5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العمى" من رواية ساراماغو إلى مسرح مصري
نشر في صوت البلد يوم 26 - 03 - 2020

ليس أصعب من تحويل رواية مركّبة ومربكة ومتعددة الأصوات والدلالات، إلى عمل مسرحي يحافظ على رؤية كاتبها الأصلي وخطوطها الأساسية، حتى لو جرى اختزال الكثير من أحداثها الطويلة والمتداخلة، والاكتفاء بإشارات دالة.
نجح الدراماتورج الشاب أحمد عصام في صياغة نص مسرحي محكم عن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، قدَّمته فرقة المركز الثقافي في مدينة طنطا (80 كيلومترًا شمال القاهرة). رواية ساراماغو الشهيرة تحوَّلت من قبل إلى فيلم سينمائي كندي، وأوبرا تم تقديمها في مدينة زيورخ، وعروض مسرحية عدة حول العالم، لكنها المرة الأولى التي تقدَّم كعرض مسرحي في مصر، وهو ما يحسب لصناع العرض.
الفرقة التي تنتمي إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة (مؤسسة حكومية)، جميع ممثليها من الهواة، (محمد فتح الله، بوسي المنشاوي، آية سامي، محمد سلامة، مؤمن الشافعي، مصطفى العشري، محمد سامي، جمال شريف، أحمد خفاجي، محمد محسن، أحمد الرمادي، محمد السليسلي، محمد أسامة، عبد الله نافع، أمل عبد المنعم، إسلام سمير، بدرية صابر، منى أبوزيد، عبد الرحيم نجم، إسراء سمير، حاتم الجيار، رنا فتحي، وهاجر عزت)، وتضم ثلاثة محترفين فقط: المخرج السعيد منسي، مصمم الديكور والملابس محمود الغريب، مؤلف الموسيقى صادق ربيع. وعلى الرغم من ذلك قدمت عملاً مسرحيًّا نوعيًّا ومتماسكًا، مشوقًا وأسيانًا ومقبضًا في الوقت ذاته، فقط لأن هؤلاء عملوا على أنفسهم بشكل جيد، واستوعبوا طبيعة العمل وأزمة شخصياته الوجودية.
أداء احترافي
ولعل خبرة المخرج، الذي قاد هذا الفريق، هي ما أدى إلى هذه النتيجة التي بدا فيها كل شئ مسيطرًا عليه بدقة، وجاء أداء الممثلين كأنهم محترفون يدركون جيداً قيمة وصعوبة العمل الذي يتصدون له، لا مبالغات ينحرف العمل معها عن غايته، بخاصة أننا أمام أكثر من عشرين شخصية مصابة بالعمى، باستثناء شخصية واحدة، ما يغري بعض الممثلين، الهواة، بالمبالغة في الأداء لانتزاع الضحكات، أو – بحسب لغة المسرحيين- "السوكسيهات"، مدركين أن أي انحراف ولو بسيط سيذهب بالعمل إلى جهة أخرى تمامًا.
أحداث العرض تدور داخل عنبر في مستشفى، لم يهتم الدراماتورج بالتفاصيل الدقيقة في الرواية، ومنها أن هؤلاء العميان أصابهم العمى فجأة، وأن إصابتهم تنتقل بالعدوى، ولذلك فهم محتجزون في مستشفى للأمراض العقلية مهجور، وموزعون على عنابر "حجرات" ثلاثة. تم الاكتفاء بعنبر واحد يقبع فيه الجميع، ما زاد من وطأة الأحداث والصراعات ولاإنسانيتها، وفي بعض المشاهد، ومن خلال بانوراما خلفية شفَّافة صور لنا عنبراً آخر يضم مجموعة العميان الأشرار الذين انفصلوا عن المجموعة ومارسوا الابتزاز على بقية نزلاء الحجر الصحي الذي استخدمته السلطات لعزلهم، وتركت لهم تدبير شؤونهم بأنفسهم، مكتفية بمدهم بوجبات لا تسد الرمق، وتعيين جنود يقفون للحراسة على مبعدة منهم، يهددون بقتل كل من يتجاوزالخط الأحمر الذي لا يراه العميان أصلاً.
برودة وعزلة
مصمم الديكور والملابس اهتم بتفاصيل ذلك العنبر، الذي بدا، على الرغم من فوضاه وقذارته، مريحًا على المستوى الجمالي، وأعطى إيحاء بالبرودة والعزلة، وجسَّد حجم المأساة التي يحيا فيها أولئك العميان، كما اكتفى بزي موحَّد للنزلاء باللون البرتقالي، وتكفلت الإضاءة (صممها عمرو جودة) بتنويعاتها المختلفة، بعكس الأجواء النفسية والروح الوحشية التي تلبَّست معظم النزلاء، وكانت ذروة نجاحها في المشهد الختامي، مشهد الحريق الذي لعبت فيه الإضاءة دور البطولة، فضلاً عن الموسيقى التي أسهمت هي الأخرى بشكل لافت في تصوير نقلات العرض وتوتراته بخاصة أنها مؤلَّفة للعمل ومستغرقة في تفاصيله الإنسانية الدقيقة، وليست مختارات من الموسيقى العالمية مثلاً، كما يحدث في معظم عروض الهواة. وهناك كذلك الاستعراضات (صمَّمها سمير نصري) التي راعَت طبيعة الشخصيات وما تتطلبه من حركة نوعية لا تفضي، هي الأخرى، إلى الضحك أو السخرية.
الأحداث تبدأ مباشرة من "عنبر" الحجر الصحي، ومن خلال الحوار بين الشخصيات نكتشف تاريخ كل شخصية وكيف أصابها العمى وجاءت إلى هذا المستشفى، وكذلك علاقة كل منها بالأخرى، حيث ثمة أحداث وقعت بينهم قبل دخولهم الحجر، وكما جاء في الرواية فإننا في العرض لا أسماء لدينا بل صفات: الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة السوداء، الطفل الأحول، الأم، وهكذا. فضلاً عن عدم تحديد الزمان والمكان اللذين تدور فيهما الأحداث، وكأننا أمام أزمة يمكن أن تحدث في أي زمان وأي مكان، وهي أزمة الإنسان الذي يتعرض لمحنة يتحول على إثرها إلى كائن آخر ربما أدنى من الحيوان.
قناع زائف
نحن هنا- حتى لمن لم يطالع الرواية- أمام الإنسان في أحط صوره وأقذرها، بخاصة عندما يتعرض لأزمة لا يفقد معها إنسانيته بقدر ما يخلع عنها ذلك القناع الزائف المسمى بالتحضر، وكأننا أمام إدانة شديدة البلاغة لفكرة المدنية أو التحضر التي لا تعدو أن تكون مجرد قناع زائف يخفي خلفه وحوشاً في هيئة بشر. إن الإنسان، هنا، تكمن بداخله بذور الشر، يعود كائنًا متوحشًا شرهًا، لا هم له سوى إشباع حاجته إلى المأكل والمشرب والجنس، لديه استعداد لبيع كل شيء حتى شرفه لتتحقق له هذه الحاجات، ولديه استعداد للقتل والخيانة وارتكاب الموبقات كافة من أجل البقاء، وما التحضر الذي يبدو عليه وقت الرخاء سوى قناع زائف ما يلبث أن ينزعه وقت الشدة. ولعل الأمر أيضًا، في وجه آخر للمأساة، يخص الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، وكأنه إنذار أن انتبهوا إلى ما يمكن أن يصبح عليه المواطن إذا لم يستطع أن يلبي حاجاته البسيطة والطبيعية.
يعكس المستشفى القذر، الذي يقيم فيه العميان، صورة المجتمع في الخارج، سواء من حيث السلطة المستبدة وغياب عدالتها، وكيفية تعاملها مع مرضى عميان وتركهم يديرون شؤونهم بأنفسهم، من دون حتى أن توفر لهم حاجاتهم اليومية التي تبقيهم على قيد الحياة، وعلى قدر من الإنسانية، ما يجعل مجموعة منهم تلجأ إلى العنف والابتزاز للحصول على حاجاتهم، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه الآخرون. أي أن الإدانة هنا لا تخص المجتمع فقط بل تخص، وربما بصورة أكبر، الحكَّام الذين أوصلوه إلى هذه الدرجة من الانحطاط والتوحش.
وإذا كانت الأخلاق قد انتفت في هذا المجتمع البائس، وماتت الضمائر، فإن ثم أملاً تجسده زوجة الطبيب التي ادعت اصابتها بالعمى لتكون إلى جوار زوجها، وتظل النقطة الوحيدة المضيئة في العرض، وهو، في كل الأحوال، أمل مشوب بطعم التشاؤم. تقول الزوجة: "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم في الحقيقة لا يرون". وكأنها تلمح إلى ذلك العمى الفكري الذي أصاب المجتمع، وجعله يتغذى على نفسه، في حين أن وحشيته هذه يجب أن تتوجه إلى من أوصله إلى هذه الحالة التي تشوَّشت فيها أفكاره وبصيرته.
لا تلتزم المسحية بنهاية الرواية، فهي تتوقف عند قيام مجموعة العميان، الواقع عليهم الابتزاز، بإحراق المستشفى والهروب، لا نعلم إلى أين، لكنه هروب يضعنا أمام المزيد من الأسئلة عن مصير الإنسان في عالم يدعي الإنسانية لكنه ليس كذلك على طول الخط.
ليس أصعب من تحويل رواية مركّبة ومربكة ومتعددة الأصوات والدلالات، إلى عمل مسرحي يحافظ على رؤية كاتبها الأصلي وخطوطها الأساسية، حتى لو جرى اختزال الكثير من أحداثها الطويلة والمتداخلة، والاكتفاء بإشارات دالة.
نجح الدراماتورج الشاب أحمد عصام في صياغة نص مسرحي محكم عن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، قدَّمته فرقة المركز الثقافي في مدينة طنطا (80 كيلومترًا شمال القاهرة). رواية ساراماغو الشهيرة تحوَّلت من قبل إلى فيلم سينمائي كندي، وأوبرا تم تقديمها في مدينة زيورخ، وعروض مسرحية عدة حول العالم، لكنها المرة الأولى التي تقدَّم كعرض مسرحي في مصر، وهو ما يحسب لصناع العرض.
الفرقة التي تنتمي إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة (مؤسسة حكومية)، جميع ممثليها من الهواة، (محمد فتح الله، بوسي المنشاوي، آية سامي، محمد سلامة، مؤمن الشافعي، مصطفى العشري، محمد سامي، جمال شريف، أحمد خفاجي، محمد محسن، أحمد الرمادي، محمد السليسلي، محمد أسامة، عبد الله نافع، أمل عبد المنعم، إسلام سمير، بدرية صابر، منى أبوزيد، عبد الرحيم نجم، إسراء سمير، حاتم الجيار، رنا فتحي، وهاجر عزت)، وتضم ثلاثة محترفين فقط: المخرج السعيد منسي، مصمم الديكور والملابس محمود الغريب، مؤلف الموسيقى صادق ربيع. وعلى الرغم من ذلك قدمت عملاً مسرحيًّا نوعيًّا ومتماسكًا، مشوقًا وأسيانًا ومقبضًا في الوقت ذاته، فقط لأن هؤلاء عملوا على أنفسهم بشكل جيد، واستوعبوا طبيعة العمل وأزمة شخصياته الوجودية.
أداء احترافي
ولعل خبرة المخرج، الذي قاد هذا الفريق، هي ما أدى إلى هذه النتيجة التي بدا فيها كل شئ مسيطرًا عليه بدقة، وجاء أداء الممثلين كأنهم محترفون يدركون جيداً قيمة وصعوبة العمل الذي يتصدون له، لا مبالغات ينحرف العمل معها عن غايته، بخاصة أننا أمام أكثر من عشرين شخصية مصابة بالعمى، باستثناء شخصية واحدة، ما يغري بعض الممثلين، الهواة، بالمبالغة في الأداء لانتزاع الضحكات، أو – بحسب لغة المسرحيين- "السوكسيهات"، مدركين أن أي انحراف ولو بسيط سيذهب بالعمل إلى جهة أخرى تمامًا.
أحداث العرض تدور داخل عنبر في مستشفى، لم يهتم الدراماتورج بالتفاصيل الدقيقة في الرواية، ومنها أن هؤلاء العميان أصابهم العمى فجأة، وأن إصابتهم تنتقل بالعدوى، ولذلك فهم محتجزون في مستشفى للأمراض العقلية مهجور، وموزعون على عنابر "حجرات" ثلاثة. تم الاكتفاء بعنبر واحد يقبع فيه الجميع، ما زاد من وطأة الأحداث والصراعات ولاإنسانيتها، وفي بعض المشاهد، ومن خلال بانوراما خلفية شفَّافة صور لنا عنبراً آخر يضم مجموعة العميان الأشرار الذين انفصلوا عن المجموعة ومارسوا الابتزاز على بقية نزلاء الحجر الصحي الذي استخدمته السلطات لعزلهم، وتركت لهم تدبير شؤونهم بأنفسهم، مكتفية بمدهم بوجبات لا تسد الرمق، وتعيين جنود يقفون للحراسة على مبعدة منهم، يهددون بقتل كل من يتجاوزالخط الأحمر الذي لا يراه العميان أصلاً.
برودة وعزلة
مصمم الديكور والملابس اهتم بتفاصيل ذلك العنبر، الذي بدا، على الرغم من فوضاه وقذارته، مريحًا على المستوى الجمالي، وأعطى إيحاء بالبرودة والعزلة، وجسَّد حجم المأساة التي يحيا فيها أولئك العميان، كما اكتفى بزي موحَّد للنزلاء باللون البرتقالي، وتكفلت الإضاءة (صممها عمرو جودة) بتنويعاتها المختلفة، بعكس الأجواء النفسية والروح الوحشية التي تلبَّست معظم النزلاء، وكانت ذروة نجاحها في المشهد الختامي، مشهد الحريق الذي لعبت فيه الإضاءة دور البطولة، فضلاً عن الموسيقى التي أسهمت هي الأخرى بشكل لافت في تصوير نقلات العرض وتوتراته بخاصة أنها مؤلَّفة للعمل ومستغرقة في تفاصيله الإنسانية الدقيقة، وليست مختارات من الموسيقى العالمية مثلاً، كما يحدث في معظم عروض الهواة. وهناك كذلك الاستعراضات (صمَّمها سمير نصري) التي راعَت طبيعة الشخصيات وما تتطلبه من حركة نوعية لا تفضي، هي الأخرى، إلى الضحك أو السخرية.
الأحداث تبدأ مباشرة من "عنبر" الحجر الصحي، ومن خلال الحوار بين الشخصيات نكتشف تاريخ كل شخصية وكيف أصابها العمى وجاءت إلى هذا المستشفى، وكذلك علاقة كل منها بالأخرى، حيث ثمة أحداث وقعت بينهم قبل دخولهم الحجر، وكما جاء في الرواية فإننا في العرض لا أسماء لدينا بل صفات: الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة السوداء، الطفل الأحول، الأم، وهكذا. فضلاً عن عدم تحديد الزمان والمكان اللذين تدور فيهما الأحداث، وكأننا أمام أزمة يمكن أن تحدث في أي زمان وأي مكان، وهي أزمة الإنسان الذي يتعرض لمحنة يتحول على إثرها إلى كائن آخر ربما أدنى من الحيوان.
قناع زائف
نحن هنا- حتى لمن لم يطالع الرواية- أمام الإنسان في أحط صوره وأقذرها، بخاصة عندما يتعرض لأزمة لا يفقد معها إنسانيته بقدر ما يخلع عنها ذلك القناع الزائف المسمى بالتحضر، وكأننا أمام إدانة شديدة البلاغة لفكرة المدنية أو التحضر التي لا تعدو أن تكون مجرد قناع زائف يخفي خلفه وحوشاً في هيئة بشر. إن الإنسان، هنا، تكمن بداخله بذور الشر، يعود كائنًا متوحشًا شرهًا، لا هم له سوى إشباع حاجته إلى المأكل والمشرب والجنس، لديه استعداد لبيع كل شيء حتى شرفه لتتحقق له هذه الحاجات، ولديه استعداد للقتل والخيانة وارتكاب الموبقات كافة من أجل البقاء، وما التحضر الذي يبدو عليه وقت الرخاء سوى قناع زائف ما يلبث أن ينزعه وقت الشدة. ولعل الأمر أيضًا، في وجه آخر للمأساة، يخص الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، وكأنه إنذار أن انتبهوا إلى ما يمكن أن يصبح عليه المواطن إذا لم يستطع أن يلبي حاجاته البسيطة والطبيعية.
يعكس المستشفى القذر، الذي يقيم فيه العميان، صورة المجتمع في الخارج، سواء من حيث السلطة المستبدة وغياب عدالتها، وكيفية تعاملها مع مرضى عميان وتركهم يديرون شؤونهم بأنفسهم، من دون حتى أن توفر لهم حاجاتهم اليومية التي تبقيهم على قيد الحياة، وعلى قدر من الإنسانية، ما يجعل مجموعة منهم تلجأ إلى العنف والابتزاز للحصول على حاجاتهم، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه الآخرون. أي أن الإدانة هنا لا تخص المجتمع فقط بل تخص، وربما بصورة أكبر، الحكَّام الذين أوصلوه إلى هذه الدرجة من الانحطاط والتوحش.
وإذا كانت الأخلاق قد انتفت في هذا المجتمع البائس، وماتت الضمائر، فإن ثم أملاً تجسده زوجة الطبيب التي ادعت اصابتها بالعمى لتكون إلى جوار زوجها، وتظل النقطة الوحيدة المضيئة في العرض، وهو، في كل الأحوال، أمل مشوب بطعم التشاؤم. تقول الزوجة: "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم في الحقيقة لا يرون". وكأنها تلمح إلى ذلك العمى الفكري الذي أصاب المجتمع، وجعله يتغذى على نفسه، في حين أن وحشيته هذه يجب أن تتوجه إلى من أوصله إلى هذه الحالة التي تشوَّشت فيها أفكاره وبصيرته.
لا تلتزم المسحية بنهاية الرواية، فهي تتوقف عند قيام مجموعة العميان، الواقع عليهم الابتزاز، بإحراق المستشفى والهروب، لا نعلم إلى أين، لكنه هروب يضعنا أمام المزيد من الأسئلة عن مصير الإنسان في عالم يدعي الإنسانية لكنه ليس كذلك على طول الخط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.