وزير الكهرباء يبحث مستجدات تنفيذ مشروعات «مصدر» الإماراتية في مصر    مصر تشجب إعلان حالة المجاعة في قطاع غزة    الأهلي بطلا لكأس السوبر السعودي على حساب النصر    استئناف الإسكندرية تفتح تحقيقات موسعة بصدد حادث الغرق الجماعي في شاطىء أبو تلات    توجيهات حكومية بسرعة إنهاء أعمال تطوير المواقع الأثرية بالإسكندرية    محافظ الغربية يفتتح قسم جراحة المخ والأعصاب بمستشفى كفر الزيات العام    مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    بحوث الصحراء.. دعم فني وإرشادي لمزارعي التجمعات الزراعية في سيناء    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    مؤتمر ألونسو: هذا سبب تخطيط ملعب التدريبات.. وموقفنا من الانتقالات    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    قيادي بمستقبل وطن: تحركات الإخوان ضد السفارات المصرية محاولة بائسة ومشبوهة    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    وزارة الصحة تقدم 314 ألف خدمة طبية مجانية عبر 143 قافلة بجميع المحافظات    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    وزيرا الإنتاج الحربي والبترول يبحثان تعزيز التعاون لتنفيذ مشروعات قومية مشتركة    منال عوض تناقش استعدادات استضافة مؤتمر الأطراف ال24 لحماية بيئة البحر الأبيض المتوسط من التلوث    "التنمية المحلية": انطلاق الأسبوع الثالث من الخطة التدريبية بسقارة غدًا -تفاصيل    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    ماذا ينتظر كهربا حال إتمام انتقاله لصفوف القادسية الكويتي؟    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    الداخلية تكشف ملابسات اعتداء "سايس" على قائد دراجة نارية بالقاهرة    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    إزالة مزرعة سمكية مخالفة بمركز الحسينية في الشرقية    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأويل النص.. جدلية حضور العقل وغيابه
نشر في صوت البلد يوم 14 - 08 - 2020

يزيد الشاعر والمفكر العربي أدونيس مشهدنا الثقافي غموضا حينما ينأى بسطوره بعيدا عن المتاح في راهننا المعرفي مشيرا إلى أن إدراك الحقيقة لا يتم استنادًا إلى العقل أو إلى النقل، لأن الحقيقة ليست في ظاهر النص وهو يشير في ذلك إلى كنه عمل العقل وأعماله في النص من حيث تفسيره وتأويل مضامينه، وإنما يتم عن طريق تأويل النص بإرجاعه إلى أصله والكشف عن معناه الحقيقي.
والتأويل بهذه الصورة هو طرحُ الظاهر جانبا كونه صورة من صور الباطن فحسب، أما الباطن لا نهاية له، بمعنى حسب توصيف أدونيس للفرق بين الحقيقة والشريعة أنه لا يمكن أن تحده صورة واحدة، بل لا يمكن أن تحده الصور. وهذه الإشكالية التي لم يفطنها فقهاء العصر الحديث بل على وجه الاختصاص أمراء الجماعات والتيارات الدينية المعاصرة الذين لم يروا في العقل أية فائدة واكتفوا بالنقل المباشر من السلف في تفسيرهم وفهمهم للنصوص الدينية التي جاءت لتبيين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
والإشكالية بين العقل والنقل وما بينهما من حقيقة عرفانية يمتلكها أهل التصوف فقط، تتضح في محاولة فهم الاتصال والانفصال بين الزمني والمكاني، هذا الفهم الذي بدا عصيا على أمراء التيارات الدينية الراديكالية التي لم تفرق بين حكم فقهي أو نص ديني لرجل ينتمي لعصر بائد وعصرنا الراهن، وهو مجمل ما قامت عليه الدراسة المعرفية الموسوعية للمفكر السوري أدونيس في كتابه "الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب" بأجزائه الأربعة.
ولعل المؤسسات التعليمية العربية القائمة نجحت بامتهار متمايز في تكريس الاتصال بالتراث العربي الثقافي في صورته السطحية البسيطة، في الوقت نفسه التي داومت فشلها المستدام في تحقيق اتصال بالحداثة المعرفية، وكأنها بذلك أعلت ثقافة الولاية المعرفية كبديل وحيد عن الجنوح لتأسيس العقلية العربية، هذا كله أشار إليه محمد أركون وأدونيس وعابد الجابري وفؤاد زكريا، وظل نصر أبو زيد يشحذ طاقاته لمواجهة الولاية المعرفية لاسيما في دراسته المتميزة عن الإمام الشافعي صاحب المذهب الفقهي.
وتتمثل إشكالية النقل والعقل وما بينهما من ذوق وحدس لا يمتلك زمامهما إلا المتصوفة بالقطعية التاريخية في قضية الاجتهاد، الذي يعني كما وصفه ابن رشد بأنه بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدي إليها. والسلفيون يرفضون فكرة الاجتهاد مقتصرين على نصوص السلف الأوائل، في حين أن قصور الفهم والبحث لدى معظم أنصار ومريدي التيارات الراديكالية لم يلتفتوا بالقدر المناسب إلى ما وضحه الفاروق الرشيد عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) حينما أجاز وأباح وأقر بالاجتهاد والتجديد في رسالته الأشهر إلى أبي موسى الأشعري حينما سطر فيها قوله بشرط المجتهد: "أن يلتمس نور القرآن وهدي السنة".
وثمة خلاف ظاهر وواضح في التجربة الحداثوية للثقافة العربية بين أهل النقل الحرفي وأهل العقل دون الذوق يدور حول جدلية السنة النبوية، لاسيما فيما يتعلق بالتجديد والاجتهاد؛ هذه الجدلية ظلت ولا تزال محل هوس لدى الكثيرين من المعاصرين بل والأوائل أيضا من دعاة التنوير حيث اعتماد الأخذ بالحديث عند التجديد الفقهي شريطة أن يكون موافقا للكتاب، رغم أن هذا الشأن مردود عليه كون السنة النبوية مصدرا أصيلا ومقياسا واضحا لصحة العقل والاجتهاد.
ولا أكاد أجزم أن معظم مشكلاتنا العربية الراهنة بدءا من ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة وحكومات وهي في الأصل ثورات لا تجمعها أسباب واحدة ولا غايات واحدة بل ولا فكر في تنظيم إحداثياتها، وظاهرة الإرهاب وظهور التيارات المتطرفة الراديكالية مرورا بمشكلات نوعية مثل سد النهضة وحكومات العراق الممزق وفتنة سوريا العصية على الحل والتفسير انتهاء بتحليل انفجار لبنان الأخير، مجملها المركزية المهيمنة على ثقافتنا العربية التي لا تخلو من مهاجم رجعي أو معاصر يبغي الاستشراف بغير خطة، وأن حرص الأغلبية على البقاء دفعها إلى اعتماد النهج السابق وإن كان لا يتصل بالعصر الراهن على حساب مغامرات فكرية لا يعلم نتائجها.
في حين أن أولئك المنادين بالحداثة والتعامل مع الحدث الحالي والحدث الماضي بمفاهيم تبدو غربية مستهجنة تم تصديرها للواقع العربي تحت رعاية صهيونية في بطئ وخبث، حتى صار هؤلاء يتكلمون بلغة الغرب في قضايا عربية أكثر من اهتمامهم بالتفكير اللغوي الذي استحال في مكانة تهديد وتقويض لأركانها الثابتة.
هذا التناوب بين الزمني والمكاني يعيدنا اضطرارا إلى قصة العالم جاليليو الذي يعد من أبرز مؤسسي العلم في العصر الحديث، ولقد نظر إلى الديناميكا نظرة جديدة، فقد افترض أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إن الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تماماً، وهي حركة في خط مستقيم.
وقد طور جاليليو نظرته هذه في مجال الفلك، فنادى بمركزية الشمس، وكانت كشوفه تلك قد قلبت كل الأفكار الراسخة القديمة منذ أرسطو، بل لقد عكر منظاره الذي اخترعه صفو سبات القدماء الغارقين في الظنون والأفكار الواهية. وقبل أن تفكر أيها القارئ في مصير جاليليو، لابد وأن تستقرئ نتيجة أفكاره دون تحليل أو استنتاج، فلقد صدم جاليليو رجال الدين في عصره، وأدين بالفعل في جلسة مغلقة، غير أن جاليليو لم يرضخ أو يستسلم، فسيق مرة أخرى للمحاكمة العلنية، فتراجع خوفاً على حياته، ووعد بأن يتخلى عن كل أفكاره المتعلقة بحركة الأرض حول الشمس، وفعل حقاً ما أمر به من رجال الدين، لكنه هو في قفص الاتهام تمتم لنفسه قائلاً: "ومع ذلك فإنها تتحرك" . القصة انتهت.
إن ما فعله العالم جاليليو في فكر عصره نسعى أن نحققه نحن، نفكر، ونستدل، ونبحث، ونجرب، ونتهم، ثم نتراجع عما فكرنا فيه، الأدهش هو أننا حينما نشرع في التفكير نجد عشرات المتربصين بنا وبأفكارنا التي نقسم بالله أنها ليست علمانية، وأن ديننا الإسلامي حض على التفكير، وأن القرآن الكريم الذي ندعي بأننا نفهمه فهماً كاملاً، حث على استعمال العقل والمنطق والتحليل، ففي القرآن الكريم آيات تحض على النظر والتحليل والاستقراء والاستنباط مثل قوله تعالى: ]إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب[، أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وفي آية أخرى ]ويتفكرون في خلق السماوات والأرض[، وكثير من الآيات القرآنية التي تحض الإنسان على التفكير وإعمال العقل.
وما أكثر الخطب المنبرية والمقالات والكتب التي تتحدث عن وجوب التفكير وأنه فريضة إسلامية كما ذكر عباس محمود العقاد في أحد عناوين كتبه الماتعة الرائعة وهو يواجه صلابة وتعنت الأفكار الرائجة في عصره والتي استدامت حتى عصورنا الراهنة ، ولكن عند أول اختبار لأصحابها يسقطون في فخ الزيغ والهوس وبطلان الحجة. وإذا سألت بعض رجال الدين عن دوره كرجل تنويري لسوف يحدثك عن فعالية التفكير والاستنباط، وعن عظمة التسامح كمحور للتنوير، وأن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز. وفي أول محك لتطبيق أفكاره سيلعن التنوير والتنويريين، وسيربط التنوير بالعلمانية، بل وربما بالمسيحية، وبالفلاسفة الملاحدة، ولهم أقول إن التنوير حركة لم تكن مرتبطة بأي مدرسة فلسفية معينة بل إن التنوير يعني العودة إلى تقدير النشاط العقلي المستقل، وبصورة أبسط نشر النور حيث كان الظلام يسود من قبل.
إن ما فعله جاليليو منذ قرون مضت وجعلنا مضطرين لسرد قصته لأمر واضح وجلي للأفهام، إنه حاول أن يبرهن على دوران وحركة الأرض، وواجه بسبب آرائه تلك تهمة الزندقة والخروج على التعاليم الدينية، وهو ما يريد أن يفعله اليوم بعض الرجال المحسوبين على ديننا الحنيف إذا فكرنا قليلاً فيما يقولون ويسردون من قصص لا أصل لها في تراثنا الحضاري نزعوا إلى العنف وإلى التكفير وإلى إهدار الدم، واستباحة العرض للمخالف، ولعل هذا في رأيي هو الذي أوجد فقهاً تعسفياً مغالياً، فكيف سيدعون يوماً إلى ثقافة التسمح والمواطنة والتعايش؟
ولست ممن يحاربون الماضي برمته، بل إننا لم نفطن حاضرنا إلا باستيعاب ما تركه لنا السابقون في مجالات التوحيد، والفقه، والحديث، والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد رجال الدين المعاصرين حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة.
ولربما هذا الارتداد المطلق لنصوص السلف الأوائل هو أيضا المتسبب في الكارثة المعرفية لقصور العلماء العرب الموجودين في تفسير واضح ومحدد وأكثر علمية لجائحة كورونا، لكن هم فقط يتحدثون بمنطق الأوائل الراديكالي وفق تصورات وطروحات ثابتة لا تقبل التجديد والتمايز وقد لا تتوافق مع أنماط العقل، فنجدهم يتحدثون عن عملية تحور الفيروس وبداية استنساخه في صور جديدة شتى، ورغم أن مجمل المنتسبين لكليات العلوم بالضرورة يقتبسون شعارات الحداثة والتطور وإعمال العقل في أقصى طاقاته إلا أنهم في المواجهة الأولى الحقيقية لاكتشاف مدى كفاءتهم العلمية في التصدي ولو ثقافيا لكوفيد 19 وليس بالصفة العلمية التطبيقية التي ظلوا يتفاخرون بامتلاك أدواتها لسنوات مضت، وجدناهم يقرون حقائق علمية أشبه بالطرح السلفي للنصوص الدينية بغير تجديد أو اجتهاد.
ولعلي لا أجد مللا في استطراد الحديث عن قصور العلماء العرب لاسيما وأننا بالفعل بانتظار معجزات علمية تأتينا من الغرب، وتكفي إطلالة سريعة لبعض المواقع العلمية الرصينة مثل موقع مجلة Nature لنكتشف حجم وفداحة الجهالة العلمية عند ما يطلق عليهم العلماء الأكاديميين العرب وهذه الغفلة الراديكالية عن التجديد أو الابتكار وبالقطعية هؤلاء لا يمكن أن نطالبهم بالمزيد في مواجهة الجائحة التي تتطور وسط تطور علمي متزامن في الغرب، لأنهم بحاجة ماسة إلى تطوير أدواتهم المعرفية بصورة أقوى وأكبر من تطوير أدواتهم العلمية وإمكاناتهم المعملية، المشكلة بحق في افتقار هؤلاء إلى امتلاك أدوات معرفية مثل الراديكاليين الذين توقفوا في التفكير عند حدود زمانية لا يمكن تخطيها.
يزيد الشاعر والمفكر العربي أدونيس مشهدنا الثقافي غموضا حينما ينأى بسطوره بعيدا عن المتاح في راهننا المعرفي مشيرا إلى أن إدراك الحقيقة لا يتم استنادًا إلى العقل أو إلى النقل، لأن الحقيقة ليست في ظاهر النص وهو يشير في ذلك إلى كنه عمل العقل وأعماله في النص من حيث تفسيره وتأويل مضامينه، وإنما يتم عن طريق تأويل النص بإرجاعه إلى أصله والكشف عن معناه الحقيقي.
والتأويل بهذه الصورة هو طرحُ الظاهر جانبا كونه صورة من صور الباطن فحسب، أما الباطن لا نهاية له، بمعنى حسب توصيف أدونيس للفرق بين الحقيقة والشريعة أنه لا يمكن أن تحده صورة واحدة، بل لا يمكن أن تحده الصور. وهذه الإشكالية التي لم يفطنها فقهاء العصر الحديث بل على وجه الاختصاص أمراء الجماعات والتيارات الدينية المعاصرة الذين لم يروا في العقل أية فائدة واكتفوا بالنقل المباشر من السلف في تفسيرهم وفهمهم للنصوص الدينية التي جاءت لتبيين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
والإشكالية بين العقل والنقل وما بينهما من حقيقة عرفانية يمتلكها أهل التصوف فقط، تتضح في محاولة فهم الاتصال والانفصال بين الزمني والمكاني، هذا الفهم الذي بدا عصيا على أمراء التيارات الدينية الراديكالية التي لم تفرق بين حكم فقهي أو نص ديني لرجل ينتمي لعصر بائد وعصرنا الراهن، وهو مجمل ما قامت عليه الدراسة المعرفية الموسوعية للمفكر السوري أدونيس في كتابه "الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب" بأجزائه الأربعة.
ولعل المؤسسات التعليمية العربية القائمة نجحت بامتهار متمايز في تكريس الاتصال بالتراث العربي الثقافي في صورته السطحية البسيطة، في الوقت نفسه التي داومت فشلها المستدام في تحقيق اتصال بالحداثة المعرفية، وكأنها بذلك أعلت ثقافة الولاية المعرفية كبديل وحيد عن الجنوح لتأسيس العقلية العربية، هذا كله أشار إليه محمد أركون وأدونيس وعابد الجابري وفؤاد زكريا، وظل نصر أبو زيد يشحذ طاقاته لمواجهة الولاية المعرفية لاسيما في دراسته المتميزة عن الإمام الشافعي صاحب المذهب الفقهي.
وتتمثل إشكالية النقل والعقل وما بينهما من ذوق وحدس لا يمتلك زمامهما إلا المتصوفة بالقطعية التاريخية في قضية الاجتهاد، الذي يعني كما وصفه ابن رشد بأنه بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدي إليها. والسلفيون يرفضون فكرة الاجتهاد مقتصرين على نصوص السلف الأوائل، في حين أن قصور الفهم والبحث لدى معظم أنصار ومريدي التيارات الراديكالية لم يلتفتوا بالقدر المناسب إلى ما وضحه الفاروق الرشيد عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) حينما أجاز وأباح وأقر بالاجتهاد والتجديد في رسالته الأشهر إلى أبي موسى الأشعري حينما سطر فيها قوله بشرط المجتهد: "أن يلتمس نور القرآن وهدي السنة".
وثمة خلاف ظاهر وواضح في التجربة الحداثوية للثقافة العربية بين أهل النقل الحرفي وأهل العقل دون الذوق يدور حول جدلية السنة النبوية، لاسيما فيما يتعلق بالتجديد والاجتهاد؛ هذه الجدلية ظلت ولا تزال محل هوس لدى الكثيرين من المعاصرين بل والأوائل أيضا من دعاة التنوير حيث اعتماد الأخذ بالحديث عند التجديد الفقهي شريطة أن يكون موافقا للكتاب، رغم أن هذا الشأن مردود عليه كون السنة النبوية مصدرا أصيلا ومقياسا واضحا لصحة العقل والاجتهاد.
ولا أكاد أجزم أن معظم مشكلاتنا العربية الراهنة بدءا من ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة وحكومات وهي في الأصل ثورات لا تجمعها أسباب واحدة ولا غايات واحدة بل ولا فكر في تنظيم إحداثياتها، وظاهرة الإرهاب وظهور التيارات المتطرفة الراديكالية مرورا بمشكلات نوعية مثل سد النهضة وحكومات العراق الممزق وفتنة سوريا العصية على الحل والتفسير انتهاء بتحليل انفجار لبنان الأخير، مجملها المركزية المهيمنة على ثقافتنا العربية التي لا تخلو من مهاجم رجعي أو معاصر يبغي الاستشراف بغير خطة، وأن حرص الأغلبية على البقاء دفعها إلى اعتماد النهج السابق وإن كان لا يتصل بالعصر الراهن على حساب مغامرات فكرية لا يعلم نتائجها.
في حين أن أولئك المنادين بالحداثة والتعامل مع الحدث الحالي والحدث الماضي بمفاهيم تبدو غربية مستهجنة تم تصديرها للواقع العربي تحت رعاية صهيونية في بطئ وخبث، حتى صار هؤلاء يتكلمون بلغة الغرب في قضايا عربية أكثر من اهتمامهم بالتفكير اللغوي الذي استحال في مكانة تهديد وتقويض لأركانها الثابتة.
هذا التناوب بين الزمني والمكاني يعيدنا اضطرارا إلى قصة العالم جاليليو الذي يعد من أبرز مؤسسي العلم في العصر الحديث، ولقد نظر إلى الديناميكا نظرة جديدة، فقد افترض أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إن الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تماماً، وهي حركة في خط مستقيم.
وقد طور جاليليو نظرته هذه في مجال الفلك، فنادى بمركزية الشمس، وكانت كشوفه تلك قد قلبت كل الأفكار الراسخة القديمة منذ أرسطو، بل لقد عكر منظاره الذي اخترعه صفو سبات القدماء الغارقين في الظنون والأفكار الواهية. وقبل أن تفكر أيها القارئ في مصير جاليليو، لابد وأن تستقرئ نتيجة أفكاره دون تحليل أو استنتاج، فلقد صدم جاليليو رجال الدين في عصره، وأدين بالفعل في جلسة مغلقة، غير أن جاليليو لم يرضخ أو يستسلم، فسيق مرة أخرى للمحاكمة العلنية، فتراجع خوفاً على حياته، ووعد بأن يتخلى عن كل أفكاره المتعلقة بحركة الأرض حول الشمس، وفعل حقاً ما أمر به من رجال الدين، لكنه هو في قفص الاتهام تمتم لنفسه قائلاً: "ومع ذلك فإنها تتحرك" . القصة انتهت.
إن ما فعله العالم جاليليو في فكر عصره نسعى أن نحققه نحن، نفكر، ونستدل، ونبحث، ونجرب، ونتهم، ثم نتراجع عما فكرنا فيه، الأدهش هو أننا حينما نشرع في التفكير نجد عشرات المتربصين بنا وبأفكارنا التي نقسم بالله أنها ليست علمانية، وأن ديننا الإسلامي حض على التفكير، وأن القرآن الكريم الذي ندعي بأننا نفهمه فهماً كاملاً، حث على استعمال العقل والمنطق والتحليل، ففي القرآن الكريم آيات تحض على النظر والتحليل والاستقراء والاستنباط مثل قوله تعالى: ]إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب[، أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وفي آية أخرى ]ويتفكرون في خلق السماوات والأرض[، وكثير من الآيات القرآنية التي تحض الإنسان على التفكير وإعمال العقل.
وما أكثر الخطب المنبرية والمقالات والكتب التي تتحدث عن وجوب التفكير وأنه فريضة إسلامية كما ذكر عباس محمود العقاد في أحد عناوين كتبه الماتعة الرائعة وهو يواجه صلابة وتعنت الأفكار الرائجة في عصره والتي استدامت حتى عصورنا الراهنة ، ولكن عند أول اختبار لأصحابها يسقطون في فخ الزيغ والهوس وبطلان الحجة. وإذا سألت بعض رجال الدين عن دوره كرجل تنويري لسوف يحدثك عن فعالية التفكير والاستنباط، وعن عظمة التسامح كمحور للتنوير، وأن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز. وفي أول محك لتطبيق أفكاره سيلعن التنوير والتنويريين، وسيربط التنوير بالعلمانية، بل وربما بالمسيحية، وبالفلاسفة الملاحدة، ولهم أقول إن التنوير حركة لم تكن مرتبطة بأي مدرسة فلسفية معينة بل إن التنوير يعني العودة إلى تقدير النشاط العقلي المستقل، وبصورة أبسط نشر النور حيث كان الظلام يسود من قبل.
إن ما فعله جاليليو منذ قرون مضت وجعلنا مضطرين لسرد قصته لأمر واضح وجلي للأفهام، إنه حاول أن يبرهن على دوران وحركة الأرض، وواجه بسبب آرائه تلك تهمة الزندقة والخروج على التعاليم الدينية، وهو ما يريد أن يفعله اليوم بعض الرجال المحسوبين على ديننا الحنيف إذا فكرنا قليلاً فيما يقولون ويسردون من قصص لا أصل لها في تراثنا الحضاري نزعوا إلى العنف وإلى التكفير وإلى إهدار الدم، واستباحة العرض للمخالف، ولعل هذا في رأيي هو الذي أوجد فقهاً تعسفياً مغالياً، فكيف سيدعون يوماً إلى ثقافة التسمح والمواطنة والتعايش؟
ولست ممن يحاربون الماضي برمته، بل إننا لم نفطن حاضرنا إلا باستيعاب ما تركه لنا السابقون في مجالات التوحيد، والفقه، والحديث، والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد رجال الدين المعاصرين حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة.
ولربما هذا الارتداد المطلق لنصوص السلف الأوائل هو أيضا المتسبب في الكارثة المعرفية لقصور العلماء العرب الموجودين في تفسير واضح ومحدد وأكثر علمية لجائحة كورونا، لكن هم فقط يتحدثون بمنطق الأوائل الراديكالي وفق تصورات وطروحات ثابتة لا تقبل التجديد والتمايز وقد لا تتوافق مع أنماط العقل، فنجدهم يتحدثون عن عملية تحور الفيروس وبداية استنساخه في صور جديدة شتى، ورغم أن مجمل المنتسبين لكليات العلوم بالضرورة يقتبسون شعارات الحداثة والتطور وإعمال العقل في أقصى طاقاته إلا أنهم في المواجهة الأولى الحقيقية لاكتشاف مدى كفاءتهم العلمية في التصدي ولو ثقافيا لكوفيد 19 وليس بالصفة العلمية التطبيقية التي ظلوا يتفاخرون بامتلاك أدواتها لسنوات مضت، وجدناهم يقرون حقائق علمية أشبه بالطرح السلفي للنصوص الدينية بغير تجديد أو اجتهاد.
ولعلي لا أجد مللا في استطراد الحديث عن قصور العلماء العرب لاسيما وأننا بالفعل بانتظار معجزات علمية تأتينا من الغرب، وتكفي إطلالة سريعة لبعض المواقع العلمية الرصينة مثل موقع مجلة Nature لنكتشف حجم وفداحة الجهالة العلمية عند ما يطلق عليهم العلماء الأكاديميين العرب وهذه الغفلة الراديكالية عن التجديد أو الابتكار وبالقطعية هؤلاء لا يمكن أن نطالبهم بالمزيد في مواجهة الجائحة التي تتطور وسط تطور علمي متزامن في الغرب، لأنهم بحاجة ماسة إلى تطوير أدواتهم المعرفية بصورة أقوى وأكبر من تطوير أدواتهم العلمية وإمكاناتهم المعملية، المشكلة بحق في افتقار هؤلاء إلى امتلاك أدوات معرفية مثل الراديكاليين الذين توقفوا في التفكير عند حدود زمانية لا يمكن تخطيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.