الصين تدعو لاتخاذ إجراءات ملموسة لدفع حل الدولتين ووقف إطلاق النار بغزة    من هم «بنو معروف» المؤمنون بعودة «الحاكم بأمر الله»؟!    أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    انتخابات مجلس الشيوخ.. الآليات والضوابط المنظمة لتصويت المصريين فى الخارج    "الزراعة" تنفيذ 286 ندوة إرشادية والتعامل مع 5300 شكوى للمزارعين    وزارة التموين تنتهى من صرف مقررات شهر يوليو 2025 للبقالين    ميناء سفاجا ركيزة أساسية في الممر التجاري الإقليمي الجديد    عبدالغفار التحول الرقمي ركيزة أساسية لتطوير المنظومة الصحية    وزير الإسكان يُصدر قرارًا بإزالة 89 حالة تعد ومخالفة بناء بمدينة الشروق    قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    إدارة الطوارئ في ولاية هاواي الأمريكية: إغلاق جميع المواني التجارية بسبب تسونامي    محمد السادس: مستعدون لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    تحليل جديد: رسوم ترامب الجمركية سترفع نفقات المصانع الأمريكية بنسبة 4.5%    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    لم نؤلف اللائحة.. ثروت سويلم يرد على انتقاد عضو الزمالك    إصابة طفل نتيجة هجوم كلب في مدينة الشيخ زايد    انخفاض تدريجي في الحرارة.. والأرصاد تحذر من شبورة ورياح نشطة    جدول امتحانات الشهادة الإعداية 2025 الدور الثاني في محافظة البحيرة    البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب «جنوب شرق الحمد»    التصريح بدفن جثة طفل لقى مصرعه غرقا بإحدى الترع بمركز سوهاج    حفل جماهيري حاشد بالشرقية لدعم مرشح حزب الجبهة بالشرقية    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    فقد الوعي بشكل جزئي، آخر تطورات الحالة الصحية للفنان لطفي لبيب    عزاء شقيق المخرج خالد جلال في الحامدية الشاذلية اليوم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    محافظ الدقهلية:1586 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية المستعمرة الشرقية بلقاس    فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية للقبول بكلية الهندسة    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. موعد الانطلاق والمؤشرات الأولية المتوقعة للقبول    التفاصيل الكاملة لسيدة تدعي أنها "ابنة مبارك" واتهمت مشاهير بجرائم خطيرة    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسفة في مواجهة أزمات الواقع
نشر في صوت البلد يوم 09 - 06 - 2019

احتدمَ الجدل في بدايات القرن العشرين حول دور الفلسفة في العالم المُعاصر الذي صار عنوانه العريض التطور العلمي وما حققته البشرية من اختراقات كبيرة في مُختلف المجالات، وهذا ما وضع مصير الفلسفة على المحك، حيثُ ذهبَ البعضُ إلى إعلان موت الفلسفة كون العلم بديلاً لهذه الحرفة الفكرية. إضافة الى أنَّ التخصص أصبحَ سمةً لِمُقتضيات الحياة الحديثة. وفي هذا السياق يقولُ جون ديوى: «كنتُ أسعى إلى أن أطيل عمر الفلسفة، لكن كلمتين أصبحتا قريبتين من الناس - الديمقراطية والعلم - أسدلتا الستار على مهنة الفيلسوف». وكان الكاتب العراقي علي حسين قد أورد في كتابه «دعونا نتفلسف» ردَّ بتراند راسل على زعيم البراغماتية الذي يعتقدُ بأنَّ مُعظم المعارف العلمية والتربوية والسياسية تبحثُ عن مسوغاتها في الفلسفة فبالتالي إنَّ الحديث عن وصول الفلسفة إلى درب مسدود ليس إلا افتراضاً خاطئاً. وما يؤكدُ صحة رأي بتراند راسل هو توالي الإصدارات الفلسفية التي تُناقشُ أطروحات الفلاسفة في شأن مفاهيم حياتية راهنة. وهنا، يأتي السؤالُ عن السعادة والقلق على المكانة والخوف من المُستقبل والحب في صدارة ما يهتمُ به المُتابعون الحقل الفلسفي. واللافت أن ما ألفه كلّ من آلان باديو ولوك فيري وآلان دوبوتون يتطرق إلى اهتمامات الإنسان ومظاهر الحياة المُعقدة من منطلق أطروحات فلسفية. يلاحظُ المتابعُ لما أنجزه الكاتب السويسري آلان دوبوتون أنَّ ما يُقدمه الأخير هو بمثابة عيادة فلسفية، إذ يستخلصُ من آراء الفلاسفة وسيرهم وصفةً للتهدئة من حدة انفعالات المرء وما يؤرقه نتيجة ازدياد العوامل التي تغذي الشعور بالقلق في عالمٍ «تحول إلى سوق كبير» على حدِ قول ريجيس دوبريه. وما يحددُ اختياراتنا هو الدعايات التي حجبت وظيفة الحواس والتفكير. ففي ظل هذا الواقع الذي يفرض حاجات جديدة يوماً تلو يوم، ناهيك بخطر عودة التيارات العُنصرية تحت لافتة الحفاظ على الخصوصية، قد تكون الفلسفة عزاءً وحيداً، بل هي ضرورة لا مَحيد عنها.

وإدراكاً منه لهذه الحقيقة يحتذي الباحثُ المغربي سعيد ناشيد بهؤلاء الأسماء المشار إليهم أعلاه، إذ يُفنِّدُ ما راج وسط العامة عن انعدام الصلة بين الفلسفة والحياة الواقعية من خلال ما يضمهُ مؤلفه الجديد «تداوي بالفلسفة» (دار التنوير). ومن الواضحِ أن صاحب «دليل التدين العاقل» استلهم عنوان كتابه مما قاله نيتشه عن الفيلسوف بأنَّه طبيب الحضارة.

قديماً، قد حددَ أبيقور أيضاً وظيفة الفلسفة بتخلص الإنسان من معاناة العقل، وعندما تقفدُ هذا الدور لن تكون ذات نفع تماماً مثل الطب الذي لا يجدي نفعاً من دون التخفيف من ألم العلة الجسدية. كذلك، يرى سعيد ناشيد أنَّ أهمية دراسة الفلسفة تكمنُ في تعزيز الإرادة لمواجهة أشد ظروف الحياة قسوة وضراوةً، وإذا غاب هذا الهدف لن تكون مُتابعتك الفلسفة سوى مضيعة للوقتِ.

وفي هذا الإطار، يؤكدُ الكاتبُ أنَّ معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهمَ امتلاك المعرفة ويطلقُ عليهم ضحايا ثقافة النصوص، ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية. ولا يريد سعيد ناشيد إلغاء تجارب المتصوفة والحكماء والشعراء والروائيين وإضافاتهم للتراث الإنساني وما يتضمنه وعاء نصوصهم من الأفكار السامية وهي تُعبّرُ عن وحدة الهموم والتطلعات الإنسانية. ولكن قد لا تعوضُ كل هذه المُمارسات مهمة الفلسفة في إرشادنا الى إعمال الفكرِ وتعميق فهمنا لمحددات السلوك البشري. أكثر من ذلك فإنَّ اكتساب القدرة على التفكير النقدي يفتحُ لك الباب لرؤية الأشياء بصورتها الحقيقية ويمكنك نزع السحر عن الأشياء وهذا ما يدعمُ جهاز المناعة الذاتية بحيثُ تحول دون الوقوع في مطب خيبات الأمل المتتالية سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو الحب أو الثروة أو السعادة أو الألم كما يشرح المؤلفُ في مقدمة كتابه.

يقومُ أسلوبُ المُؤلفِ على طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة المُقنعة من خلال ما هو متداول في أروقة الفلاسفة، والإمساك بالخيط الذي يربطُ الفلسفةِ بتفاصيل الحياة اليومية. طبعاً، السؤالُ عن إمكان تحويل الفلسفة إلى أداةٍ لِمواجهة صعوبات الحياة هو محور الكتاب والجواب عنه تُشكلُ هدفاً أساسياً لمؤلفه، مؤكداً أنّ تبدل طريقة التفكير وامتلاك القدرة على التفكير الإيجابي يمكنهما تحسين نوعية الحياة.

ويمكن أيضاً استيعاب الظروف وفك تعقيدات الواقع من دون انسياق وراء ردود الفعل السلبية، وبذلك يقول سعيد ناشيد أنَّ الحياة فن يحتاج إلى التعلم.

وفي هذا الإطار، يتوقفُ الكاتبُ عند تجربة المرض لدى نيتشه من المعلوم أنَّ صاحب «هكذا تكلم زرادشت» عانى من مشكلات صحية وتوصل عبر مُعاناتهِ إلى قناعةٍ بأن ضراوة المرض قد تجعلُ الإنسانَ أكثر إقبالاً على الحياة. ويضيفُ ما أنجزهُ إيمانويل ليفيناس أثناء اعتقاله في السجون النازية من مصنفات فلسفية إلى حلقة النماذج التي تكشف عن مفاعيل الفكر في تحويل واقع قاسٍ إلى مجال لتطوير الذات. كما يذكر من اليونان شخصية إبكتيتوس الذي كان عبداً وفيلسوفاً قد مرَّ بظروف مؤلمة، بحيث وضع سيده ساقه في آلة التدوير، مترقباً رد فعله لكنه ظلّ يرددُ بالهدوء «إنك ستكسرها» إلى أن ملَّ مُعذِبه وأطلق سراحه. يفسرُ سعيد ناشيد بناءً على فلسفة ديوجين وسينيكا وإبكتيتوس بأن معظم مشاكل الإنسان ناجمةُ عن سوء تفكيره وافتقاره إلى المرونة في التعامل مع نتائج الأمور التي قد تأتي بعكس توقعاته المسبقة. لذا، من الأفضل بالنسبة إلى الإنسان بدلاً من محاولة التحكم بالخارج أن يتحكمَ في عالمه الداخلي. وهذا ما يتقاطع ومقولة بوثيوس «من يرد أن يكون ذا سلطانٍ حقيقي فليبسط سلطانه على نفسه».

عامل آخر وراء شعورنا بالقلق هو التفكير في ما وقع في الماضي أو ما سيأتي في المستقبل. وهنا، يستشهد برأي الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، الذي ينفي وجود الماضي والمستقبل إلا في التفكير. وفي رأيه، فإن الحاضر هو اللحظة الحقيقية. يبدو أنَّ باديو يوافق الشاعر عمر الخيام الذي يعلنُ أنه لا يعنيه «يوم مرَّ ومضى ويوم لم يأتِ بعد».

وبدوره يؤكدُ سعيد ناشيد أن الوقائع تُمحى ولا تبقى سوى أفكارنا عنها وتأويلاتنا، وهذا امتداد لقاعدةٍ صاغها الرواقيون بأن الأشياء لا تسوءُ إنما تسوء الأفكارُ حول الأشياء وتصحُ مقاربة الملل وفقاً لذلك المبدأ. لأنَّ الملل نتيجة لرفض الإنسان بأن يكون ما هو عليه بحسب رأي ألبير كامو. يعالجُ مفصل آخر من الكتاب علاقة الفلسفة بالجسد، وهو أمر يحتمُ الإنصات لما يقوله نيتشه، باعتبار أن عملية التفكير لدى فيلسوف المطرقة لا تتمُ بمعزل عن فاعلية الجسد. ويقولُ في هذا الصدد: «إن تفكيرك هو جسدك».

تحضرُ مسألة السعادة في المقاربات الفلسفية، بحيثُ تنوعتْ الاتجاهات في ما يتعلق بهذا الموضوع. يرى فريقُ من الفلاسفة أنَّ السعادة تكمنُ في الحكمةِ والقدرة على العيشِ بأقل ما يمكنُ من التوتر. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الابتعاد مما يسميه سبينوزا الأهواء الحزينة أو يعتبرهُ نيتشه «غرائز الانحطاط» هو ما يزيدُ الشعور بالإيجابية والسعادة لدى المرء.

وعلى هذا المنوال، يتناول ُسعيد ناشيد في ضوء الفلسفة قضايا شائكة ويضمنُ عشر وصايا مُستقاة من نصوص فلسفية في مؤلفه الذي بمنزلة عيادة لتأمل ما يضجُ به ذهن الإنسان من الموت إلى السعادة والمرض والمصير واللايقين ونفض غبار الكسل عن العقل قبل أن تغزو الأشباحُ الرأس
احتدمَ الجدل في بدايات القرن العشرين حول دور الفلسفة في العالم المُعاصر الذي صار عنوانه العريض التطور العلمي وما حققته البشرية من اختراقات كبيرة في مُختلف المجالات، وهذا ما وضع مصير الفلسفة على المحك، حيثُ ذهبَ البعضُ إلى إعلان موت الفلسفة كون العلم بديلاً لهذه الحرفة الفكرية. إضافة الى أنَّ التخصص أصبحَ سمةً لِمُقتضيات الحياة الحديثة. وفي هذا السياق يقولُ جون ديوى: «كنتُ أسعى إلى أن أطيل عمر الفلسفة، لكن كلمتين أصبحتا قريبتين من الناس - الديمقراطية والعلم - أسدلتا الستار على مهنة الفيلسوف». وكان الكاتب العراقي علي حسين قد أورد في كتابه «دعونا نتفلسف» ردَّ بتراند راسل على زعيم البراغماتية الذي يعتقدُ بأنَّ مُعظم المعارف العلمية والتربوية والسياسية تبحثُ عن مسوغاتها في الفلسفة فبالتالي إنَّ الحديث عن وصول الفلسفة إلى درب مسدود ليس إلا افتراضاً خاطئاً. وما يؤكدُ صحة رأي بتراند راسل هو توالي الإصدارات الفلسفية التي تُناقشُ أطروحات الفلاسفة في شأن مفاهيم حياتية راهنة. وهنا، يأتي السؤالُ عن السعادة والقلق على المكانة والخوف من المُستقبل والحب في صدارة ما يهتمُ به المُتابعون الحقل الفلسفي. واللافت أن ما ألفه كلّ من آلان باديو ولوك فيري وآلان دوبوتون يتطرق إلى اهتمامات الإنسان ومظاهر الحياة المُعقدة من منطلق أطروحات فلسفية. يلاحظُ المتابعُ لما أنجزه الكاتب السويسري آلان دوبوتون أنَّ ما يُقدمه الأخير هو بمثابة عيادة فلسفية، إذ يستخلصُ من آراء الفلاسفة وسيرهم وصفةً للتهدئة من حدة انفعالات المرء وما يؤرقه نتيجة ازدياد العوامل التي تغذي الشعور بالقلق في عالمٍ «تحول إلى سوق كبير» على حدِ قول ريجيس دوبريه. وما يحددُ اختياراتنا هو الدعايات التي حجبت وظيفة الحواس والتفكير. ففي ظل هذا الواقع الذي يفرض حاجات جديدة يوماً تلو يوم، ناهيك بخطر عودة التيارات العُنصرية تحت لافتة الحفاظ على الخصوصية، قد تكون الفلسفة عزاءً وحيداً، بل هي ضرورة لا مَحيد عنها.
وإدراكاً منه لهذه الحقيقة يحتذي الباحثُ المغربي سعيد ناشيد بهؤلاء الأسماء المشار إليهم أعلاه، إذ يُفنِّدُ ما راج وسط العامة عن انعدام الصلة بين الفلسفة والحياة الواقعية من خلال ما يضمهُ مؤلفه الجديد «تداوي بالفلسفة» (دار التنوير). ومن الواضحِ أن صاحب «دليل التدين العاقل» استلهم عنوان كتابه مما قاله نيتشه عن الفيلسوف بأنَّه طبيب الحضارة.
قديماً، قد حددَ أبيقور أيضاً وظيفة الفلسفة بتخلص الإنسان من معاناة العقل، وعندما تقفدُ هذا الدور لن تكون ذات نفع تماماً مثل الطب الذي لا يجدي نفعاً من دون التخفيف من ألم العلة الجسدية. كذلك، يرى سعيد ناشيد أنَّ أهمية دراسة الفلسفة تكمنُ في تعزيز الإرادة لمواجهة أشد ظروف الحياة قسوة وضراوةً، وإذا غاب هذا الهدف لن تكون مُتابعتك الفلسفة سوى مضيعة للوقتِ.
وفي هذا الإطار، يؤكدُ الكاتبُ أنَّ معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهمَ امتلاك المعرفة ويطلقُ عليهم ضحايا ثقافة النصوص، ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية. ولا يريد سعيد ناشيد إلغاء تجارب المتصوفة والحكماء والشعراء والروائيين وإضافاتهم للتراث الإنساني وما يتضمنه وعاء نصوصهم من الأفكار السامية وهي تُعبّرُ عن وحدة الهموم والتطلعات الإنسانية. ولكن قد لا تعوضُ كل هذه المُمارسات مهمة الفلسفة في إرشادنا الى إعمال الفكرِ وتعميق فهمنا لمحددات السلوك البشري. أكثر من ذلك فإنَّ اكتساب القدرة على التفكير النقدي يفتحُ لك الباب لرؤية الأشياء بصورتها الحقيقية ويمكنك نزع السحر عن الأشياء وهذا ما يدعمُ جهاز المناعة الذاتية بحيثُ تحول دون الوقوع في مطب خيبات الأمل المتتالية سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو الحب أو الثروة أو السعادة أو الألم كما يشرح المؤلفُ في مقدمة كتابه.
يقومُ أسلوبُ المُؤلفِ على طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة المُقنعة من خلال ما هو متداول في أروقة الفلاسفة، والإمساك بالخيط الذي يربطُ الفلسفةِ بتفاصيل الحياة اليومية. طبعاً، السؤالُ عن إمكان تحويل الفلسفة إلى أداةٍ لِمواجهة صعوبات الحياة هو محور الكتاب والجواب عنه تُشكلُ هدفاً أساسياً لمؤلفه، مؤكداً أنّ تبدل طريقة التفكير وامتلاك القدرة على التفكير الإيجابي يمكنهما تحسين نوعية الحياة.
ويمكن أيضاً استيعاب الظروف وفك تعقيدات الواقع من دون انسياق وراء ردود الفعل السلبية، وبذلك يقول سعيد ناشيد أنَّ الحياة فن يحتاج إلى التعلم.
وفي هذا الإطار، يتوقفُ الكاتبُ عند تجربة المرض لدى نيتشه من المعلوم أنَّ صاحب «هكذا تكلم زرادشت» عانى من مشكلات صحية وتوصل عبر مُعاناتهِ إلى قناعةٍ بأن ضراوة المرض قد تجعلُ الإنسانَ أكثر إقبالاً على الحياة. ويضيفُ ما أنجزهُ إيمانويل ليفيناس أثناء اعتقاله في السجون النازية من مصنفات فلسفية إلى حلقة النماذج التي تكشف عن مفاعيل الفكر في تحويل واقع قاسٍ إلى مجال لتطوير الذات. كما يذكر من اليونان شخصية إبكتيتوس الذي كان عبداً وفيلسوفاً قد مرَّ بظروف مؤلمة، بحيث وضع سيده ساقه في آلة التدوير، مترقباً رد فعله لكنه ظلّ يرددُ بالهدوء «إنك ستكسرها» إلى أن ملَّ مُعذِبه وأطلق سراحه. يفسرُ سعيد ناشيد بناءً على فلسفة ديوجين وسينيكا وإبكتيتوس بأن معظم مشاكل الإنسان ناجمةُ عن سوء تفكيره وافتقاره إلى المرونة في التعامل مع نتائج الأمور التي قد تأتي بعكس توقعاته المسبقة. لذا، من الأفضل بالنسبة إلى الإنسان بدلاً من محاولة التحكم بالخارج أن يتحكمَ في عالمه الداخلي. وهذا ما يتقاطع ومقولة بوثيوس «من يرد أن يكون ذا سلطانٍ حقيقي فليبسط سلطانه على نفسه».
عامل آخر وراء شعورنا بالقلق هو التفكير في ما وقع في الماضي أو ما سيأتي في المستقبل. وهنا، يستشهد برأي الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، الذي ينفي وجود الماضي والمستقبل إلا في التفكير. وفي رأيه، فإن الحاضر هو اللحظة الحقيقية. يبدو أنَّ باديو يوافق الشاعر عمر الخيام الذي يعلنُ أنه لا يعنيه «يوم مرَّ ومضى ويوم لم يأتِ بعد».
وبدوره يؤكدُ سعيد ناشيد أن الوقائع تُمحى ولا تبقى سوى أفكارنا عنها وتأويلاتنا، وهذا امتداد لقاعدةٍ صاغها الرواقيون بأن الأشياء لا تسوءُ إنما تسوء الأفكارُ حول الأشياء وتصحُ مقاربة الملل وفقاً لذلك المبدأ. لأنَّ الملل نتيجة لرفض الإنسان بأن يكون ما هو عليه بحسب رأي ألبير كامو. يعالجُ مفصل آخر من الكتاب علاقة الفلسفة بالجسد، وهو أمر يحتمُ الإنصات لما يقوله نيتشه، باعتبار أن عملية التفكير لدى فيلسوف المطرقة لا تتمُ بمعزل عن فاعلية الجسد. ويقولُ في هذا الصدد: «إن تفكيرك هو جسدك».
تحضرُ مسألة السعادة في المقاربات الفلسفية، بحيثُ تنوعتْ الاتجاهات في ما يتعلق بهذا الموضوع. يرى فريقُ من الفلاسفة أنَّ السعادة تكمنُ في الحكمةِ والقدرة على العيشِ بأقل ما يمكنُ من التوتر. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الابتعاد مما يسميه سبينوزا الأهواء الحزينة أو يعتبرهُ نيتشه «غرائز الانحطاط» هو ما يزيدُ الشعور بالإيجابية والسعادة لدى المرء.
وعلى هذا المنوال، يتناول ُسعيد ناشيد في ضوء الفلسفة قضايا شائكة ويضمنُ عشر وصايا مُستقاة من نصوص فلسفية في مؤلفه الذي بمنزلة عيادة لتأمل ما يضجُ به ذهن الإنسان من الموت إلى السعادة والمرض والمصير واللايقين ونفض غبار الكسل عن العقل قبل أن تغزو الأشباحُ الرأس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.