آخر كلمات الفنان لطفى لبيب قبل وفاته..متقلقوش عليا وراض بكل شىء    "حماة الوطن" يدعو المصريين بالخارج إلى المشاركة بكثافة في انتخابات "الشيوخ"    مخطط رأس الأفعى الإخوانية.. مصر تخوض معركة جديدة ضد التنظيم الإرهابي سلاحها الإعلام والفكر    دقت ساعة الحسم    «العمل» توفر فرص توظيف بمصنع هياكل معدنية في الأردن (الرواتب والمزايا)    وظائف الإسكان 2025.. التخصصات المطلوبة والشروط وآخر موعد للتقديم    وزيرة التخطيط والتعاون تطلق "منصة بيانات أهداف التنمية المستدامة بالمحافظات"    احسب قبضك.. تغذية ماكينات الATM لصرف معاشات أغسطس بالزيادة الجديدة خلال ساعات بالإسكندرية    النيابة العامة: الاتجار بالبشر جريمة منظمة تتطلب مواجهة شاملة    رصد أول موجة تسونامي في كاليفورنيا الأمريكية    الخارجية الفلسطينية: إعلان نيويورك فرصة تاريخية لتجسيد حل الدولتين    ملحمة مصرية ل«دعم غزة»    لافتة هادئة.. لاعبو ليفربول يرتدون قمصانا خاصة في مباراة اليوم    الزمالك يستعد للإعلان عن صفقة جديدة اليوم    "سمعنا كلام كتير".. شوبير يكشف تحرك الأهلي سريعا تجاه إمام عاشور    مصرع 3 فتيات وإصابة 14 في حادث انقلاب ميني باص على الصحراوي الشرقي بالمنيا    الأرصاد تُعلن تراجع الحرارة والقاهرة تسجل 35 درجة    انتشال جثمان غريق شهر العسل في الإسكندرية    بسبب السير عكس الاتجاه.. إصابة 5 أشخاص في تصادم 4 سيارات على الطريق الزراعي بالقليوبية    امتحانات تمهيدية.. تعليمات هامة من "التعليم" بشأن طلاب رياض أطفال المصريين بالخارج    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. 3 خطوات للحصول على بطاقة الترشيح ورابط تحميلها    «التضامن» تستعرض جهود «التدخل السريع» في عدد من المحافظات    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    «الرعاية الصحية» تطلق مشروع «رعايتك في بيتك» لخدمة المواطنين بمنازلهم    محافظ أسوان يوجه بسرعة الانتهاء من مبنى الغسيل الكلوي فى مستشفى كوم أمبو    مسؤول مستشفيات الأمانة الطبية بالإسكندرية: جاهزون لتطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل    من هم «بنو معروف» المؤمنون بعودة «الحاكم بأمر الله»؟!    - هجوم بالشوم على موظف في قرية أبو صير بالبدرشين    أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!    «البترول» تعلن السيطرة على حريق سفينة حاويات بمنطقة رأس غارب    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    نجاح 37 حكمًا و51 مساعدًا في اختبارات اللياقة البدنية    رابطة الأندية: لن نلغي الهبوط في الموسم الجديد    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    انخفاض أرباح مرسيدس-بنز لأكثر من النصف في النصف الأول من 2025    وزير الخارجية يبحث مع سيناتور أمريكي شواغل مصر حول السد الإثيوبى    ملك المغرب يؤكد استعداد بلاده لحوار صريح وأخوي مع الجزائر حول القضايا العالقة بين البلدين    انتخابات مجلس الشيوخ.. الآليات والضوابط المنظمة لتصويت المصريين فى الخارج    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    نجاح التشغيل التجريبي للخط التجاري الإقليمي "القاهرة- أربيل" عبر ميناء سفاجا    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    رسميًا بعد الانخفاض الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    السيطرة على حريق هائل بشقة سكنية في المحلة الكبرى    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسرار "إيطاليا الخفية" في رحلة الجغرافيا والتاريخ... قبل كورونا
نشر في صوت البلد يوم 11 - 04 - 2020

لعلها واحدة من الصدف الغريبة، أن يصدر كتاب "إيطاليا الخفية" للكاتبة اللبنانية المقيمة في إيطاليا هدى سويد، غداة انتشار وباء كورونا في أرجاء البلاد وإحداثه كارثة مأساوية نادراً ما شهد تاريخها ما يماثلها في فظاعتها ورهبتها. ولئن صدر الكتاب بعد شيوع هذا الوباء في بلاد دانتي ودافنشي ورافايلو (دار بيسان 2020)، فالكاتبة أكبّت على تأليفه منذ سنوات بعدما جابت أنحاء البلاد، مدناً وسواحل وأريافاً وقرى، مدوّنةً ملاحظاتها وانطباعاتها، ساعيةً إلى أن يكون كتابها بمثابة رحلة شاملة، في الجغرافيا والتاريخ والعمران والفن والأدب. والعنوان الذي اختارته يبدو جاذباً فعلاً وحقيقياً، فهي تقدم للقارئ مشهداً، بل مشاهد مختلفة وغير مألوفة لإيطاليا المعروفة والمجهولة في آن واحد، معتمدة مرجعين، الأول هو شخصي في ما يعني من سفر وتنقل ومعاينة بصرية واحتكاك مباشر مع ما تكتب عنه، والثاني معرفي قائم على البحث في التاريخ والفنون وسائر العناصر المعرفية. وهكذا، تمكّنت الكاتبة كما تقول في مقدمتها من "تسليط الضوء على جوانب غير معروفة في إيطاليا، وتناول مواضيع بعيدة إلى حدٍّ ما عن مواضيع المدن الكبرى، والتركيز على إيطاليا الخفيّة أوالمستترة بما فيها من مدن صغيرة، بلدات وقرى، عادات وتقاليد بعيدة من الدعايات السياحية". وفعلاً من يقرأ الكتاب يدرك فوراً أنه ليس إزاء كتاب سياحي أو تحقيق صحافي يساعده في اكتشاف إيطاليا جغرافياً وتاريخياً، بل يجد نفسه أمام كتاب إبداعي يقوده في ما يشبه رحلة جمالية وأدبية وفكرية إلى إيطاليا في مختلف وجوهها الحضارية والفنية.
رحلة غوته
لا يسع القارئ هنا إلّا أن يتذكر الكتاب البديع "رحلة إيطالية" للفيلسوف والشاعر الألماني الشهير غوته، الذي كان يعدّ رحلته إلى إيطاليا بمثابة حدث كبير في حياته. وهو عبارة عن يوميات كتبها شاعر مخضرم عاش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودوّن فيها تجربته في السفر إلى إيطاليا التي كان يعتبرها موئل الفنون ومجمع الآثار العظيمة لعصر النهضة. ومعروف أن غوته دوّن يومياته هذه خلال قضائه أشهراً في فيرونا، البندقية، روما، متوقفاً أمام المعالم والآثار، وزائراً المتاحف ومستجلياً جماليات عصر النهضة وفلسفته. وهذا الكتاب يُعدُّ من عيون أدب الرحلة في العالم ولا يزال يشكّل مرجعاً راسخاً لقراءة الحضارة الإيطالية في أبرز تجلياتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، الذي يهوى أدب الرحلة وله فيه إنجازات مهمة، قرّر خوض رحلة غوته إلى إيطاليا، فسار على خطاه، جاعلاً من الكتاب مثابة دليل لاستعادة هذه الرحلة التاريخية وتعقّب الأماكن والمتاحف التي زارها صاحب "فاوست"، مطلقاً مخيلته من أجل كتابة رحلة أخرى، حديثة، ترصد التحولات التي طرأت على المشهد الإيطالي العام. وقد دأب السويدي على نشر فصول من رحلته هذه، تعبّرعن فرادة مشروعه، على أن يجمعها لاحقاً في كتاب.
وما تجدر الإشارة إليه أيضاً هو أن هدى سويد تبدو كأنها حفيدة الأمير اللبناني فخر الدين في رحلته الشهيرة إلى إيطاليا والتي دوّن خلالها ملاحظات وانطباعات صدرت لاحقاً في كتاب عنوانه "رحلة الأمير فخر الدين إلى إيطاليا 1613- 1618"، وقد أعادت دار السويدي والمؤسسة العربية نشره في تحقيق أنجزه قاسم وهب. كان الأمير حينذاك في ما يشبه المنفى الاختياري الذي دام خمسة أعوام، وتنقّل بين توسكانا وصقلية ونابولي. وزار المتاحف والساحات والقصور والأسوار والجسور والكنائس كما يعبّر في يومياته، وقصد المستشفيات والسجون والبنوك والمطابع، وفي رأسه مشروع تطوير بلاده على الطريقة الإيطالية. وقد توقف فخر الدين عند العادات وطرائق العيش وطقوس الأعياد والمواسم والملابس والأطعمة وحتى عند اللغة ومصطلحاتها.
قد تكون رحلة هدى سويد واحدة من إحدى الرحلات الطويلة والشاملة إلى إيطاليا المعروفة والمجهولة، التي قرأنا عنها ولم نقرأ، خصوصاً في اللغة العربية. وتبدو في ما كتبت أنها لم تقصد الترحال بين المدن والقرى بهدف السياحة وتزجية الوقت، بل وضعت نصب عينيها منذ اللحظة الأولى، أن الرحلة ستكون مادة لكتاب، في مسار جغرافي وثقافي وفني. وممّا ساعدها هو أنها تعيش في إيطاليا منذ أكثر من عقد، وتُلمّ بروحية الأمكنة، وكان إلى جانبها رفيق سفر هو زوجها المهندس ألدو رولا، ومثل هذا التنقل في أوساط البلاد يفترض الرفقة، لما يواجه من مصاعب وربما مشقات في أحيان. وتقول هدى في هذا الصدد إنها لم تعوّل كثيراً على مصاعب البدايات، و"إن كانت عبارةً عن انطلاق من نقطة صفر في بلد حمل الكثير من المفاجآت، من دون أن تستنزف أو تستوقف الأحلام". وقد صادفها منذ مجيئها إلى إيطاليا ما تسمّيه "انقلاب" المكان من كونه حيّزاً جغرافياً ساحراً كما رسمته في مخيلتها، إلى فضاء قلق وغير مستقرّ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وتقصد الصعوبات، بل التحدّيات التي واجهتها إيطاليا سواء بمفردها أو داخل المجموعة الأوروبية، وفي مقدمها صدور العملة الموحّدة (اليورو) في الأول من يناير (كانون الثاني) 1999 وما أعقبه من مشاكل على الصعيدين السياسي والمالي، إضافةً إلى أن إيطاليا لم تكن مهيّأة للانفتاح على الأجنبي، هي المُسّنة التي يُولد فيها أربعة أطفال سنوياً مقابل وفاة 400 شخص ما بين ليلة وضحاها، بحسب الإحصاءات. لكنّ إيطاليا، هي الدولة السابعة صناعياً على المستوى العالمي والثالثة أوروبياً بعد ألمانيا وفرنسا، إلى كونها البلد الأكثر غنى في المتاحف والكنوز الفنية.
البلاد المتميزة
وبعد تطرّق سويد إلى التحديات الكثيرة التي عاشتها وتعيشها إيطاليا، مرحلة تلو أخرى، تخلص إلى أن إيطاليا "بقيت فريدة بتمايزها وتنوّعها اللّذين من الصعب أن يتكررا بين إقليم وآخر، فلكلّ مقاطعة تباينها المجتمعي وخصوصيتها التاريخية، الاقتصادية والحضارية" وما تختزن من تنوع لغوي وسلوك وعادات وقيم، إضافةً إلى نتاج فكري وثقافي وإبداعي. وتقول سويد إن إيطاليا لم تصنعها روما والمدن الكبرى فقط، وإنما كل أقاليمها وقراها.
زارت هدى سويد معظم الأقاليم بدءًا من ليغوريا، حيث تقيم وقد جعلت بيتها هناك بمثابة "استراحة المقاتل"، تعود إليه قليلاً بعد غياب. أما المدن المعروفة والمستترة، القريبة أو النائية، التي زارتها وحطّت رحالها في ربوعها، فهي بدءًا من أقاليم شمال غربي الخريطة: ليغوريا، وادي أوسطا، بيمونتي ولومبارديا، وانتهاء في أقاليم شمال شرقي الخريطة: فريولي (فنيسيا وجوليا)، فينيتو، ترانتينو، آلتو آديجي وأميليا رومانا، مروراً بالوسط كإقليم توسكانا، ماركي، لازيو وأومبريا حتى الجنوب وما يتضمنه، مثل: أبروزو، موليسي، كامبانيا، بازيليكاتا، بوليا وكلابريا، إضافةً الى جزيرتي صقلية وسردينيا... ناهيك عن جمهوريتي "سان مارينو" و"الفاتيكان" المستقلتين بحكم ذاتي.
ومثلما أن رحلة سويد هي سفر في المكان أو الجغرافيا، فهي شملت في الوقت ذاته تاريخ إيطاليا عبر عددٍ كبيرٍ من آثارها التي تركتها الحضارات القديمة من إغريقية، فينيقية، أتروسكية، رومانية، بيزنطية، إسلامية، والحديثة من إسبانية وفرنسية... اطّلعت سويد كما تقول، على جذور إنسانها القديم وحضاراته ك"النوراغية" في سردينيا، و"السيكولي" في صقلية و"الليغوري" في ليغوريا... زارت المدن الكبرى مثل روما، ميلانو، جنوى، فلورنسا، سيينا، صقلية، نابولي، و زارت أيضا بقايا مدن تاريخية مثل بومباي. وفي هذا المسار، أُتيح لها أن تشاهد الآثار بل الروائع الفنية الثقافية من نحت وتشكيل، فإيطاليا تختزن 30 في المئة من الإرث الثقافي عالمياً، وقد أُدرج نحو 45 موقعاً فيها، على قائمة الإرث الثقافي والإنساني لليونسكو.
تسرد سويد زيارتها إلى المتاحف البارزة، كمتحف الفاتيكان الذي يُعدُّ ينبوع الفن الديني، ومشاهدتها لفنون عصر النهضة في غاليري "أوفيزي" و"الأكاديميا" في فلورنسا، وغاليري "بورغيزي" في روما، و"كابودي مونتي" في نابولي، و"آيجيزيو" أو المصري فيتورينو و"سانتا ماريا دي لا سكالا" في سيينا... وواجهت، كما تقول، للمرة الأولى رواد فن النحت في عصر النهضة، وتأمّلت روائع منحوتاتهم ك"داوود"، "قبور ميديشي"، "الشفقة"، "موسى" لميكيل أنجلو،"أعمدة ونافورات برنيني"، ناووس "أيليريا دل كاريتّو" أو "جنائزية أيليريا" لجاكوبو دلّا كويرشا، "الوجه المقدس" لسان نيكوديمو. كما تسنّت لها الفرصة لرؤية روائع الفن الأتروسكي ومنها "ناووس الزوجين" وغيرها من التحف والمنحوتات... إضافةً إلى الروائع التشكيلية ك"العشاء الأخير" لليوناردو دا فينشي، و"أفريسكي" أو جداريات "جيوتو"، لرفايلو وميكيل أنجلو، و"بريمافيرا" أو الربيع لبوتيشيلّي وغيرها لكارافاجو...
وتروي كيف عرّجت على مناطق صُوّرت فيها أجمل الأفلام الإيطالية والعالمية، ومن مخرجيها: فيتوريو دي سيكا، لوكينو فيسكونتي، روبرتو روسوليني، فديريكو فلليني، بيار باولو بازوليني وسيرجيو ليوني... عطفا على المخرجين المعاصرين ومنهم باولو صورنتينو، جوزيبي طورناتو، ماتيو غاروني، ناني موريتي، كاستيليتو وروبرتو بينيني. شاهدت أيضاً بركان ال"فيزوفيو" وما نثر من رماد في مدينة بومباي، وسارت فوق فوهة بركان ال"أتنا" الهامد في صقلية وفي وادي معابدها، زارت ضريح أركميدي، منحوتة ال"ساتيرو" والمسارح الإغريقية والرومانية، ومتّعت عينها في فن زجاج المورانو في فينيسيا وفن السيراميك في أبرز مدنه. وشاهدت أعياداً ومهرجانات دينية وشعبية، كمهرجان الأقنعة في فينيسيا و"فياريجيو"، سباق الأحصنة في ميدان سيينا، مهرجان المامويادا في سردينيا، السمك في "كاموليّي"، الأخطبوط في "تيلارو"، "فوكاشا دي ريكو" في ريكّو الجنويّة، الكستناء في ليشيانا و"الفالو" في توسكانا... وأنصتت إلى لغاتها المختلفة ما بين إقليم وآخر، أغانيها، تراتيل طقوسها الدينية...
وتشير سويد إلى أنه من الصعب اختزال الحديث عن إيطاليا، فهناك مواضيع كثيرة "لم أتطرق إليها في كتابي هذا الذي هو ثمرة جهد سنين إقامتي، وتطلّب الكثير من الجهد الميداني والمعلوماتي سواء من خلال مَن صادفتهم، أرشيف، انسيكلوبيديا، مواقع أو كتب كنتُ دوماً أقتنيها في جولاتي واستقراري وجميعها تصبّ في خدمة هدفي هذا"...
يصعب فعلاً اختصار هذا الكتاب الذي ينتمي في وقت واحد إلى أدب الرحلة وأدب اليوميات والانطباعات، فهو حافل بالوقائع والمشاهدات، خصوصاً أن كاتبته جابت رقعة جغرافية هائلة تضم ما تضم من مدن وقرى وشواطئ ومتاحف ومعارض وقصور ومنازل فنانين وادباء. وقد اعتمدت سويد أسلوبا يجمع بين السرد والوصف والتوثيق والتحليل، ما جعل القارئ يقبل عليه بمتعتين: متعة الإكتشاف ومتعة السرد. وقد نشرت في ختام الكتاب ألبوما من الصور الجميلة التقطتها بكاميراها بعين مرهفة.
لعلها واحدة من الصدف الغريبة، أن يصدر كتاب "إيطاليا الخفية" للكاتبة اللبنانية المقيمة في إيطاليا هدى سويد، غداة انتشار وباء كورونا في أرجاء البلاد وإحداثه كارثة مأساوية نادراً ما شهد تاريخها ما يماثلها في فظاعتها ورهبتها. ولئن صدر الكتاب بعد شيوع هذا الوباء في بلاد دانتي ودافنشي ورافايلو (دار بيسان 2020)، فالكاتبة أكبّت على تأليفه منذ سنوات بعدما جابت أنحاء البلاد، مدناً وسواحل وأريافاً وقرى، مدوّنةً ملاحظاتها وانطباعاتها، ساعيةً إلى أن يكون كتابها بمثابة رحلة شاملة، في الجغرافيا والتاريخ والعمران والفن والأدب. والعنوان الذي اختارته يبدو جاذباً فعلاً وحقيقياً، فهي تقدم للقارئ مشهداً، بل مشاهد مختلفة وغير مألوفة لإيطاليا المعروفة والمجهولة في آن واحد، معتمدة مرجعين، الأول هو شخصي في ما يعني من سفر وتنقل ومعاينة بصرية واحتكاك مباشر مع ما تكتب عنه، والثاني معرفي قائم على البحث في التاريخ والفنون وسائر العناصر المعرفية. وهكذا، تمكّنت الكاتبة كما تقول في مقدمتها من "تسليط الضوء على جوانب غير معروفة في إيطاليا، وتناول مواضيع بعيدة إلى حدٍّ ما عن مواضيع المدن الكبرى، والتركيز على إيطاليا الخفيّة أوالمستترة بما فيها من مدن صغيرة، بلدات وقرى، عادات وتقاليد بعيدة من الدعايات السياحية". وفعلاً من يقرأ الكتاب يدرك فوراً أنه ليس إزاء كتاب سياحي أو تحقيق صحافي يساعده في اكتشاف إيطاليا جغرافياً وتاريخياً، بل يجد نفسه أمام كتاب إبداعي يقوده في ما يشبه رحلة جمالية وأدبية وفكرية إلى إيطاليا في مختلف وجوهها الحضارية والفنية.
رحلة غوته
لا يسع القارئ هنا إلّا أن يتذكر الكتاب البديع "رحلة إيطالية" للفيلسوف والشاعر الألماني الشهير غوته، الذي كان يعدّ رحلته إلى إيطاليا بمثابة حدث كبير في حياته. وهو عبارة عن يوميات كتبها شاعر مخضرم عاش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودوّن فيها تجربته في السفر إلى إيطاليا التي كان يعتبرها موئل الفنون ومجمع الآثار العظيمة لعصر النهضة. ومعروف أن غوته دوّن يومياته هذه خلال قضائه أشهراً في فيرونا، البندقية، روما، متوقفاً أمام المعالم والآثار، وزائراً المتاحف ومستجلياً جماليات عصر النهضة وفلسفته. وهذا الكتاب يُعدُّ من عيون أدب الرحلة في العالم ولا يزال يشكّل مرجعاً راسخاً لقراءة الحضارة الإيطالية في أبرز تجلياتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، الذي يهوى أدب الرحلة وله فيه إنجازات مهمة، قرّر خوض رحلة غوته إلى إيطاليا، فسار على خطاه، جاعلاً من الكتاب مثابة دليل لاستعادة هذه الرحلة التاريخية وتعقّب الأماكن والمتاحف التي زارها صاحب "فاوست"، مطلقاً مخيلته من أجل كتابة رحلة أخرى، حديثة، ترصد التحولات التي طرأت على المشهد الإيطالي العام. وقد دأب السويدي على نشر فصول من رحلته هذه، تعبّرعن فرادة مشروعه، على أن يجمعها لاحقاً في كتاب.
وما تجدر الإشارة إليه أيضاً هو أن هدى سويد تبدو كأنها حفيدة الأمير اللبناني فخر الدين في رحلته الشهيرة إلى إيطاليا والتي دوّن خلالها ملاحظات وانطباعات صدرت لاحقاً في كتاب عنوانه "رحلة الأمير فخر الدين إلى إيطاليا 1613- 1618"، وقد أعادت دار السويدي والمؤسسة العربية نشره في تحقيق أنجزه قاسم وهب. كان الأمير حينذاك في ما يشبه المنفى الاختياري الذي دام خمسة أعوام، وتنقّل بين توسكانا وصقلية ونابولي. وزار المتاحف والساحات والقصور والأسوار والجسور والكنائس كما يعبّر في يومياته، وقصد المستشفيات والسجون والبنوك والمطابع، وفي رأسه مشروع تطوير بلاده على الطريقة الإيطالية. وقد توقف فخر الدين عند العادات وطرائق العيش وطقوس الأعياد والمواسم والملابس والأطعمة وحتى عند اللغة ومصطلحاتها.
قد تكون رحلة هدى سويد واحدة من إحدى الرحلات الطويلة والشاملة إلى إيطاليا المعروفة والمجهولة، التي قرأنا عنها ولم نقرأ، خصوصاً في اللغة العربية. وتبدو في ما كتبت أنها لم تقصد الترحال بين المدن والقرى بهدف السياحة وتزجية الوقت، بل وضعت نصب عينيها منذ اللحظة الأولى، أن الرحلة ستكون مادة لكتاب، في مسار جغرافي وثقافي وفني. وممّا ساعدها هو أنها تعيش في إيطاليا منذ أكثر من عقد، وتُلمّ بروحية الأمكنة، وكان إلى جانبها رفيق سفر هو زوجها المهندس ألدو رولا، ومثل هذا التنقل في أوساط البلاد يفترض الرفقة، لما يواجه من مصاعب وربما مشقات في أحيان. وتقول هدى في هذا الصدد إنها لم تعوّل كثيراً على مصاعب البدايات، و"إن كانت عبارةً عن انطلاق من نقطة صفر في بلد حمل الكثير من المفاجآت، من دون أن تستنزف أو تستوقف الأحلام". وقد صادفها منذ مجيئها إلى إيطاليا ما تسمّيه "انقلاب" المكان من كونه حيّزاً جغرافياً ساحراً كما رسمته في مخيلتها، إلى فضاء قلق وغير مستقرّ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وتقصد الصعوبات، بل التحدّيات التي واجهتها إيطاليا سواء بمفردها أو داخل المجموعة الأوروبية، وفي مقدمها صدور العملة الموحّدة (اليورو) في الأول من يناير (كانون الثاني) 1999 وما أعقبه من مشاكل على الصعيدين السياسي والمالي، إضافةً إلى أن إيطاليا لم تكن مهيّأة للانفتاح على الأجنبي، هي المُسّنة التي يُولد فيها أربعة أطفال سنوياً مقابل وفاة 400 شخص ما بين ليلة وضحاها، بحسب الإحصاءات. لكنّ إيطاليا، هي الدولة السابعة صناعياً على المستوى العالمي والثالثة أوروبياً بعد ألمانيا وفرنسا، إلى كونها البلد الأكثر غنى في المتاحف والكنوز الفنية.
البلاد المتميزة
وبعد تطرّق سويد إلى التحديات الكثيرة التي عاشتها وتعيشها إيطاليا، مرحلة تلو أخرى، تخلص إلى أن إيطاليا "بقيت فريدة بتمايزها وتنوّعها اللّذين من الصعب أن يتكررا بين إقليم وآخر، فلكلّ مقاطعة تباينها المجتمعي وخصوصيتها التاريخية، الاقتصادية والحضارية" وما تختزن من تنوع لغوي وسلوك وعادات وقيم، إضافةً إلى نتاج فكري وثقافي وإبداعي. وتقول سويد إن إيطاليا لم تصنعها روما والمدن الكبرى فقط، وإنما كل أقاليمها وقراها.
زارت هدى سويد معظم الأقاليم بدءًا من ليغوريا، حيث تقيم وقد جعلت بيتها هناك بمثابة "استراحة المقاتل"، تعود إليه قليلاً بعد غياب. أما المدن المعروفة والمستترة، القريبة أو النائية، التي زارتها وحطّت رحالها في ربوعها، فهي بدءًا من أقاليم شمال غربي الخريطة: ليغوريا، وادي أوسطا، بيمونتي ولومبارديا، وانتهاء في أقاليم شمال شرقي الخريطة: فريولي (فنيسيا وجوليا)، فينيتو، ترانتينو، آلتو آديجي وأميليا رومانا، مروراً بالوسط كإقليم توسكانا، ماركي، لازيو وأومبريا حتى الجنوب وما يتضمنه، مثل: أبروزو، موليسي، كامبانيا، بازيليكاتا، بوليا وكلابريا، إضافةً الى جزيرتي صقلية وسردينيا... ناهيك عن جمهوريتي "سان مارينو" و"الفاتيكان" المستقلتين بحكم ذاتي.
ومثلما أن رحلة سويد هي سفر في المكان أو الجغرافيا، فهي شملت في الوقت ذاته تاريخ إيطاليا عبر عددٍ كبيرٍ من آثارها التي تركتها الحضارات القديمة من إغريقية، فينيقية، أتروسكية، رومانية، بيزنطية، إسلامية، والحديثة من إسبانية وفرنسية... اطّلعت سويد كما تقول، على جذور إنسانها القديم وحضاراته ك"النوراغية" في سردينيا، و"السيكولي" في صقلية و"الليغوري" في ليغوريا... زارت المدن الكبرى مثل روما، ميلانو، جنوى، فلورنسا، سيينا، صقلية، نابولي، و زارت أيضا بقايا مدن تاريخية مثل بومباي. وفي هذا المسار، أُتيح لها أن تشاهد الآثار بل الروائع الفنية الثقافية من نحت وتشكيل، فإيطاليا تختزن 30 في المئة من الإرث الثقافي عالمياً، وقد أُدرج نحو 45 موقعاً فيها، على قائمة الإرث الثقافي والإنساني لليونسكو.
تسرد سويد زيارتها إلى المتاحف البارزة، كمتحف الفاتيكان الذي يُعدُّ ينبوع الفن الديني، ومشاهدتها لفنون عصر النهضة في غاليري "أوفيزي" و"الأكاديميا" في فلورنسا، وغاليري "بورغيزي" في روما، و"كابودي مونتي" في نابولي، و"آيجيزيو" أو المصري فيتورينو و"سانتا ماريا دي لا سكالا" في سيينا... وواجهت، كما تقول، للمرة الأولى رواد فن النحت في عصر النهضة، وتأمّلت روائع منحوتاتهم ك"داوود"، "قبور ميديشي"، "الشفقة"، "موسى" لميكيل أنجلو،"أعمدة ونافورات برنيني"، ناووس "أيليريا دل كاريتّو" أو "جنائزية أيليريا" لجاكوبو دلّا كويرشا، "الوجه المقدس" لسان نيكوديمو. كما تسنّت لها الفرصة لرؤية روائع الفن الأتروسكي ومنها "ناووس الزوجين" وغيرها من التحف والمنحوتات... إضافةً إلى الروائع التشكيلية ك"العشاء الأخير" لليوناردو دا فينشي، و"أفريسكي" أو جداريات "جيوتو"، لرفايلو وميكيل أنجلو، و"بريمافيرا" أو الربيع لبوتيشيلّي وغيرها لكارافاجو...
وتروي كيف عرّجت على مناطق صُوّرت فيها أجمل الأفلام الإيطالية والعالمية، ومن مخرجيها: فيتوريو دي سيكا، لوكينو فيسكونتي، روبرتو روسوليني، فديريكو فلليني، بيار باولو بازوليني وسيرجيو ليوني... عطفا على المخرجين المعاصرين ومنهم باولو صورنتينو، جوزيبي طورناتو، ماتيو غاروني، ناني موريتي، كاستيليتو وروبرتو بينيني. شاهدت أيضاً بركان ال"فيزوفيو" وما نثر من رماد في مدينة بومباي، وسارت فوق فوهة بركان ال"أتنا" الهامد في صقلية وفي وادي معابدها، زارت ضريح أركميدي، منحوتة ال"ساتيرو" والمسارح الإغريقية والرومانية، ومتّعت عينها في فن زجاج المورانو في فينيسيا وفن السيراميك في أبرز مدنه. وشاهدت أعياداً ومهرجانات دينية وشعبية، كمهرجان الأقنعة في فينيسيا و"فياريجيو"، سباق الأحصنة في ميدان سيينا، مهرجان المامويادا في سردينيا، السمك في "كاموليّي"، الأخطبوط في "تيلارو"، "فوكاشا دي ريكو" في ريكّو الجنويّة، الكستناء في ليشيانا و"الفالو" في توسكانا... وأنصتت إلى لغاتها المختلفة ما بين إقليم وآخر، أغانيها، تراتيل طقوسها الدينية...
وتشير سويد إلى أنه من الصعب اختزال الحديث عن إيطاليا، فهناك مواضيع كثيرة "لم أتطرق إليها في كتابي هذا الذي هو ثمرة جهد سنين إقامتي، وتطلّب الكثير من الجهد الميداني والمعلوماتي سواء من خلال مَن صادفتهم، أرشيف، انسيكلوبيديا، مواقع أو كتب كنتُ دوماً أقتنيها في جولاتي واستقراري وجميعها تصبّ في خدمة هدفي هذا"...
يصعب فعلاً اختصار هذا الكتاب الذي ينتمي في وقت واحد إلى أدب الرحلة وأدب اليوميات والانطباعات، فهو حافل بالوقائع والمشاهدات، خصوصاً أن كاتبته جابت رقعة جغرافية هائلة تضم ما تضم من مدن وقرى وشواطئ ومتاحف ومعارض وقصور ومنازل فنانين وادباء. وقد اعتمدت سويد أسلوبا يجمع بين السرد والوصف والتوثيق والتحليل، ما جعل القارئ يقبل عليه بمتعتين: متعة الإكتشاف ومتعة السرد. وقد نشرت في ختام الكتاب ألبوما من الصور الجميلة التقطتها بكاميراها بعين مرهفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.