ الأمكنة، كما أن الصفات التي عرّف بهه شخوصه، كي يكونوا تشخيصا للجنس البشري، بغض النظر عن اختلافاته في العرق واللون واللغة، فالعمى مصير حتمي للبشر الذين ينهمكون في لهاثهم اليومي.
ويحاول الكاتب أن يرسم لنا دبيب العمى منذ لحظاته الأولى، حيث الحياة وضجيجها في المدن المأهولة بالسكان، وحيث الزحام والحركة في الشوارع، وفجأة فأن الشخص الأول الذي يقود سيارته توقف في التقاطع، لأن الستار الحليبي قد غلّف بصره، مما سبب إرباكا في الطريق، ويتجمع عليه المارة للوقوف على جليّة الأمر، فيتبرع أحدهم بايصاله إلى بيته، ولكنه يستغل حالته فيسرق سيارته. وحين تعلم زوجته تقوده إلى عيادة طبيب العيون، والذي وجد أن عينيه سليمتان من الناحية الطبية، ولكن العمى قد تسرب عن طريق العدوى إلى جميع المراجعين في عيادة العيون. بما فيهم الطبيب نفسه الذي اكتشف أنه لا يرى في صباح اليوم الموالي، فسارعت زوجة الطبيب للإتصال بالإسعاف لنقل زوجها. ولكن رجال الإسعاف رفضوا أن تصطحبه، مما جعلها تدّعي العمى أيضا، ولكنهم بدلا من أخذهم إلى المستشفى لعلاجهم، فقد حجروهم وكأنهم خارجون على القانون.
وتتسرب عدوى العمى بين الناس الذين اقتربوا من العميان أو لامسوهم، فأدركت السلطات الحكومية أنهم أمام وباء شديد العدوى والخطورة. لذلك قاموا بتخصيص مستشفى الأمراض العقلية، لغرض عزل المصابين، الذين تعرضوا إلى أسوء انتهاكات لإنسانيتهم، فوضعوهم تحت الحراسة المشددة، في ظروف أقرب إلى معتقلات أسرى الحرب، وظلوا يضعون لهم الطعام قرب البوابة التي يحرسها جنودٌ مدججون بالسلاح، ولديهم أوامر صارمة بقتل أي أعمى يقترب من البوابة.
وتزداد أعداد المصابين، ويصبح الطعام عسيرا على الحصول، كما أن بعض المجرمين من العميان، تنكروا لواقع الهمّ المشترك، وحاولوا ابتزاز العميان الأقل قوة بمحاولة الاستيلاء على ملكياتهم الصغيرة لقاء الطعام، من ساعات يدوية وأسورة ونقود، وقد انصاع العميان للعصابة التي تمتلك السلاح، ولا يتردد أفرادها عن القتل، نتيجة لحالة الفوضى.
ولم تتوقف مطالب العصابة عند هذا الحد، فقد طلبوا بأن تقدم النسوة أجسادهن لقاء الطعام، وهكذا فإن التنازلات الصغيرة، تقود إلى تنازلات باهظة، لذلك فقد بدأ الشعور بالغبن والابتزاز بالنسبة للنساء اللواتي اُغتُصبن، وقدمن إنسانيتهن من أجل أطعام أنفسهن وبقية رفاقهن من المصابين، وقد صَمّمنَ على الانتقام. فأخذت زوجة الطبيب مقصا تحت ملابسها، وشاغلت رئيس العصابة فقتلته، وهكذا انتهت سيطرة هؤلاء الحثالات البشرية الذين تراجعوا. ولكن النساء المغتصبات حاولن الثأر لكرامتهن، فأشعلن النار في عنابر العصابة، مما أحدث مزيدا من الفوضى والعنف.
ويحاول بعض العميان المحجورين الاقتراب من البوابة الرئيسية، ليكتشفوا بأن الحرس قد هربوا وتركوهم لمصيرهم. وهكذا يهيمون في شوارع المدينة التي تحولت إلى ركام من الفوضى، فالكلّ أصيب بالعمى، ويبحث عن الطعام، فقد عمّ الخراب، وانتشرت الجثث في الشوارع، وأصبحت أكداس القمامة في كل مكان، وتستطيع زوجة الطبيب أن تصل إلى بيتها، مصطحبةً زوجها وبعض المصابين، وقد تحولت إلى عينهم المبصرة ودليلهم ومنقذهم من الأزمات، ولكنها رأت أكثر منهم، كيف يكون العمى على حقيقته، فقد تلاشت قشرة الحضارة من المدينة، وتحوّلت إلى منطق ووحشية الغابات، فالبيوت قد اقتحمت، وكذلك المحال التجارية، والمقاهي ومراكز التغذية، كما انتشرت جثث الحيوانات النافقة.
واستطاعت زوجة الطبيب أن تعثر على بيتهم في وسط هذه الفوضى، فمكثت المجموعة الصغيرة في البيت لتدبير الأمور.
وكما أصيب العمى الرجل الأول، فقد عاد إليه البصر وهو يهمّ بشرب قهوته، فصرخ: "أنا أرى"، وتبعه الآخرون، وهكذا يعود البصر إلى الجميع، فيرون بأعينهم فداحة العمى.
هذه الخطوط العريضة للرواية التي شغلت أقلام النقاد منذ ظهورها حتى اليوم. ومثلما حدث العمى بدون مقدمات أو أسباب، فقد عادت الرؤية رويدا رويدا إلى الجميع، وانتهت مرارة التجربة.
ساراماغو كاتب برتغالي، وُلد في عشرينيات القرن الماضي ومات في بداية العقد الأول من القرن العشرين، عاش حياة قاتمة وبائسة، وهو من عائلة فلاحية بسيطة، اشتغل في الميكانيك وفي تصليح الأقفال، ثمّ انتقل إلى العمل في الصحافة، والتي أهّلتهُ لأن يُصبح روائيا بعد الخمسين من عمره، فحاول أن يفكّ الكثير من "الأقفال" الفلسفية المستعصية، وقد كان شيوعيا، ومات وهو يؤمن بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد للعدالة والمساواة. وكانت أغلب أعماله الروائية تبحث عن أسئلة الاستعباد.
لقد كانت روايته "العمى" تنتمي إلى الواقعية السحرية التي هي مزيج من الواقعية الاشتراكية مصحوبة بالأخيلة التي يلوي من خلالها عنق بعض المسلّمات، من أجل تأكيد الحقائق البديلة، لذلك حاول أن يستخدم الرمز، فالعمى هو نهج تدميري للبيئة والإنسان، وأنه يغلّف هذه الأنظمة، مع اعتقادها بأنها تملك نعمة البصر، لذلك يقول في الرواية على لسان زوجة الطبيب: "لا أعتقد بأننا أُصبنا بالعمى، لقد كنا عميانا منذ البداية، حتى وإن امتلكنا عيونا مُبصرة".
كثرت محاولات تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي، ولكنها تجابه برفض الكاتب الذي كان يخشى من تشويه فحوى روايته، ولكنه انصاع في النهاية لرغبة المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس، للسمعة الفنية التي يتميز بها هذا المخرج، ولكن ساراماغو اشترط على الشركة المنتجة أن تبتعد عن كل علاقة بالسينما الهوليودية، وأن تحافظ على جوهر النص، وأن تُبقي شخوص الفيلم بدون أسماء كما هي في الرواية. وقد تم تمثيل مشاهد الفيلم في مدن مختلفة ومنها تورونتو الكندية وسانت باولو البرازيلية، وقد استطاع الفيلم أن يغوص في أعماق رواية العمى، ليلتقط منها أجمل الصور التي جسدت الصراع الإنساني من أجل البقاء، فقد كانت المشاهد مؤثرة من خلال سرعة أحداث الفيلم وتسلسلها بكيفية جعلتنا نكتشف اللوعة في الإنحدار نحو كهوف التخلف، والغرائز الإنسانية المتوحشة، حيث التراجع عن معطيات الحضارة، وعن حقوق البشر، وعن تكريس علاقات الإحترام بين أفراد المجتمع. فقد تهاوى هذا الصرح الذي أنجزه الإنسان في مسيرته نحو التحضر. وسقط البشر في الحفرة العميقة التي تخيلها الفنان بيتر بروجيل في لوحته المشهورة، وهم يقودون بعضهم نحو أعماق المتاهة.
يبدأ الفيلم بالأعمى الأول، ومنه يسرى إلى شرائح عشوائية من المجتمع مثل اللص والعاهرة والطبيب والطفل، وهكذا يتحول المصابون إلى مجموعات منبوذة ومطاردة، وفائضة عن حاجة نسيجها الاجتماعي، وقد استطاع المخرج من خلال الصورة وتأثيراتها، أن يجسد لغة الرواية، وذلك من خلال الصور المتتابعة للإشارة الضوئية، وزحام الطرق وضجيج العجلات، وحركة المُشاة، وذروة الاستعجال اليومي. وحينما يصاب أحدهم بالعمى لأول مرة، فقد استفزّ هندسة الحركة اليومية الدؤوبة، لأنه عطّل السير لدقائق، وفي لحظة تأزم الوضع، يأتي شخص ليتبرع بقيادة سيارة الأعمى، ولكنّ نيته السرقة وانتهاز فرصة مواتية للابتزاز، ليأتي السؤال المُوجِع: "أي نوع من البشر يسرق من رجل أعمى؟"
ينتقل المشاهد إلى ذات النظارة السوداء والتي تبيع الجسد في غرفة أحد الفنادق، ولكن في لحظة الانهماك في الخلوة تفقد بصرها، ثم تنتقل الكاميرا بين الكثير من المشاهد والزوايا حيث يعصف هذا الوباء الغريب بين الناس، وكأنه يُطفئ ألق الحياة. وليس مصادفة أن تتنصل مؤسسات السلطة عن رعاياها، فقد اختارت لهم مستشفى الأمراض العقلية. وذلك لأن الضحايا أصبحوا لا يستحقون العيش.
ورغم أن المخرج استعان بحوالي سبعمائة من الكومبارس، فإنه ركّز عدسته على الأبطال الرئيسيين، كي يجعلهم أكثر دقة في تقمص العمى، وقد وضع عدسات لاصقة على أعينهم، كي يتقمصوا دور العمى بشكل دقيق، وقد ركّز على ملامح الوجوه، وتوجيه الظل والضوء كي يُظهر حجم الضياع، وكيف أن هؤلاء كانوا يلتفون ببعضهم، وكيف أن زوجة الطبيب كانت تلمح نوعا من التلامس الجسدي بين زوجها وبين الفتاة الشابة ذات النظارة السوداء، لذلك فقد كانت ملامحها تتأرجح ما بين الغيرة وما بين الواجب، فقد وجدت نفسها العين المبصرة لجمع من العُمي المشلولي الحركة، وكيف تمّ العشق بين اللص والعاهرة الشابة، وكأنّ العمى قد أذاب كل الفروقات بينهما، مثل العمر والعرق والماضي، وكأنّ المحنة قد عجنتهما من جديد.
صوّر لنا الفيلم بشاعة الاغتصاب القسري الذي فرضته العصابة على النساء، من أجل السماح بوصول الطعام لبقية المحجورين، لقد كان موقفا يرمز لاستباحة المرأة عبر التاريخ، ويرمز أيضا لحجم تضحياتها من أجل استمرار الحياة، من خلال مقايضة الجسد بالطعام كي تستمر الحياة للجميع.
لقطات الفيلم ركّزت على شراسة العصابة وانحطاطها، فحتى بين الضحايا من ينتهز فرصة الفوضى فيتحول إلى جلّاد! ولكنّ المقص الذي استخدمته زوجة الطبيب في قتل رئيس العصابة، يعيد للعدالة بعضا من منطقها، رغم بشاعة القتل الذي جاء كحلٍّ لا بدّ منه، لأن زوجة الطبيب كانت تحت وطأة الدفاع عن النفس والكرامة.
حينما انعتق المحجورون بعد حريق العنابر، لم يجدوا السلطة الحكومية الجبانة والتي هربت من المواجهة، لذلك فكان الفضاء مفتوحا لرؤية الكارثة، من حالة الجوع والبحث عما يسد الرمق، والشوارع التي أصبحت طافحة بالقمامة، والبشر الذين تحولوا إلى قطعان متوحشة تتصارع مع بعضها من أجل ما يسد الرمق البايلوجي. لقد اختفت القيم والمثل والعقائد وعاد الإنسان إلى مجاهيل الأدغال المظلمة.
بعد عودة زوجة الطبيب إلى بيتها، وبعد أن قادت معها أسرتها الجديدة التي تكوّنت في عنابر الحجر وهم: (المصاب الأول ذو الأصول اليابانية وزوجته، والرجل ذو العصابة والفتاة المومس والطفل الأحول).
في لحظة تأمل واسترخاء، تسرب الضوء إلى عين أول ضحية للعمى، فقد صاح بعد أن قدمت له زوجة الطبيب قهوته المفضلة، فقد تراءت له رغوة القهوة البنية فصرخ: "أنا أرى".
ورغم أن لا أحد صدّق ذلك ولكنهم انغمروا في فرح غامر، لإحساسهم بأن الرؤية التي فقدوها ستعود لهم كما حدث مع أول ضحية.
وكما انتشر العمى في المدينة فجأة وبدون مقدمات أو تفسيرات، فقد عاد بنفس الطريقة، مما يجعل الفيلم والرواية قد تغلّفا بغلالة من الرمز الذي يغلّف هذه الأحداث الافتراضية.
العمى لساراماغو الذي كُتب كرواية أو مُثّلَ كشريط سينمائي، يعبر بشكل أو بآخر عن حالة الهلع التي أصابت البشرية في هذا العام، فقد كان الإنسان منهمكا في إنتاج وسائل الاستهلاك والمتعة والقتل والمودة وتدمير البيئة واستنزاف الموارد، وانتهاج التخمة في الاستهلاك. ولكن الإنسان لم ينتهج العقلانية في تعامله مع الطبيعة الأم، ولا بأسلوب التسامح والمحبة مع غيره، فكأن العمى هو الذي سيطر على أفكارنا ورؤانا ومواقفنا، وما جائحة كوفيد 19 إلا تعبير عن هذا العمى الشامل الذي أصاب الإنسان، وجعله لا يرى إلا نفسه.
في عام 1995 كتب الأديب البرتغالي خوزيه ساراماغو روايته الشهيرة "العمى"، وبعد ثلاثة أعوام فاز بجائزة نوبل للأدب، عن جدارة واستحقاق وفق معاصريه، وكانت رواياته تترك جدلا واسعا بين الأوساط الثقافية، لعمقها الفلسفي وجرأتها وقدرتها على تناول الأسئلة الحادة في الفكر والحياة.
وما روايته العمى إلا مثال على ذلك، لأنها تغوص في معنى العوَق الذهني عند البشر، والذين يفقدون الأحاسيس والمشاعر في ذروة الكوارث والأوبئة، فيتركون الضحايا بمواجهة المجهول للتخلص منهم كبضاعة كاسدة، لقد تخلت الأنظمة عن قيمها وفضلت الهروب. وترك الضحايا يواجهون مصيرا غامضا.
والسؤال الذي تطرحه الرواية. هل الإنسان سلعة، يمكن التخلي عنها في وقت الشدة؟
وهل الأنظمة الرأسمالية - التي أعمتها تخمة المال - تكترث لكرامة الإنسان؟
لقد انتهجت الرواية فكرة الوباء الافتراضي، والذي يتنافى مع المنطق العلمي الذي يؤكد أن العمى حالة غير وبائية، ولكن الكاتب ساراماغو يُدرك ذلك، فقد قال في مقابلة صحفية: "إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع القارئ ، وهو أن ما يهمنا هو التطور المنطقي للفكرة، حتى وإن كانت منافيةً للعقل".
لذا فقد استعان بالخيال لإبراز فكرة العمى الشامل كمدلول مجازي يتسع للكثير من التفسيرات، ومنها الجهل والتخلف، والطبيعة الاستهلاكية للأنظمة الرأسمالية، التي حوّلت الإنسان إلى سلعة رخيصة، تبحث عن المنافع اليومية، وتلهث وراء تحقيق بعض الإنجازات المادية، متناسية في غمرة هذا اللهاث المحموم القيمَ والمُثل التي ناضل الفكر الإنساني لعصور، في سبيل صياغتها.
العمى يجتاح المدينة وينتقل من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى، حيث تنعدم الرؤية، وكأن ستارا حليبيا ناصع البياض يهبط على البصر. لم يسمّ الكاتب المدينة التي كانت مسرحا للعمى باسمها، وكذلك أبطاله كانوا بدون أسماء، وكان يطلق عليهم بعض الصفات للتعريف بهم مثل: (الطبيب، زوجة الطبيب، الطفل الأحول، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكهل..الخ) فالرواية تلغي المكان والزمان والأسماء، كي تظلّ صالحة لكل الأزمنة، ومحتملة الحدوث في كلّ الأمكنة، كما أن الصفات التي عرّف بهه شخوصه، كي يكونوا تشخيصا للجنس البشري، بغض النظر عن اختلافاته في العرق واللون واللغة، فالعمى مصير حتمي للبشر الذين ينهمكون في لهاثهم اليومي.
ويحاول الكاتب أن يرسم لنا دبيب العمى منذ لحظاته الأولى، حيث الحياة وضجيجها في المدن المأهولة بالسكان، وحيث الزحام والحركة في الشوارع، وفجأة فأن الشخص الأول الذي يقود سيارته توقف في التقاطع، لأن الستار الحليبي قد غلّف بصره، مما سبب إرباكا في الطريق، ويتجمع عليه المارة للوقوف على جليّة الأمر، فيتبرع أحدهم بايصاله إلى بيته، ولكنه يستغل حالته فيسرق سيارته. وحين تعلم زوجته تقوده إلى عيادة طبيب العيون، والذي وجد أن عينيه سليمتان من الناحية الطبية، ولكن العمى قد تسرب عن طريق العدوى إلى جميع المراجعين في عيادة العيون. بما فيهم الطبيب نفسه الذي اكتشف أنه لا يرى في صباح اليوم الموالي، فسارعت زوجة الطبيب للإتصال بالإسعاف لنقل زوجها. ولكن رجال الإسعاف رفضوا أن تصطحبه، مما جعلها تدّعي العمى أيضا، ولكنهم بدلا من أخذهم إلى المستشفى لعلاجهم، فقد حجروهم وكأنهم خارجون على القانون.
وتتسرب عدوى العمى بين الناس الذين اقتربوا من العميان أو لامسوهم، فأدركت السلطات الحكومية أنهم أمام وباء شديد العدوى والخطورة. لذلك قاموا بتخصيص مستشفى الأمراض العقلية، لغرض عزل المصابين، الذين تعرضوا إلى أسوء انتهاكات لإنسانيتهم، فوضعوهم تحت الحراسة المشددة، في ظروف أقرب إلى معتقلات أسرى الحرب، وظلوا يضعون لهم الطعام قرب البوابة التي يحرسها جنودٌ مدججون بالسلاح، ولديهم أوامر صارمة بقتل أي أعمى يقترب من البوابة.
وتزداد أعداد المصابين، ويصبح الطعام عسيرا على الحصول، كما أن بعض المجرمين من العميان، تنكروا لواقع الهمّ المشترك، وحاولوا ابتزاز العميان الأقل قوة بمحاولة الاستيلاء على ملكياتهم الصغيرة لقاء الطعام، من ساعات يدوية وأسورة ونقود، وقد انصاع العميان للعصابة التي تمتلك السلاح، ولا يتردد أفرادها عن القتل، نتيجة لحالة الفوضى.
ولم تتوقف مطالب العصابة عند هذا الحد، فقد طلبوا بأن تقدم النسوة أجسادهن لقاء الطعام، وهكذا فإن التنازلات الصغيرة، تقود إلى تنازلات باهظة، لذلك فقد بدأ الشعور بالغبن والابتزاز بالنسبة للنساء اللواتي اُغتُصبن، وقدمن إنسانيتهن من أجل أطعام أنفسهن وبقية رفاقهن من المصابين، وقد صَمّمنَ على الانتقام. فأخذت زوجة الطبيب مقصا تحت ملابسها، وشاغلت رئيس العصابة فقتلته، وهكذا انتهت سيطرة هؤلاء الحثالات البشرية الذين تراجعوا. ولكن النساء المغتصبات حاولن الثأر لكرامتهن، فأشعلن النار في عنابر العصابة، مما أحدث مزيدا من الفوضى والعنف.
ويحاول بعض العميان المحجورين الاقتراب من البوابة الرئيسية، ليكتشفوا بأن الحرس قد هربوا وتركوهم لمصيرهم. وهكذا يهيمون في شوارع المدينة التي تحولت إلى ركام من الفوضى، فالكلّ أصيب بالعمى، ويبحث عن الطعام، فقد عمّ الخراب، وانتشرت الجثث في الشوارع، وأصبحت أكداس القمامة في كل مكان، وتستطيع زوجة الطبيب أن تصل إلى بيتها، مصطحبةً زوجها وبعض المصابين، وقد تحولت إلى عينهم المبصرة ودليلهم ومنقذهم من الأزمات، ولكنها رأت أكثر منهم، كيف يكون العمى على حقيقته، فقد تلاشت قشرة الحضارة من المدينة، وتحوّلت إلى منطق ووحشية الغابات، فالبيوت قد اقتحمت، وكذلك المحال التجارية، والمقاهي ومراكز التغذية، كما انتشرت جثث الحيوانات النافقة.
واستطاعت زوجة الطبيب أن تعثر على بيتهم في وسط هذه الفوضى، فمكثت المجموعة الصغيرة في البيت لتدبير الأمور.
وكما أصيب العمى الرجل الأول، فقد عاد إليه البصر وهو يهمّ بشرب قهوته، فصرخ: "أنا أرى"، وتبعه الآخرون، وهكذا يعود البصر إلى الجميع، فيرون بأعينهم فداحة العمى.
هذه الخطوط العريضة للرواية التي شغلت أقلام النقاد منذ ظهورها حتى اليوم. ومثلما حدث العمى بدون مقدمات أو أسباب، فقد عادت الرؤية رويدا رويدا إلى الجميع، وانتهت مرارة التجربة.
ساراماغو كاتب برتغالي، وُلد في عشرينيات القرن الماضي ومات في بداية العقد الأول من القرن العشرين، عاش حياة قاتمة وبائسة، وهو من عائلة فلاحية بسيطة، اشتغل في الميكانيك وفي تصليح الأقفال، ثمّ انتقل إلى العمل في الصحافة، والتي أهّلتهُ لأن يُصبح روائيا بعد الخمسين من عمره، فحاول أن يفكّ الكثير من "الأقفال" الفلسفية المستعصية، وقد كان شيوعيا، ومات وهو يؤمن بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد للعدالة والمساواة. وكانت أغلب أعماله الروائية تبحث عن أسئلة الاستعباد.
لقد كانت روايته "العمى" تنتمي إلى الواقعية السحرية التي هي مزيج من الواقعية الاشتراكية مصحوبة بالأخيلة التي يلوي من خلالها عنق بعض المسلّمات، من أجل تأكيد الحقائق البديلة، لذلك حاول أن يستخدم الرمز، فالعمى هو نهج تدميري للبيئة والإنسان، وأنه يغلّف هذه الأنظمة، مع اعتقادها بأنها تملك نعمة البصر، لذلك يقول في الرواية على لسان زوجة الطبيب: "لا أعتقد بأننا أُصبنا بالعمى، لقد كنا عميانا منذ البداية، حتى وإن امتلكنا عيونا مُبصرة".
كثرت محاولات تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي، ولكنها تجابه برفض الكاتب الذي كان يخشى من تشويه فحوى روايته، ولكنه انصاع في النهاية لرغبة المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس، للسمعة الفنية التي يتميز بها هذا المخرج، ولكن ساراماغو اشترط على الشركة المنتجة أن تبتعد عن كل علاقة بالسينما الهوليودية، وأن تحافظ على جوهر النص، وأن تُبقي شخوص الفيلم بدون أسماء كما هي في الرواية. وقد تم تمثيل مشاهد الفيلم في مدن مختلفة ومنها تورونتو الكندية وسانت باولو البرازيلية، وقد استطاع الفيلم أن يغوص في أعماق رواية العمى، ليلتقط منها أجمل الصور التي جسدت الصراع الإنساني من أجل البقاء، فقد كانت المشاهد مؤثرة من خلال سرعة أحداث الفيلم وتسلسلها بكيفية جعلتنا نكتشف اللوعة في الإنحدار نحو كهوف التخلف، والغرائز الإنسانية المتوحشة، حيث التراجع عن معطيات الحضارة، وعن حقوق البشر، وعن تكريس علاقات الإحترام بين أفراد المجتمع. فقد تهاوى هذا الصرح الذي أنجزه الإنسان في مسيرته نحو التحضر. وسقط البشر في الحفرة العميقة التي تخيلها الفنان بيتر بروجيل في لوحته المشهورة، وهم يقودون بعضهم نحو أعماق المتاهة.
يبدأ الفيلم بالأعمى الأول، ومنه يسرى إلى شرائح عشوائية من المجتمع مثل اللص والعاهرة والطبيب والطفل، وهكذا يتحول المصابون إلى مجموعات منبوذة ومطاردة، وفائضة عن حاجة نسيجها الاجتماعي، وقد استطاع المخرج من خلال الصورة وتأثيراتها، أن يجسد لغة الرواية، وذلك من خلال الصور المتتابعة للإشارة الضوئية، وزحام الطرق وضجيج العجلات، وحركة المُشاة، وذروة الاستعجال اليومي. وحينما يصاب أحدهم بالعمى لأول مرة، فقد استفزّ هندسة الحركة اليومية الدؤوبة، لأنه عطّل السير لدقائق، وفي لحظة تأزم الوضع، يأتي شخص ليتبرع بقيادة سيارة الأعمى، ولكنّ نيته السرقة وانتهاز فرصة مواتية للابتزاز، ليأتي السؤال المُوجِع: "أي نوع من البشر يسرق من رجل أعمى؟"
ينتقل المشاهد إلى ذات النظارة السوداء والتي تبيع الجسد في غرفة أحد الفنادق، ولكن في لحظة الانهماك في الخلوة تفقد بصرها، ثم تنتقل الكاميرا بين الكثير من المشاهد والزوايا حيث يعصف هذا الوباء الغريب بين الناس، وكأنه يُطفئ ألق الحياة. وليس مصادفة أن تتنصل مؤسسات السلطة عن رعاياها، فقد اختارت لهم مستشفى الأمراض العقلية. وذلك لأن الضحايا أصبحوا لا يستحقون العيش.
ورغم أن المخرج استعان بحوالي سبعمائة من الكومبارس، فإنه ركّز عدسته على الأبطال الرئيسيين، كي يجعلهم أكثر دقة في تقمص العمى، وقد وضع عدسات لاصقة على أعينهم، كي يتقمصوا دور العمى بشكل دقيق، وقد ركّز على ملامح الوجوه، وتوجيه الظل والضوء كي يُظهر حجم الضياع، وكيف أن هؤلاء كانوا يلتفون ببعضهم، وكيف أن زوجة الطبيب كانت تلمح نوعا من التلامس الجسدي بين زوجها وبين الفتاة الشابة ذات النظارة السوداء، لذلك فقد كانت ملامحها تتأرجح ما بين الغيرة وما بين الواجب، فقد وجدت نفسها العين المبصرة لجمع من العُمي المشلولي الحركة، وكيف تمّ العشق بين اللص والعاهرة الشابة، وكأنّ العمى قد أذاب كل الفروقات بينهما، مثل العمر والعرق والماضي، وكأنّ المحنة قد عجنتهما من جديد.
صوّر لنا الفيلم بشاعة الاغتصاب القسري الذي فرضته العصابة على النساء، من أجل السماح بوصول الطعام لبقية المحجورين، لقد كان موقفا يرمز لاستباحة المرأة عبر التاريخ، ويرمز أيضا لحجم تضحياتها من أجل استمرار الحياة، من خلال مقايضة الجسد بالطعام كي تستمر الحياة للجميع.
لقطات الفيلم ركّزت على شراسة العصابة وانحطاطها، فحتى بين الضحايا من ينتهز فرصة الفوضى فيتحول إلى جلّاد! ولكنّ المقص الذي استخدمته زوجة الطبيب في قتل رئيس العصابة، يعيد للعدالة بعضا من منطقها، رغم بشاعة القتل الذي جاء كحلٍّ لا بدّ منه، لأن زوجة الطبيب كانت تحت وطأة الدفاع عن النفس والكرامة.
حينما انعتق المحجورون بعد حريق العنابر، لم يجدوا السلطة الحكومية الجبانة والتي هربت من المواجهة، لذلك فكان الفضاء مفتوحا لرؤية الكارثة، من حالة الجوع والبحث عما يسد الرمق، والشوارع التي أصبحت طافحة بالقمامة، والبشر الذين تحولوا إلى قطعان متوحشة تتصارع مع بعضها من أجل ما يسد الرمق البايلوجي. لقد اختفت القيم والمثل والعقائد وعاد الإنسان إلى مجاهيل الأدغال المظلمة.
بعد عودة زوجة الطبيب إلى بيتها، وبعد أن قادت معها أسرتها الجديدة التي تكوّنت في عنابر الحجر وهم: (المصاب الأول ذو الأصول اليابانية وزوجته، والرجل ذو العصابة والفتاة المومس والطفل الأحول).
في لحظة تأمل واسترخاء، تسرب الضوء إلى عين أول ضحية للعمى، فقد صاح بعد أن قدمت له زوجة الطبيب قهوته المفضلة، فقد تراءت له رغوة القهوة البنية فصرخ: "أنا أرى".
ورغم أن لا أحد صدّق ذلك ولكنهم انغمروا في فرح غامر، لإحساسهم بأن الرؤية التي فقدوها ستعود لهم كما حدث مع أول ضحية.
وكما انتشر العمى في المدينة فجأة وبدون مقدمات أو تفسيرات، فقد عاد بنفس الطريقة، مما يجعل الفيلم والرواية قد تغلّفا بغلالة من الرمز الذي يغلّف هذه الأحداث الافتراضية.
العمى لساراماغو الذي كُتب كرواية أو مُثّلَ كشريط سينمائي، يعبر بشكل أو بآخر عن حالة الهلع التي أصابت البشرية في هذا العام، فقد كان الإنسان منهمكا في إنتاج وسائل الاستهلاك والمتعة والقتل والمودة وتدمير البيئة واستنزاف الموارد، وانتهاج التخمة في الاستهلاك. ولكن الإنسان لم ينتهج العقلانية في تعامله مع الطبيعة الأم، ولا بأسلوب التسامح والمحبة مع غيره، فكأن العمى هو الذي سيطر على أفكارنا ورؤانا ومواقفنا، وما جائحة كوفيد 19 إلا تعبير عن هذا العمى الشامل الذي أصاب الإنسان، وجعله لا يرى إلا نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.