الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    محافظ الدقهلية يتابع سير العمل في المركز التكنولوجي بحي شرق المنصورة    أسعار الدواجن اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    تراجع مؤشرات الأسهم الروسية في بداية تعاملات بورصة موسكو    بالفيديو.. الغرف التجارية: متابعة دائمة من الأجهزة الرقابية لتطبيق التخفيضات خلال الأوكازيون    روبيو: حضور القادة الأوروبيين لقاء ترامب وزيلينسكي سيحقق توازن ديناميكي بالمفاوضات    12 شهيدا ومصابون بنيران جيش الاحتلال في غزة    انهيار نيمار وإقالة المدرب.. توابع سقوط سانتوس المذل في الدوري البرازيلي    فيريرا يدرس إجراء تغييرات على تشكيل الزمالك أمام مودرن سبورت    بيراميدز يتقدم بشكوى ضد الحكم أمين عمر    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    ضبط 12 طن دقيق مدعم داخل المخابز السياحية بالمخالفة للقانون    حجز المتهم بالتعدي على زوجة شقيقه في الشرقية    «النيابة» تصدر قرارات في واقعة مقتل لاعبه الجودو بالإسكندرية على يد زوجها    إيرادات أفلام موسم الصيف.. "درويش" يتصدر شباك التذاكر و"روكي الغلابة" يواصل المنافسة    الجمعة.. حكيم يحيي حفلا غنائيا بالساحل الشمالي    طب قصر العيني تبحث استراتيجية زراعة الأعضاء وتضع توصيات تنفيذية شاملة    صحة الإسكندرية تقدم 4 ملايين خدمة خلال شهر ضمن «100 يوم صحة»    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    إصابة عامل في حريق شقة سكنية بسوهاج    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    وزير الرياضة ورئيس الأولمبية يستعرضان خطط الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    ريهام عبدالغفور عن وفاة تيمور تيمور: «كنت فاكرة أن عمري ما هتوجع تاني»    من هشام عباس إلى علي الحجار.. جدول فعاليات مهرجان القلعة 2025    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان ملتقى السمسمية القومي    وزيرة التضامن الاجتماعي: دعم مصر لقطاع غزة لم يكن وليد أحداث السابع من أكتوبر    وزير الإنتاج الحربى يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية المصرية للهندسة والتكنولوجيا    موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر سبتمبر 2025 وخطوات التسجيل والاستعلام    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    استشاري مناعة: مبادرة الفحص قبل الزواج خطوة أساسية للحد من انتشار الأمراض    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    جامعة مصر للمعلوماتية تستضيف جلسة تعريفية حول مبادرة Asia to Japan للتوظيف    حلوى باردة ومغذية فى الصيف، طريقة عمل الأرز باللبن    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    إعلام عبري: تقديرات الجيش أن احتلال مدينة غزة سوف يستغرق 4 أشهر    ارتفاع سعر اليورو اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    نشأت الديهي: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان فى هولندا    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    ترامب يهاجم وسائل الإعلام الكاذبة بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فوزي كريم فتى «العباسية» البغدادي يرحل
نشر في صوت البلد يوم 20 - 05 - 2019

لعل رحيل شاعر ومثقف بحجم فوزي كريم يبدو مقاماً جديراً بمقال الرثاء، وموضعَ حالٍ يقتضي التأبين، وهو ما سيحظى به، بلا شك، بوصفه شاعراً أساسياً في جيل الستينيات وفي الشعرية العراقية والعربية بشكل عام، وإنساناً يستحقُّ الصلاة الجماعية للشعراء في يوم رحيله.
ولأن ما من شاعر تغيب روحه مع رحيله الجسدي، فإن أفكاره ومواقفه وقلق أسئلته تواصل الحضور، "حيث تبدأ الأشياء" فيصبح الرحيل أبعد من كونه انخراطاً في طقس عزاء جماعي، ويغدو حافزاً لمراجعة الإرث الذهني والروحي للشاعر في تجربته الممتدة لأكثر من نصف قرن بوصفها رحلة تامة ومتاهة انتهتْ بالاكتمال.
ذلك أن شعر فوزي يزخر بالمراثي، منذ مرثيته المبكرة لحسين مردان، وصولاً إلى "مرثية الحمل الضال" لمحمود جنداري: وهو ما سميتُهُ "مرثية الذات عبر الآخر" في دراستي عن ديوانه "قصائد من جزيرة مجهولة":
"لم أكنْ عِظةً لأحدٍ
لم يكنْ وطني، يومَ غادرتُ، غيرَ القميصِ الذي أرتدي
واحتمالات أن لا أعود".
والمرثية كما يراها فوزي نفسه تختلف عن التعزية، بمعنى إنها لليست مجرَّدَ عَبرة أسى، بل عِبرة تجربة:
"تنتظرُ عزاءً من أحد؟
إني أنتظر مراثيَ".
واقتداء بهذا الفهم أهدى أعماله الشعرية بمرثية جماعية لافتة: "إلى: محمود جنداري، جاسم الزبيدي، عباس فاضل، محسن إطيمش، منهل نعمة، محمد شمسي، شريف الربيعي، موفق خضر، عبد الجبار عباس، غازي العبادي، موسى كريدي، أحمد فياض المفرجي، أحمد أمير، عبد الأمير الحصيري، سامي محمد، إلى أرواح هؤلاء وكل المنسيين من أبناء جيلي، ممن هرستهم عجلة المرحلة البربرية، أهدي قصائدي هذه، عاجزة عن العزاء والسلوان".
وبعيداً عن مقام الرثاء فإن فوزي كريم مثقف نقدي حيوي، وكثيراً ما يجدُ متعة أبيقورية في السجال، فكانت جلسات مقاهي أوحانات دمشق، خلال زياراته المتكررة، زاخرة بالحوار والاختلاف، خاصة بعد أن أجرى عمليه القلب المفتوح، وأصبح من أصحاب "الكأس الواحدة" أو يكتفي طيلة السهرة بمتعة النديم الذي يضفي على السهرات ظرفاً بغدادياً أنيقاً. ففي شخصيته وشعره ثمة "تكامل القديس والساحر"، كما يقول سعدي في تقديمه لأعماله الشعرية. بيد أن هذا التكامل يبدو لي كناية عن قلق داخلي، فحين كتب فوزي كريم كتابه النقدي "تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر السياسة"، وهو الذي سبق أن وضع توقيعه إلى جانب فاضل العزاوي وسامي مهدي على "البيان الشعري" لجيل الستينات الذي كتبه الأول، لم ينجُ في الواقع من تلك الأهواء والمخاطر التي قادته إلى جذرية في المواقف إزاء التحولات السياسية عندما وضع توقيعه في مكان آخر لاحقاً! إذ رأى في نقده الذي قارب التهكم من تغني سامي مهدي بالجماليات القومية، في كتابه "الموجة الصاخبة" مقابل حماسة فاضل العزاوي لحركات التحرر في العالم، والنزعة الكونية لجيل الستينات في كتابه "الروح الحية" رأى أنَّ السياسة "تمتص المواهب الكبيرة" لكن السياسة ليست مجرَّدَ انصياع إلى يقين الخيار عبر الانتماء الحزبي، ولكنها تشمل كذلك مواقف وخيارات وتفاعلات إزاء ما يحدث من حولنا عن قرب او في العالم عن بعد، أو حتى في التاريخ العام.
وفي "ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة" لم تبُدُ مرآته الذاتية صافية بما يكفي لعكس صورة واحدة للشاعر والمثقف بل حتى بين رؤيته النقدية وتاريخ تجربته الشعرية، اتنقد ما سماه الحداثة المتطرفة على صعيد التجريب اللغوي والشكلي، وعبَّر عن موقف مضادٍ لقصيدة النثر. ولعل شغفه العالي بالموسيقى الذي دعاه إلى تأليف كتاب "فضائل الموسيقى" جعل موقفه يتسم بتلك الجذرية، وهو ما تبناه في مجلته "اللحظة الشعرية" التي أصدرها في لندن في التسعينات.
حين قرأت "ثياب الامبراطور" استذكرتُ ديوان فوزي كريم "قارات الأوبئة" بوصفه نموذجاً يعبر عن عمق المأزق والقلق الداخلي في تجربة الشاعر المحافظ! فهو عمل شعري يبدو غريباً عن مجمل تجربته، ويتناقض مع موقفه الجذري ذاك. كان "قارات الأوبئة" كناية عن نشيد طويل مقسم إلى فصول، يتخلى عن الإيقاع، والتقفية والجمل القصيرة المعهودة، في تجربته منذ ديوانه الأول "حيث تبدأ الأشياء" ليعاودها في تداخل بين الشعر النثر لينطلق نحو تدفق شعري حرِّ، حر على مستوى الأداء وعلى مستوى الاستجابة لإغواء التأليف والبيان وغرابة الصور التي عاد وأسقطها على من انتقدهم من شعراء بوصفهم "شعراء صنعة بلاغية"، وهي مدرسة ليست غريبة أو طارئة في تاريخ الشعر العربي منذ العصر العباسي، وأطلق عليها النقاد العرب اسم البديع، لكنه رأى أن هذا النمط من الشعر خالٍ من أية تجربة روحية بل لا يعدو كونه تأليفاً. ولا ينطوي على دلالة خارج البلاغة الزخرفية. فانتقد شعر أبي تمام بوصفه مغلقاً ومنكفئاً إلى الداخل حيث الذخيرة البلاغية، والانهمام بالصنعة والتكلف، وصولاً إلى ما سماه "مطحنة أدونيس اللغوية" وانتهاءً إلى التجارب الجديدة في الشعر العربي، لكنه اعتنى بالمقابل بترجمة الشاعر الإيطالي كواسيمودو بما يعكس جانباً آخر من القلق وربما التنافر بين شعره ونظريته النقدية فشعر كواسيمودو زاخر بالمجازات والاستعارات والتشبيهات المتناسلة ويمثل إلى جانب مونتاليوأونغاريتي مثلث الشعر "الهرمسي" في إيطاليا وأوربا عموماً، وشعرهم يتسم بالبحث الدائم عن لغة فريدة سعوا عبرها للانفصال عما كان سائداً في الشعر الإيطالي، فبدت نصوصهم أقرب إلى الدلالات التشعبية في الشعر الفرنسي خاصة لدى مالارميه. ولا شك أن فوزي كريم كان واعياً لذلك التناقض في نظريته الشعرية فحاول في تقديمه التركيز على انحيازه لما ينطوي عليه شعر كواسيمودو من غنائية وإيقاعية لا يمكن ظهورها في الترجمة!
وهكذا، فهو حينَ يأخذ على التجريب في الحداثة خلوها من الروح إنما يقدم في الخلاصة فهماً ذهنياً، لا روحياً للحداثة. ويستعيد على العموم جدلاً قديماً في النقد العربي، منذ ثنائية الشعر: "المطبوع والمصنوع" التي أطلقها ابن رشيق في كتابه "العمدة" التي صنَّف فيها شعر كل من أبي تمام وأبي نواس وبشار وابن المعتز ومسلم بن الوليد وسواهم على أنه شعر صنعة وديباجة، تلك الثنائية التي ستبدو تعسفية أذ ما جرى النظر لها بوصفها اختلافاً حتمياً، أو معياراً داخلياً للشعر، بينما تنطوي في جوهرها على ما ينعكس ائتلافاً في تجربة شعرية واحدة. شأن تجربة فوزي كريم نفسها التي طاولتها "أوبئة القارات"، على رغم أنها ظلت أمينة بشكل عام على تقاليد شعر الرواد، السياب والبياتي، وهو وإن أبدى عناية نقدية بشعر السياب، إلا أن تأثيرات قصيدة البياتي في البناء المقطعي القصير والمحكم بدت أكثر وضوحاً في شعره.
كان فوزي كريم ينتمي فعلاً إلى تلك "الروح" الستينية وإلى "صخب الموجة السياسي" على رغم محاولته النظرية لإثبات "التهافت"، فقد طاولته "أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي". وشاعر الدَّعة والرقَّة والخلوة، الذي عنون ديوانه الثاني "أرفع يدي احتجاجاً" وقع فريسة الحماسة المتطرفة للمشروع الأمريكي في العراق-هكذا كان يسمِّيه- مذكراً بالتجارب الكولونيالية الناجحة، في الإعمار، لا الاستعمار، ولكن كما ترى يا فوزي هي أرض خراب أخرى، وها قد أصبح منفاك في لندن أبدياً.
في آخر لقاء لنا في بغداد، قال بنبرة تجمع بين الزهد والأسى، وهو يرى ما آلت إليه أمور بغداد "العبَّاسية" وهي المنطقة التي ولد فيها: يبدو أن هذه البلاد لم تكن لنا في يوم من الأيام، ولن تكون، فأجبته مستعيراً عنوان إحدى مجموعاته أجل فنحن "لا نرث الأرض"، لكن أمريكا أيضاً لم تكن تريدُ النفط من غزو العراق!
لعل رحيل شاعر ومثقف بحجم فوزي كريم يبدو مقاماً جديراً بمقال الرثاء، وموضعَ حالٍ يقتضي التأبين، وهو ما سيحظى به، بلا شك، بوصفه شاعراً أساسياً في جيل الستينيات وفي الشعرية العراقية والعربية بشكل عام، وإنساناً يستحقُّ الصلاة الجماعية للشعراء في يوم رحيله.
ولأن ما من شاعر تغيب روحه مع رحيله الجسدي، فإن أفكاره ومواقفه وقلق أسئلته تواصل الحضور، "حيث تبدأ الأشياء" فيصبح الرحيل أبعد من كونه انخراطاً في طقس عزاء جماعي، ويغدو حافزاً لمراجعة الإرث الذهني والروحي للشاعر في تجربته الممتدة لأكثر من نصف قرن بوصفها رحلة تامة ومتاهة انتهتْ بالاكتمال.
ذلك أن شعر فوزي يزخر بالمراثي، منذ مرثيته المبكرة لحسين مردان، وصولاً إلى "مرثية الحمل الضال" لمحمود جنداري: وهو ما سميتُهُ "مرثية الذات عبر الآخر" في دراستي عن ديوانه "قصائد من جزيرة مجهولة":
"لم أكنْ عِظةً لأحدٍ
لم يكنْ وطني، يومَ غادرتُ، غيرَ القميصِ الذي أرتدي
واحتمالات أن لا أعود".
والمرثية كما يراها فوزي نفسه تختلف عن التعزية، بمعنى إنها لليست مجرَّدَ عَبرة أسى، بل عِبرة تجربة:
"تنتظرُ عزاءً من أحد؟
إني أنتظر مراثيَ".
واقتداء بهذا الفهم أهدى أعماله الشعرية بمرثية جماعية لافتة: "إلى: محمود جنداري، جاسم الزبيدي، عباس فاضل، محسن إطيمش، منهل نعمة، محمد شمسي، شريف الربيعي، موفق خضر، عبد الجبار عباس، غازي العبادي، موسى كريدي، أحمد فياض المفرجي، أحمد أمير، عبد الأمير الحصيري، سامي محمد، إلى أرواح هؤلاء وكل المنسيين من أبناء جيلي، ممن هرستهم عجلة المرحلة البربرية، أهدي قصائدي هذه، عاجزة عن العزاء والسلوان".
وبعيداً عن مقام الرثاء فإن فوزي كريم مثقف نقدي حيوي، وكثيراً ما يجدُ متعة أبيقورية في السجال، فكانت جلسات مقاهي أوحانات دمشق، خلال زياراته المتكررة، زاخرة بالحوار والاختلاف، خاصة بعد أن أجرى عمليه القلب المفتوح، وأصبح من أصحاب "الكأس الواحدة" أو يكتفي طيلة السهرة بمتعة النديم الذي يضفي على السهرات ظرفاً بغدادياً أنيقاً. ففي شخصيته وشعره ثمة "تكامل القديس والساحر"، كما يقول سعدي في تقديمه لأعماله الشعرية. بيد أن هذا التكامل يبدو لي كناية عن قلق داخلي، فحين كتب فوزي كريم كتابه النقدي "تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر السياسة"، وهو الذي سبق أن وضع توقيعه إلى جانب فاضل العزاوي وسامي مهدي على "البيان الشعري" لجيل الستينات الذي كتبه الأول، لم ينجُ في الواقع من تلك الأهواء والمخاطر التي قادته إلى جذرية في المواقف إزاء التحولات السياسية عندما وضع توقيعه في مكان آخر لاحقاً! إذ رأى في نقده الذي قارب التهكم من تغني سامي مهدي بالجماليات القومية، في كتابه "الموجة الصاخبة" مقابل حماسة فاضل العزاوي لحركات التحرر في العالم، والنزعة الكونية لجيل الستينات في كتابه "الروح الحية" رأى أنَّ السياسة "تمتص المواهب الكبيرة" لكن السياسة ليست مجرَّدَ انصياع إلى يقين الخيار عبر الانتماء الحزبي، ولكنها تشمل كذلك مواقف وخيارات وتفاعلات إزاء ما يحدث من حولنا عن قرب او في العالم عن بعد، أو حتى في التاريخ العام.
وفي "ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة" لم تبُدُ مرآته الذاتية صافية بما يكفي لعكس صورة واحدة للشاعر والمثقف بل حتى بين رؤيته النقدية وتاريخ تجربته الشعرية، اتنقد ما سماه الحداثة المتطرفة على صعيد التجريب اللغوي والشكلي، وعبَّر عن موقف مضادٍ لقصيدة النثر. ولعل شغفه العالي بالموسيقى الذي دعاه إلى تأليف كتاب "فضائل الموسيقى" جعل موقفه يتسم بتلك الجذرية، وهو ما تبناه في مجلته "اللحظة الشعرية" التي أصدرها في لندن في التسعينات.
حين قرأت "ثياب الامبراطور" استذكرتُ ديوان فوزي كريم "قارات الأوبئة" بوصفه نموذجاً يعبر عن عمق المأزق والقلق الداخلي في تجربة الشاعر المحافظ! فهو عمل شعري يبدو غريباً عن مجمل تجربته، ويتناقض مع موقفه الجذري ذاك. كان "قارات الأوبئة" كناية عن نشيد طويل مقسم إلى فصول، يتخلى عن الإيقاع، والتقفية والجمل القصيرة المعهودة، في تجربته منذ ديوانه الأول "حيث تبدأ الأشياء" ليعاودها في تداخل بين الشعر النثر لينطلق نحو تدفق شعري حرِّ، حر على مستوى الأداء وعلى مستوى الاستجابة لإغواء التأليف والبيان وغرابة الصور التي عاد وأسقطها على من انتقدهم من شعراء بوصفهم "شعراء صنعة بلاغية"، وهي مدرسة ليست غريبة أو طارئة في تاريخ الشعر العربي منذ العصر العباسي، وأطلق عليها النقاد العرب اسم البديع، لكنه رأى أن هذا النمط من الشعر خالٍ من أية تجربة روحية بل لا يعدو كونه تأليفاً. ولا ينطوي على دلالة خارج البلاغة الزخرفية. فانتقد شعر أبي تمام بوصفه مغلقاً ومنكفئاً إلى الداخل حيث الذخيرة البلاغية، والانهمام بالصنعة والتكلف، وصولاً إلى ما سماه "مطحنة أدونيس اللغوية" وانتهاءً إلى التجارب الجديدة في الشعر العربي، لكنه اعتنى بالمقابل بترجمة الشاعر الإيطالي كواسيمودو بما يعكس جانباً آخر من القلق وربما التنافر بين شعره ونظريته النقدية فشعر كواسيمودو زاخر بالمجازات والاستعارات والتشبيهات المتناسلة ويمثل إلى جانب مونتاليوأونغاريتي مثلث الشعر "الهرمسي" في إيطاليا وأوربا عموماً، وشعرهم يتسم بالبحث الدائم عن لغة فريدة سعوا عبرها للانفصال عما كان سائداً في الشعر الإيطالي، فبدت نصوصهم أقرب إلى الدلالات التشعبية في الشعر الفرنسي خاصة لدى مالارميه. ولا شك أن فوزي كريم كان واعياً لذلك التناقض في نظريته الشعرية فحاول في تقديمه التركيز على انحيازه لما ينطوي عليه شعر كواسيمودو من غنائية وإيقاعية لا يمكن ظهورها في الترجمة!
وهكذا، فهو حينَ يأخذ على التجريب في الحداثة خلوها من الروح إنما يقدم في الخلاصة فهماً ذهنياً، لا روحياً للحداثة. ويستعيد على العموم جدلاً قديماً في النقد العربي، منذ ثنائية الشعر: "المطبوع والمصنوع" التي أطلقها ابن رشيق في كتابه "العمدة" التي صنَّف فيها شعر كل من أبي تمام وأبي نواس وبشار وابن المعتز ومسلم بن الوليد وسواهم على أنه شعر صنعة وديباجة، تلك الثنائية التي ستبدو تعسفية أذ ما جرى النظر لها بوصفها اختلافاً حتمياً، أو معياراً داخلياً للشعر، بينما تنطوي في جوهرها على ما ينعكس ائتلافاً في تجربة شعرية واحدة. شأن تجربة فوزي كريم نفسها التي طاولتها "أوبئة القارات"، على رغم أنها ظلت أمينة بشكل عام على تقاليد شعر الرواد، السياب والبياتي، وهو وإن أبدى عناية نقدية بشعر السياب، إلا أن تأثيرات قصيدة البياتي في البناء المقطعي القصير والمحكم بدت أكثر وضوحاً في شعره.
كان فوزي كريم ينتمي فعلاً إلى تلك "الروح" الستينية وإلى "صخب الموجة السياسي" على رغم محاولته النظرية لإثبات "التهافت"، فقد طاولته "أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي". وشاعر الدَّعة والرقَّة والخلوة، الذي عنون ديوانه الثاني "أرفع يدي احتجاجاً" وقع فريسة الحماسة المتطرفة للمشروع الأمريكي في العراق-هكذا كان يسمِّيه- مذكراً بالتجارب الكولونيالية الناجحة، في الإعمار، لا الاستعمار، ولكن كما ترى يا فوزي هي أرض خراب أخرى، وها قد أصبح منفاك في لندن أبدياً.
في آخر لقاء لنا في بغداد، قال بنبرة تجمع بين الزهد والأسى، وهو يرى ما آلت إليه أمور بغداد "العبَّاسية" وهي المنطقة التي ولد فيها: يبدو أن هذه البلاد لم تكن لنا في يوم من الأيام، ولن تكون، فأجبته مستعيراً عنوان إحدى مجموعاته أجل فنحن "لا نرث الأرض"، لكن أمريكا أيضاً لم تكن تريدُ النفط من غزو العراق!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.