رسالة الفدائية «صابحة» ناقلة خرائط تمركزات العدو على صدر طفلها الرضيع قبل وفاتها بأيام: ربنا يقويك يا ريس ويحفظ جيش مصر    إزالة بعض خيام الطرق الصوفية بطنطا بسبب شكوى المواطنين من الإزعاج    مؤسس مقاطعة السمك ببورسعيد ل"كل الزوايا": تأثير المبادرة وصل 25 محافظة    الزراعة ل«مساء dmc»: المنافذ توفر السلع بأسعار مخفضة للمواطنين    «إكسترا نيوز» ترصد جهود جهاز تنمية المشروعات بمناسبة احتفالات عيد تحرير سيناء    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    أستاذ اقتصاد: سيناء تستحوذ على النصيب الأكبر من الاستثمار ب400 مليار جنيه    استقالة متحدثة لخارجية أمريكا اعتراضا على سياسة بايدن تجاه غزة    ادخال 21 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة عبر بوابة معبر رفح البري    في اليوم ال203.. الاحتلال الإسرائيلي يواصل أعمال الوحشية ضد سكان غزة    موعد مباراة الهلال والفتح والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    رمضان صبحي: كنت حاسس إن التأهل من مجموعات إفريقيا سهل.. ومقدرش أنصح الأهلي    «الأرصاد» عن طقس اليوم: انخفاض في درجات الحرارة بسبب تأثر مصر بمنخفض جوي    رسالة من كريم فهمي ل هشام ماجد في عيد ميلاده    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فلسطيني يشتكي من الطقس الحار: الخيام تمتص أشعة الشمس وتشوي من يجلس بداخلها    طيران الاحتلال يشن غارات على حزب الله في كفرشوبا    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    إشادة برلمانية وحزبية بكلمة السيسي في ذكرى تحرير سيناء.. حددت ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية.. ويؤكدون : رفض مخطط التهجير ..والقوات المسلحة جاهزة لحماية الأمن القومى    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    أول تعليق من رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التانكي..رواية تحولات الزمان والمكان
نشر في صوت البلد يوم 12 - 11 - 2019

لا يمكن لقارئ رواية "التانكي" للكاتبة العراقية عالية ممدوح، إلا أن يطرح تساؤلاته حول فن العمارة، وعلاقته بفن الرواية، والتوقف أيضًا أمام مصطلحات النقد الأدبي المستلهمة منه والمستخدمة في تحليل الأعمال الروائية، فالبناء الروائي واللغة المستخدمة والوصف والشخصيات الروائية جميعها تتجه نحو التيقظ لعلاقة الفن المعماري بسائر الفنون، وتحديدًا التقاطع بين المدينة والرواية.. الرواية مبنية على شكل فصول سبعة، كأنها طوابق، وفي كل فصل توجد عدة عناوين داخلية ، كُتبت الرواية بين 2014- 2018 وتدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى 2012.
تنفتح الرواية منذ الصفحة الأولى على الماضي، حيث نرى صورة في ألبوم عتيق وعلى عائلة أيوب، حيث يُعدد الراوي أفرادها وهم يجلسون في وضعية تأهب لالتقاط صورة لهم جميعًا، الفقرة مكتوبة بمشهدية ووصف دقيق، تضع كل شخص في مكانه ليأتي ذكره لاحقًا، ويتم توظيف الشخصيات جميعها للحديث عن الابنة الغائبة "عفاف" أو "عفو".. عفاف هنا هي البطلة الإشكالية الفنانة الحاضرة الغائبة التي يتمحور حولها النص، درست هندسة العمارة مدة سنتين، ثم تركتها لتلتحق بالفنون الجميلة، رسمت أبطال الإلياذة، وكارل ماركس، ولينين، وأفراد عائلتها جميعًا، والجنائن المعلقة، وتشعر بمسؤوليتها عن الجمال، ولها قدرة على الجلوس بصمت لساعات، هي المرأة الجميلة المعتدلة القوام، تتغير أيضًا بمرور الوقت كما تغيرت الأماكن كلها، تغير جسد بغداد، كما تغير جسد عفاف " اعوجاج الفم غير من طراز البناء المعماري لسكن أعضاء وجهها"، ثم تصاب باكتئاب طويل الأمد، تصف نفسها قائلة لطبيبها : " تحول وجهي من النمط الكلاسيكي إلى النمط الاستعماري في انعدام القيمة".. ولدت عفاف عام 1958، وغادرت إلى باريس في عام 1979، لم تدخل أي موكب من مواكب الجمعيات الفنية أو السياسية، ولا تأثرت بأي أحد ، ولم تهلل لأي مسؤول حزبي أو سياسي أو ثقافي، إنها البطلة المتشبثة بحريتها، وفي الوقت عينه مغموسة بالحنين لأماكن الوطن.
تنحاز الرواية للفنون عامة، وإن كان ثمة انحياز أكثر للفنون البصرية، للرسم للنحت للعمارة التي بدا حضورها أساسيًّا في العلاقة مع المدينة، تحضر قصائد وموشحات أندلسية في بعض الفصول، وتبرز الكتابة مع الأستاذ صميم الذي يصف نفسه بأنه كاتب سري، يسرد الحكاية على دكتور كارل فالينو معالج عفاف، هناك أيضًا معاذ الألوسي المعماري الذي شُغفت عفاف بتصميماته، ويظل حضور شخصية معاذ الألوسي وارتباطه ببناء اسمه "المُكعب" هو الأهم. يمثل المُكعب المكان الذي يضم بين جدرانه التاريخ والجغرافيا معًا، يذهبون إليه محمولين بشغف الجمال، يدخلون ويخرجون منه مُحملين بالحكايا. لنقرأ جمل متفرقة عن المكعب: "سنصمم المكعب معًا، وندعو من نُغرم بهم إليه...هو المكان الذي حلمنا به ثلاثتنا طرب وعفاف وصميم كي يكون عاصمة التشكيل والفن لمحبي العمارة والفن والفنانين والمجانين..المكعب هو البناء العجيب الذي أسقط المفاهيم المسلم بها عن الحجرات المنزلية، أشكال البيوت العائلية، وبيت الزوجية...أحد أقطاب الحزب الحاكم في تلك الأعوام منتصف السبعينيات قال: إما أن تبني لنا واحدًا، أو تتركه لنا".
يُمكن القول أن صاحبة " حبات النفتالين" تشرع في رحلة داخلية للتوحد مع المكان واستعادته، رحلة تبدو لصيقة بتفاصيل نفسية وحسية مثل التصاق اللحم بالعظم، لا يمكن فصله من دون ألم ونزف وجراح. هذه الرحلة الطوبوغرافية تبدأ في بغداد، ومن شارع "تانكي الماي"، وكلمة "تانكي" مستمدة من كلمة عراقية تدل على أداة لتخزين الماء، والكلمة مستوحاة من مفردة انكليزية وتم تحريفها لتكون " تانكي"؛ حيث نشاهد على غلاف الرواية وصلات معدنية، وصنابير ماء تتداخل وتتشابك لتؤدي إلى بعضها البعض، مثل خطوط ذاكرة الأبطال داخل النص، لا بد أن يؤدي أحدها إلى الآخر.
الفضاء المكاني
إن فضاء وجود الإنسان هو انعكاس لحقيقة هذا الإنسان وجوهره تاريخيًّا وجغرافيًّا، واجتماعيًّا، لذا تقوم هذه الرواية على توصيف العلاقات مع الأماكن، خاصة مع المدينة، بغداد، وبين التلاشي والتذكر، وبين الخسائر والغياب والتداعي تنثال النصوص والتواريخ والمعلومات والفنون الملتحمة بالأبطال: سرديات صميم، خزفيات طرب، منحوتات يونس، مكعب معاذ، غناء عفاف ورسوماتها، الأبطال جميعهم ملتحمون بالفن عبر رؤى مختلفة تلتقي جميعها عند محور واحد، يقف النص على أزمة الهوية المكانية، يُعيد اكتشاف الماضي والسؤال عنه، واختبار الحاضر في صيغة تساؤلات مُلحة عن هوية المكان ومدى تأثره بكل ما دار حوله وعلى أرضه، فالمكان ليس مجرد شيء واقعي مرئي وملموس، بل هو فضاء يُقدم إجاباته عن الوجود الإنساني في لحظة ما.. هنا يكمن التقاطع الواضح بين المعمار في هندسة العمارة، وفي الفن الروائي، إذ لكل منهما هيكله المنظور وفق رؤية فنية عاكسة للتفاعل التاريخي والجغرافي والاجتماعي والحضاري.
الحديث عن المدن في النص لا يتوقف فقط عند بغداد، بل يتمدد كي يصل لمدن أخرى تجترح الكاتبة توصيفات لها، باريس مثلًا كما تراها عفاف "لا تصلح للمتزوجين حديثًا أو قديمًا، لا تصلح إلا لحقيقة واحدة في مجملها انتظري لوحتك، محبوبك، لا تتوقفي إلا أمام الحب"، هذا التجاور في مقارنة المدن وتشعب الرؤية لها، يتوازى مع حضور شخصية الحبيب "كيوم" الذي وضعته عفاف في اللوحة إلى جانب عوليس، وفي هذا الاختيار رمزية أخرى أيضًا.
يُنتج فن العمارة بمرور الزمن مساحة من الشغور التخيلي لبناء نص سردي، روائي تحديدًا، لأن الرواية هي العمل النثري الأكثر قدرة على استيعاب ما يمكن سرده حول مظاهر العمران وسيرة الأماكن والمدن بحيث ينمو النص التخيلي مع الوقت، وتكون غايته تسجيل ما يحدث ضمن سرد أدبي يتجاور فيه الزمان والمكان في سياق اجتماعي.
وفي رواية "التانكي" نلحظ العلاقة المتميزة بين الشخوص الروائية والفضاء المكاني ضمن انعكاس لا يمكن معرفة أي منهما ترك أثره على الآخر أكثر (المكان أو الإنسان)، انطلاقًا من هذا يلحظ القارئ كيفية إدراك الأبطال وتمثلات وعيهم للعالم، التي تنطلق من تكويناتهم الفنية المتقاطعة مع صلات اجتماعية وتاريخية، السارد صميم في النص، مثله مثل معاذ المعماري، وتتقاطع عفاف معهما ومع طرب في جمعها بين العمارة والرسم، وفي حبها للقصائد وترنمها بالأغنيات.
مرت الكاتبة بسلاسة شديدة على كثير من الأحداث المأساوية والحروب التي وقعت في العراق، وبدت المعلومات التاريخية والسياسية جزءًا لا ينفصل عن رؤى الأبطال ومصائرهم؛ السؤال عن عفاف الغائبة وما الذي أدى بها إلى الاختفاء والاكتئاب، يمكن العثور على اجابته ضمن تفاصيل صغيرة غير مباشرة. أما معاذ فقد غادر إلى أمكنة كثيرة في أوروبا وبعض البلاد العربية، لكنه لم يغادر المكعب في رأسه، صميم يرى أنه يكتب سيرة الآنسة عفاف وأن البشاعة احتلت سماء بغداد منذ أعوام الثمانينيات هو الذي لم يغادر المدينة وظل مأخوذًا بالحدود القصوى لقدرة الكائن البشري على تحمل الابتذال والسفاهة، لنقرأ : "هذا هو شارع التانكي، دكتور، وهو كائن وسط الصليخ الجواني، والذي سنعاود ذكره، اسمه وسكانه وجنرالاته موتاه وعاهراته، وهو الشارع ذاته المؤدي للكلية النازل من الكورنيش، فنصادف دار حكمت سليمان رئيس الوزراء في الثلاثينيات، ويقع في الجانب الغربي من الشارع يقابله سكن الفاذرية بعدما صار سكنا للراهبات، سنعاود ذلك بعد أن تم طردهم في العام 1969 في حكم الرئيس أحمد حسن البكر".
لا يمكن لقارئ رواية "التانكي" للكاتبة العراقية عالية ممدوح، إلا أن يطرح تساؤلاته حول فن العمارة، وعلاقته بفن الرواية، والتوقف أيضًا أمام مصطلحات النقد الأدبي المستلهمة منه والمستخدمة في تحليل الأعمال الروائية، فالبناء الروائي واللغة المستخدمة والوصف والشخصيات الروائية جميعها تتجه نحو التيقظ لعلاقة الفن المعماري بسائر الفنون، وتحديدًا التقاطع بين المدينة والرواية.. الرواية مبنية على شكل فصول سبعة، كأنها طوابق، وفي كل فصل توجد عدة عناوين داخلية ، كُتبت الرواية بين 2014- 2018 وتدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى 2012.
تنفتح الرواية منذ الصفحة الأولى على الماضي، حيث نرى صورة في ألبوم عتيق وعلى عائلة أيوب، حيث يُعدد الراوي أفرادها وهم يجلسون في وضعية تأهب لالتقاط صورة لهم جميعًا، الفقرة مكتوبة بمشهدية ووصف دقيق، تضع كل شخص في مكانه ليأتي ذكره لاحقًا، ويتم توظيف الشخصيات جميعها للحديث عن الابنة الغائبة "عفاف" أو "عفو".. عفاف هنا هي البطلة الإشكالية الفنانة الحاضرة الغائبة التي يتمحور حولها النص، درست هندسة العمارة مدة سنتين، ثم تركتها لتلتحق بالفنون الجميلة، رسمت أبطال الإلياذة، وكارل ماركس، ولينين، وأفراد عائلتها جميعًا، والجنائن المعلقة، وتشعر بمسؤوليتها عن الجمال، ولها قدرة على الجلوس بصمت لساعات، هي المرأة الجميلة المعتدلة القوام، تتغير أيضًا بمرور الوقت كما تغيرت الأماكن كلها، تغير جسد بغداد، كما تغير جسد عفاف " اعوجاج الفم غير من طراز البناء المعماري لسكن أعضاء وجهها"، ثم تصاب باكتئاب طويل الأمد، تصف نفسها قائلة لطبيبها : " تحول وجهي من النمط الكلاسيكي إلى النمط الاستعماري في انعدام القيمة".. ولدت عفاف عام 1958، وغادرت إلى باريس في عام 1979، لم تدخل أي موكب من مواكب الجمعيات الفنية أو السياسية، ولا تأثرت بأي أحد ، ولم تهلل لأي مسؤول حزبي أو سياسي أو ثقافي، إنها البطلة المتشبثة بحريتها، وفي الوقت عينه مغموسة بالحنين لأماكن الوطن.
تنحاز الرواية للفنون عامة، وإن كان ثمة انحياز أكثر للفنون البصرية، للرسم للنحت للعمارة التي بدا حضورها أساسيًّا في العلاقة مع المدينة، تحضر قصائد وموشحات أندلسية في بعض الفصول، وتبرز الكتابة مع الأستاذ صميم الذي يصف نفسه بأنه كاتب سري، يسرد الحكاية على دكتور كارل فالينو معالج عفاف، هناك أيضًا معاذ الألوسي المعماري الذي شُغفت عفاف بتصميماته، ويظل حضور شخصية معاذ الألوسي وارتباطه ببناء اسمه "المُكعب" هو الأهم. يمثل المُكعب المكان الذي يضم بين جدرانه التاريخ والجغرافيا معًا، يذهبون إليه محمولين بشغف الجمال، يدخلون ويخرجون منه مُحملين بالحكايا. لنقرأ جمل متفرقة عن المكعب: "سنصمم المكعب معًا، وندعو من نُغرم بهم إليه...هو المكان الذي حلمنا به ثلاثتنا طرب وعفاف وصميم كي يكون عاصمة التشكيل والفن لمحبي العمارة والفن والفنانين والمجانين..المكعب هو البناء العجيب الذي أسقط المفاهيم المسلم بها عن الحجرات المنزلية، أشكال البيوت العائلية، وبيت الزوجية...أحد أقطاب الحزب الحاكم في تلك الأعوام منتصف السبعينيات قال: إما أن تبني لنا واحدًا، أو تتركه لنا".
يُمكن القول أن صاحبة " حبات النفتالين" تشرع في رحلة داخلية للتوحد مع المكان واستعادته، رحلة تبدو لصيقة بتفاصيل نفسية وحسية مثل التصاق اللحم بالعظم، لا يمكن فصله من دون ألم ونزف وجراح. هذه الرحلة الطوبوغرافية تبدأ في بغداد، ومن شارع "تانكي الماي"، وكلمة "تانكي" مستمدة من كلمة عراقية تدل على أداة لتخزين الماء، والكلمة مستوحاة من مفردة انكليزية وتم تحريفها لتكون " تانكي"؛ حيث نشاهد على غلاف الرواية وصلات معدنية، وصنابير ماء تتداخل وتتشابك لتؤدي إلى بعضها البعض، مثل خطوط ذاكرة الأبطال داخل النص، لا بد أن يؤدي أحدها إلى الآخر.
الفضاء المكاني
إن فضاء وجود الإنسان هو انعكاس لحقيقة هذا الإنسان وجوهره تاريخيًّا وجغرافيًّا، واجتماعيًّا، لذا تقوم هذه الرواية على توصيف العلاقات مع الأماكن، خاصة مع المدينة، بغداد، وبين التلاشي والتذكر، وبين الخسائر والغياب والتداعي تنثال النصوص والتواريخ والمعلومات والفنون الملتحمة بالأبطال: سرديات صميم، خزفيات طرب، منحوتات يونس، مكعب معاذ، غناء عفاف ورسوماتها، الأبطال جميعهم ملتحمون بالفن عبر رؤى مختلفة تلتقي جميعها عند محور واحد، يقف النص على أزمة الهوية المكانية، يُعيد اكتشاف الماضي والسؤال عنه، واختبار الحاضر في صيغة تساؤلات مُلحة عن هوية المكان ومدى تأثره بكل ما دار حوله وعلى أرضه، فالمكان ليس مجرد شيء واقعي مرئي وملموس، بل هو فضاء يُقدم إجاباته عن الوجود الإنساني في لحظة ما.. هنا يكمن التقاطع الواضح بين المعمار في هندسة العمارة، وفي الفن الروائي، إذ لكل منهما هيكله المنظور وفق رؤية فنية عاكسة للتفاعل التاريخي والجغرافي والاجتماعي والحضاري.
الحديث عن المدن في النص لا يتوقف فقط عند بغداد، بل يتمدد كي يصل لمدن أخرى تجترح الكاتبة توصيفات لها، باريس مثلًا كما تراها عفاف "لا تصلح للمتزوجين حديثًا أو قديمًا، لا تصلح إلا لحقيقة واحدة في مجملها انتظري لوحتك، محبوبك، لا تتوقفي إلا أمام الحب"، هذا التجاور في مقارنة المدن وتشعب الرؤية لها، يتوازى مع حضور شخصية الحبيب "كيوم" الذي وضعته عفاف في اللوحة إلى جانب عوليس، وفي هذا الاختيار رمزية أخرى أيضًا.
يُنتج فن العمارة بمرور الزمن مساحة من الشغور التخيلي لبناء نص سردي، روائي تحديدًا، لأن الرواية هي العمل النثري الأكثر قدرة على استيعاب ما يمكن سرده حول مظاهر العمران وسيرة الأماكن والمدن بحيث ينمو النص التخيلي مع الوقت، وتكون غايته تسجيل ما يحدث ضمن سرد أدبي يتجاور فيه الزمان والمكان في سياق اجتماعي.
وفي رواية "التانكي" نلحظ العلاقة المتميزة بين الشخوص الروائية والفضاء المكاني ضمن انعكاس لا يمكن معرفة أي منهما ترك أثره على الآخر أكثر (المكان أو الإنسان)، انطلاقًا من هذا يلحظ القارئ كيفية إدراك الأبطال وتمثلات وعيهم للعالم، التي تنطلق من تكويناتهم الفنية المتقاطعة مع صلات اجتماعية وتاريخية، السارد صميم في النص، مثله مثل معاذ المعماري، وتتقاطع عفاف معهما ومع طرب في جمعها بين العمارة والرسم، وفي حبها للقصائد وترنمها بالأغنيات.
مرت الكاتبة بسلاسة شديدة على كثير من الأحداث المأساوية والحروب التي وقعت في العراق، وبدت المعلومات التاريخية والسياسية جزءًا لا ينفصل عن رؤى الأبطال ومصائرهم؛ السؤال عن عفاف الغائبة وما الذي أدى بها إلى الاختفاء والاكتئاب، يمكن العثور على اجابته ضمن تفاصيل صغيرة غير مباشرة. أما معاذ فقد غادر إلى أمكنة كثيرة في أوروبا وبعض البلاد العربية، لكنه لم يغادر المكعب في رأسه، صميم يرى أنه يكتب سيرة الآنسة عفاف وأن البشاعة احتلت سماء بغداد منذ أعوام الثمانينيات هو الذي لم يغادر المدينة وظل مأخوذًا بالحدود القصوى لقدرة الكائن البشري على تحمل الابتذال والسفاهة، لنقرأ : "هذا هو شارع التانكي، دكتور، وهو كائن وسط الصليخ الجواني، والذي سنعاود ذكره، اسمه وسكانه وجنرالاته موتاه وعاهراته، وهو الشارع ذاته المؤدي للكلية النازل من الكورنيش، فنصادف دار حكمت سليمان رئيس الوزراء في الثلاثينيات، ويقع في الجانب الغربي من الشارع يقابله سكن الفاذرية بعدما صار سكنا للراهبات، سنعاود ذلك بعد أن تم طردهم في العام 1969 في حكم الرئيس أحمد حسن البكر".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.