قبل انطلاق النسخة الثالثة.. صفقات أندية دوري المحترفين موسم 2025-2026    قناة «هي» تعلن عن برنامج سياسي جديد بعنوان «السياسة أسرار»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 22 أغسطس 2025    عيار 21 يسجل رقما جديدا.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025 بالصاغة بعد الانخفاض    رسميا بعد إلغاء الاشتراطات.. خطوات استخراج رخصة بناء جديدة وعدد الأدوار المسموح بها    «حفظ الله مصر والسعودية».. أحمد موسى يدعو للتكاتف ضد «إسرائيل الكبرى»    الزمالك يكشف تفاصيل.. إصابة أحمد حمدي.. وإعياء محمد صبحي    كايد: المباراة ضد مودرن كانت صعبة.. ولم أتوقع هذا الحب من جماهير الزمالك    لاعب الأهلي الأسبق: ديانج لا غنى عنه.. وبن رمضان الصفقة الأفضل    اليوم انطلاق مباريات دوري المحترفين بإقامة 3 مباريات    أول تعليق من يانيك فيريرا بعد فوز الزمالك على مودرن سبورت بالدوري    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع فوز الزمالك على مودرن سبورت بالدوري؟ (كوميك)    روسيا تفرض على مواطنيها تطبيق منافس لتطبيق واتساب.. ما القصة؟    غرق طالب فيومي يدرس الطب بروسيا خلال إجازته الصيفية في مطروح    محكمة الإسماعيلية تحيل أوراق المتهم بإنهاء حياة أبناءه الأربعة إلى مفتي الديار المصرية    سهرة طربية فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. على الحجار يبدأ حفله ب"المال والبنون".. وإبداع من نوع خاص فى أداء "الزين والزينة" و"عارفة".. نجم الغناء يشعل حماس الجمهور بالأغانى الوطنية والحضور يرفع أعلام مصر    «بيحبوا يقعدوا لوحدهم».. 4 أبراج تجد راحتها في العزلة    محمد رمضان ينشر فيديو استقباله في بيروت: "زي ما فرحتوني هدلعكم"    12 عرضًا عربيًا في الدورة ال32 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي    مش هتشتريه تاني.. طريقة عمل السردين المخلل في البيت    طريقة عمل السينابون بالقرفة بسهولة في المنزل    «هتسد شهيتك وتحرق دهونك».. 4 مشروبات طبيعية تساعد على التخسيس    تظهر على أصابعك- 3 علامات تخبرك بأن كبدك مريض.. أعراض أمراض الكبد على الأصابع    مصرع شابين غرقا بنهر النيل فى دار السلام بسوهاج    جمصة تحذر من ارتفاع الأمواج اليوم وتطالب بالالتزام بتعليمات فرق الإنقاذ    اليوم.. فصل التيار الكهربائى عن عدد من مناطق وأحياء مدينة كفر الشيخ    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    تقارير استخباراتية إسرائيلية : أغلب ضحايا حرب غزة من المدنيين    زيلينسكي: بوتين لا يفهم سوى القوة والضغط    ما الذي يمنع ظهور حزب معارض قادر على المنافسة بالبرلمان؟ وزير الشؤون النيابية يجيب    جمعوا 100 مليون دولار.. غانا تسلم أمريكا "النصابين الثلاثة".. ما القصة    إعدام مغتصب سيدة المقابر.. تفاصيل جريمة بشعة هزت الإسماعيلية    3 ظواهر جوية تضرب البلاد .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : «توخوا الحذر»    جهات طبية تقدم خدمات علاجية للمحامين بالمجان    الشئون النيابية: الدستور يمنح الحق الكامل في تكوين الأحزاب بالإخطار    محمود فوزي: الحكومة ملتزمة بحماية المواطنين في تطبيق قانون الإيجار القديم    منتدى المنظمات الأهلية ب"القومى للمرأة" يعقد اجتماعه الدورى    الولايات المتحدة تفرض عقوبات على ميسري مبيعات النفط الإيرانية    علي الحجار ممازحا جمهور مهرجان القلعة: هغني 10 أغاني علشان تلحقوا تروحوا (فيديو)    «إزاي قبلت الإهانة».. تفاعل مع فيديو لعريس يركل عروسه ويسقطها في حمام السباحة    حدث بالفن| النصب على فنانة وإحالة نجمة لمجلس تأديب والتقرير الكامل لحالة أنغام الصحية    السولية: الإسماعيلي صاحب الفضل الأول فى صناعة اسمى وراض عن فترتى مع الأهلي    أيمن يونس: تغييرات فيريرا حافظت على الفوز أمام مودرن    برشلونة يمتلك أصغر معدل أعمار فى الدوري الإسباني موسم 2025    العثور على 6 جثث في مصنع ألبان بولاية كولورادو الأمريكية    وكيل وزارة الصحة بالإسكندرية يتفقد المستشفيات العامة بالإقليم    خام النفط يرتفع مع قوة الطلب الأمريكي    «الدراسات المستقبلية»: إسرائيل تجاوزت الخطوط الحمراء وتفرض ما يشبه «التطبيع المجاني»    خالد الجندي: الدفاع عن الوطن وحماية مصالحه من تعاليم الإسلام    في مؤتمر صحفي.. قائمة المستقبل تعلن عن مرشحيها وبرنامجها لخوض انتخابات نقابة الأطباء    محافظ القليوبية يستعين بخبرات طبية لمتابعة مصاب حريق الشدية ببنها    قاضي قضاة فلسطين: المسجد الأقصى سيبقى إسلاميًا وعلى العالم الإسلامي حمايته    هل يستجاب دعاء الأم على أولادها وقت الغضب؟.. أمين الفتوى يجيب    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث ملفات العمل والتعاون المشترك    السيسي يصدر قانونًا بتعديل بعض أحكام قانون الرياضة    متصلة: بنت خالتي عايزة تتزوج عرفي وهي متزوجة من شخص آخر.. أمين الفتوى يرد    لا أستطيع أن أسامح من ظلمنى.. فهل هذا حرام؟ شاهد رد أمين الفتوى    رئيس المعاهد الأزهرية يتفقد المشروع الصيفي للقرآن الكريم بأسوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمين معلوف يستمد من "المعجزة الأثينية" رواية مستقبلية
نشر في صوت البلد يوم 13 - 10 - 2020

بعد بحوثه المرجعية الثلاثة: "الهويات القاتلة" (1998)، و"اختلال العالم" (2009)، و"غرق الحضارات" (2019)، التي عبَّر فيها عن مخاوفه المشروعة من المخاطر المختلفة والطارئة التي تتهدد عالمنا، كان قُرَّاء كُثر ينتظرون، لا بل يتمنون، أن يتناول الكاتب اللبناني أمين معلوف موضوعات هذه البحوث في رواية. وها هو يلبي هذه الأمنية في روايته التاسعة والجديدة "إخوتنا غير المتوقعين"، التي صدرت حديثاً عن دار "غراسيه" الباريسية، وتسقطنا أحداثها داخل عالم على شفير حرب نووية تنقذه مجموعة بشرية لم يكن أحد يشك بوجودها.
الرواية مكتوبة على شكل يوميات يدونها رجل في منتصف العمر يُدعى ألكسندر على مدى شهر من الزمن، خلال فترة غير محددة، لكن راهنة. ألكسندر رسام شرائط مصورة مرصودة للصحافة المكتوبة، يعيش في جزيرة صغيرة تُدعى "أنطاكيا"، وتقع ضمن أرخبيل "لي شيرون" الخرافي في المحيط الأطلسي، على مقربة من الشواطئ الفرنسية. جزيرة اشتراها والده الكندي، وقرر الاستقرار فيها حين عرف، بعد بحث عن أصوله، أن الأرخبيل المذكور هو موطن أسلافه، لكن يشاء القدر أن يكون تحقيق حلمه هذا على يد ابنه، بعد وفاة والديه. وما يمكنه من تحقيق هذا الحلم هو دخله الثابت من رسومه التي تلقى شعبية كبيرة، وإمكانية إنجازها وإرسالها إلى الصحف والمجلات من أي مكان، شرط توافر الإنترنت فيه.
على جزيرته غير المأهولة، يتمتع ألكسندر بعُزلة كلية لا يعكرها أحد، بما في ذلك جارته الوحيدة، إيف سان جيل، وهي روائية غامضة وغير ودودة أصدرت رواية واحدة بعنوان "لم يعد المستقبل يسكن على هذا العنوان" جلبت لها شهرةً كبيرة، وجعلت منها رمزاً لجيل فقد جميع مثله، ومعها ثقته بسير البشرية، قبل أن تجف قريحتها وتقع في طي النسيان، فتشتري الجزء الصغير الذي لا يملكه ألكسندر من الجزيرة، وتستقر فيه، لكن لا شبه في عزلة كل منهما. فبينما يعود ابتعاد إيف عن البشر إلى كرهها لهم، ابتعد ألكسندر عن العالم للتأمل فيه بهدوء أكبر وفهمه وتقبله بشكل أفضل.
الهاجس النووي
وفي أحد الأيام، وبينما كان ألكسندر منكباً على الرسم، تنقطع الكهرباء داخل منزله ومعها جميع وسائل الاتصال والبث، فيتسلط القلق عليه من احتمال أن تكون قد اندلعت حرب نووية أبادت البشرية جمعاء، باستثنائه، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت قد قررت قبل بضعة أيام، إثر تفجير إرهابي نووي قرب واشنطن، تدمير الرؤوس النووية التي نصبها في القوقاز مارشال سابق في الجيش الروسي تبنى العملية المذكورة. ويجب انتظار اليوم التالي، وإصغائه إلى خطاب الرئيس الأميركي هاورد ميلتون، بعد عودة الأمور إلى نصابها، كي يتبين له أن الكارثة النووية لم تقع، وأن من حال دون وقوعها هو ليس حكمة المسؤولين السياسيين في واشنطن، بل طرف ثالث مجهول كلياً "يرانا، يسمعنا، يراقب كل حركة من حركاتنا، يمنعنا من هذا ويسمح لنا بذلك، كما يحلو له"، على حد قول مورو، صديق ألكسندر، الذي يعمل مستشاراً للرئيس الأميركي. طرف "لم نعد قادرين على القيام بأي حركة من دون موافقته، ولا نعرف أي شيء عنه، لا من أين أتى، ولا كيف يعمل، ولا ما هي نواياه".
وبسرعة يتبين لألكسندر ولنا أن هذا الطرف هو مجموعة بشرية ليست في خدمة أي أمة أو قوة معروفة، ولا هدف لتدخلها سوى تجنيب العالم كارثة نووية كانت على وشك الوقوع. مجموعة حريصة على العودة إلى دورها كمراقب ما إن يتم إبعاد الخطر. أما لماذا تحمل اسم "أصدقاء أمبيدوكليس"، ويحمل جميع أفرادها أسماء يونانية، فلأنها تعود بأصولها إلى الحضارة الإغريقية، وتبجل خصوصاً "المعجزة الأثينية"، أي تلك الفترة التاريخية المجيدة التي لا تتجاوز بضعة عقود وعرفت البشرية خلالها تطوراً مدهشاً في ميادين علمية وثقافية كثيرة على يد حفنة قليلة من البشر. معجزة، في اللحظة التي بدأت شعلتها تخفت، قرر أسلاف هذه المجموعة المحافظة على قيم حضارتهم بأي ثمن، فغادروا اليونان ولا شيء في جعبتهم سوى "مضمون نفوسهم".
هكذا انقسمت البشرية منذ زمن سحيق إلى بشريتين: "واحدة تعيش في النور، لكنها تحمل الظل، وواحدة تعيش في الظل، لكنها تحمل النور، وكل واحدة تقدمت على طريقها الخاص ووفقاً لإيقاعها الخاص"، فسار "أصدقاء أمبيدوكليس" إلى الأمام من دون أن يورطوا أنفسهم في خلافاتنا، أو يتلهوا بمعتقداتنا الغبية. وهو ما يفسر تقدمهم علينا ليس فحسب في جميع ميادين المعرفة، بل أيضاً في تحقيق الذات وبلوغ السعادة. أما لماذا تجنبوننا طوال مسيرتهم ولم يكشفوا عن وجودهم ويحاولوا مساعدتنا قبل اليوم، فلسبب بديهي بسيط، وهو أن نزواتنا القاتلة وكراهيتنا المتجذرة وبدائيتنا كانت ستدفعنا حتماً إلى استخدام معارفهم، إن تملكناها، لتدمير بعضنا بعضاً وإبادة كل حياة وحضارة على وجه الأرض.
لقاء الأعداء والأصدقاء
لن نكشف مآل هذا اللقاء المُدهش بين البشريتين وكيف ينتهي، كي لا نفسد متعة قراءة الرواية، لكن ما يمكننا أن نقوله هو إن ظهور "أصدقاء أمبيدوكليس"، بطبهم المتقدم ومستشفياتهم العائمة، سيؤدي إلى قلب سلم الأولويات والقيم في كل أنحاء المعمورة. ولا عجب في ذلك، ف"حين نصبح قادرين على هزم المرض وتعزيم الشيخوخة ودحر الموت، لا يعود أي شيء في حياتنا يحظى بالأهمية نفسها، لا المال ولا الوقت ولا العمل ولا التراتبيات الاجتماعية ولا العلاقات المبنية على القوة. وكل ما يتحكم بمجتمعاتنا اليوم يصير هامشياً، من زمن مضى، وبالتالي لا لزوم له".
وهذا ما يقودنا إلى الرسالة المركزية التي يسيرها معلوف على طول روايته، قبل أن يضعها على لسان أحد "أصدقاء أمبيدوكليس"، الطبيب بوزانياس: "حين يتبع بعض البشر طريقهم الخاص، من دون أن يكون ذهنهم مقيداً بالمحرمات والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون لديهم شاغل آخر غير دحر الجهل، سيتمكنون من المُضي قُدماً بشكل أسرع من الآخرين، ويجدون أنفسهم بعيداً جداً في الأمام".
وبالتالي، لا مجانية في اللقاء الخرافي الذي يتخيله الكاتب بين بشريتنا و"إخوة عير متوقعين" لنا يسبقوننا في كل شيء، بل محاولة حميدة لحثنا على تقييم ما نحن عليه اليوم ومعرفة ما الذي وضعنا على الطريق الخطأ، وكيف يمكننا تصحيح وجهة سيرنا، قبل فوات الأوان. لقاء بقدر ما يعكس، بجانبه غير المحتمل، تفاؤلاً لا يتزعزع لدى صاحب "صخرة طانيوس"، يقود إلى حقيقة مريرة مفادها أننا بتنا اليوم نحتاج إلى معجزة، مثل هذا اللقاء، لتلافي "غرق حضاراتنا" الوشيك.
باختصار، "الإخوة غير المتوقعين" قد لا تكون أهم من روايات معلوف السابقة، لكنها بالتأكيد رواية مهمة وآسرة بقصتها المثيرة وعبرها الكثيرة، بالتأملات الثاقبة التي تتضمنها في محنة عالمنا اليوم، بحيوية نصها الناتجة من استخدام صيغة المتكلم لسرد أحداثها واستثمار عنصر التشويق بمهارة داخلها، من دون أن ننسى نفس كاتبها السردي الفريد ونثره الرشيق اللذين يحملاننا بخفة نادرة حتى صفحتها الأخيرة ويجعلاننا نرغب في المزيد.
بعد بحوثه المرجعية الثلاثة: "الهويات القاتلة" (1998)، و"اختلال العالم" (2009)، و"غرق الحضارات" (2019)، التي عبَّر فيها عن مخاوفه المشروعة من المخاطر المختلفة والطارئة التي تتهدد عالمنا، كان قُرَّاء كُثر ينتظرون، لا بل يتمنون، أن يتناول الكاتب اللبناني أمين معلوف موضوعات هذه البحوث في رواية. وها هو يلبي هذه الأمنية في روايته التاسعة والجديدة "إخوتنا غير المتوقعين"، التي صدرت حديثاً عن دار "غراسيه" الباريسية، وتسقطنا أحداثها داخل عالم على شفير حرب نووية تنقذه مجموعة بشرية لم يكن أحد يشك بوجودها.
الرواية مكتوبة على شكل يوميات يدونها رجل في منتصف العمر يُدعى ألكسندر على مدى شهر من الزمن، خلال فترة غير محددة، لكن راهنة. ألكسندر رسام شرائط مصورة مرصودة للصحافة المكتوبة، يعيش في جزيرة صغيرة تُدعى "أنطاكيا"، وتقع ضمن أرخبيل "لي شيرون" الخرافي في المحيط الأطلسي، على مقربة من الشواطئ الفرنسية. جزيرة اشتراها والده الكندي، وقرر الاستقرار فيها حين عرف، بعد بحث عن أصوله، أن الأرخبيل المذكور هو موطن أسلافه، لكن يشاء القدر أن يكون تحقيق حلمه هذا على يد ابنه، بعد وفاة والديه. وما يمكنه من تحقيق هذا الحلم هو دخله الثابت من رسومه التي تلقى شعبية كبيرة، وإمكانية إنجازها وإرسالها إلى الصحف والمجلات من أي مكان، شرط توافر الإنترنت فيه.
على جزيرته غير المأهولة، يتمتع ألكسندر بعُزلة كلية لا يعكرها أحد، بما في ذلك جارته الوحيدة، إيف سان جيل، وهي روائية غامضة وغير ودودة أصدرت رواية واحدة بعنوان "لم يعد المستقبل يسكن على هذا العنوان" جلبت لها شهرةً كبيرة، وجعلت منها رمزاً لجيل فقد جميع مثله، ومعها ثقته بسير البشرية، قبل أن تجف قريحتها وتقع في طي النسيان، فتشتري الجزء الصغير الذي لا يملكه ألكسندر من الجزيرة، وتستقر فيه، لكن لا شبه في عزلة كل منهما. فبينما يعود ابتعاد إيف عن البشر إلى كرهها لهم، ابتعد ألكسندر عن العالم للتأمل فيه بهدوء أكبر وفهمه وتقبله بشكل أفضل.
الهاجس النووي
وفي أحد الأيام، وبينما كان ألكسندر منكباً على الرسم، تنقطع الكهرباء داخل منزله ومعها جميع وسائل الاتصال والبث، فيتسلط القلق عليه من احتمال أن تكون قد اندلعت حرب نووية أبادت البشرية جمعاء، باستثنائه، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت قد قررت قبل بضعة أيام، إثر تفجير إرهابي نووي قرب واشنطن، تدمير الرؤوس النووية التي نصبها في القوقاز مارشال سابق في الجيش الروسي تبنى العملية المذكورة. ويجب انتظار اليوم التالي، وإصغائه إلى خطاب الرئيس الأميركي هاورد ميلتون، بعد عودة الأمور إلى نصابها، كي يتبين له أن الكارثة النووية لم تقع، وأن من حال دون وقوعها هو ليس حكمة المسؤولين السياسيين في واشنطن، بل طرف ثالث مجهول كلياً "يرانا، يسمعنا، يراقب كل حركة من حركاتنا، يمنعنا من هذا ويسمح لنا بذلك، كما يحلو له"، على حد قول مورو، صديق ألكسندر، الذي يعمل مستشاراً للرئيس الأميركي. طرف "لم نعد قادرين على القيام بأي حركة من دون موافقته، ولا نعرف أي شيء عنه، لا من أين أتى، ولا كيف يعمل، ولا ما هي نواياه".
وبسرعة يتبين لألكسندر ولنا أن هذا الطرف هو مجموعة بشرية ليست في خدمة أي أمة أو قوة معروفة، ولا هدف لتدخلها سوى تجنيب العالم كارثة نووية كانت على وشك الوقوع. مجموعة حريصة على العودة إلى دورها كمراقب ما إن يتم إبعاد الخطر. أما لماذا تحمل اسم "أصدقاء أمبيدوكليس"، ويحمل جميع أفرادها أسماء يونانية، فلأنها تعود بأصولها إلى الحضارة الإغريقية، وتبجل خصوصاً "المعجزة الأثينية"، أي تلك الفترة التاريخية المجيدة التي لا تتجاوز بضعة عقود وعرفت البشرية خلالها تطوراً مدهشاً في ميادين علمية وثقافية كثيرة على يد حفنة قليلة من البشر. معجزة، في اللحظة التي بدأت شعلتها تخفت، قرر أسلاف هذه المجموعة المحافظة على قيم حضارتهم بأي ثمن، فغادروا اليونان ولا شيء في جعبتهم سوى "مضمون نفوسهم".
هكذا انقسمت البشرية منذ زمن سحيق إلى بشريتين: "واحدة تعيش في النور، لكنها تحمل الظل، وواحدة تعيش في الظل، لكنها تحمل النور، وكل واحدة تقدمت على طريقها الخاص ووفقاً لإيقاعها الخاص"، فسار "أصدقاء أمبيدوكليس" إلى الأمام من دون أن يورطوا أنفسهم في خلافاتنا، أو يتلهوا بمعتقداتنا الغبية. وهو ما يفسر تقدمهم علينا ليس فحسب في جميع ميادين المعرفة، بل أيضاً في تحقيق الذات وبلوغ السعادة. أما لماذا تجنبوننا طوال مسيرتهم ولم يكشفوا عن وجودهم ويحاولوا مساعدتنا قبل اليوم، فلسبب بديهي بسيط، وهو أن نزواتنا القاتلة وكراهيتنا المتجذرة وبدائيتنا كانت ستدفعنا حتماً إلى استخدام معارفهم، إن تملكناها، لتدمير بعضنا بعضاً وإبادة كل حياة وحضارة على وجه الأرض.
لقاء الأعداء والأصدقاء
لن نكشف مآل هذا اللقاء المُدهش بين البشريتين وكيف ينتهي، كي لا نفسد متعة قراءة الرواية، لكن ما يمكننا أن نقوله هو إن ظهور "أصدقاء أمبيدوكليس"، بطبهم المتقدم ومستشفياتهم العائمة، سيؤدي إلى قلب سلم الأولويات والقيم في كل أنحاء المعمورة. ولا عجب في ذلك، ف"حين نصبح قادرين على هزم المرض وتعزيم الشيخوخة ودحر الموت، لا يعود أي شيء في حياتنا يحظى بالأهمية نفسها، لا المال ولا الوقت ولا العمل ولا التراتبيات الاجتماعية ولا العلاقات المبنية على القوة. وكل ما يتحكم بمجتمعاتنا اليوم يصير هامشياً، من زمن مضى، وبالتالي لا لزوم له".
وهذا ما يقودنا إلى الرسالة المركزية التي يسيرها معلوف على طول روايته، قبل أن يضعها على لسان أحد "أصدقاء أمبيدوكليس"، الطبيب بوزانياس: "حين يتبع بعض البشر طريقهم الخاص، من دون أن يكون ذهنهم مقيداً بالمحرمات والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون لديهم شاغل آخر غير دحر الجهل، سيتمكنون من المُضي قُدماً بشكل أسرع من الآخرين، ويجدون أنفسهم بعيداً جداً في الأمام".
وبالتالي، لا مجانية في اللقاء الخرافي الذي يتخيله الكاتب بين بشريتنا و"إخوة عير متوقعين" لنا يسبقوننا في كل شيء، بل محاولة حميدة لحثنا على تقييم ما نحن عليه اليوم ومعرفة ما الذي وضعنا على الطريق الخطأ، وكيف يمكننا تصحيح وجهة سيرنا، قبل فوات الأوان. لقاء بقدر ما يعكس، بجانبه غير المحتمل، تفاؤلاً لا يتزعزع لدى صاحب "صخرة طانيوس"، يقود إلى حقيقة مريرة مفادها أننا بتنا اليوم نحتاج إلى معجزة، مثل هذا اللقاء، لتلافي "غرق حضاراتنا" الوشيك.
باختصار، "الإخوة غير المتوقعين" قد لا تكون أهم من روايات معلوف السابقة، لكنها بالتأكيد رواية مهمة وآسرة بقصتها المثيرة وعبرها الكثيرة، بالتأملات الثاقبة التي تتضمنها في محنة عالمنا اليوم، بحيوية نصها الناتجة من استخدام صيغة المتكلم لسرد أحداثها واستثمار عنصر التشويق بمهارة داخلها، من دون أن ننسى نفس كاتبها السردي الفريد ونثره الرشيق اللذين يحملاننا بخفة نادرة حتى صفحتها الأخيرة ويجعلاننا نرغب في المزيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.