في موسوعة أحمد باشا تيمور يقول المثل الشعبي " إن جار عليك الزمن جور على دراعك" في مفارقة واضحة لحال الصناعة اليدوية الحرفية في مصر ، فإن كان من المسلم به اندثار الصناعات اليدوية مع التقدم التكنولوجي الهائل في التصنيع إلى أن بعض الصناعات يأبى إلا أن يحتفظ حتى الرمق الأخير بأدواته الصناعية، "الخيامية" تلك الصنعة التى جلبت على اصحابها منذ بضعة أعوام مئات الالآف ، جار عليها الحظ وانقلبت عليها العواقب لتصبح من المهن المهددة بالانقراض بعد خمسة أعوام فقط من "عز مجدها" . يقول صنايعية الخيامية القدامى " أجرة الخياط تحت ايده" وهو مثل شعبي أيضًا من موسوعة تيمور باشا يمثل قدرة هؤلاء على تحمل تقلب صناعة السياحة التى تراجعت على الأقل 75% خلال الأعوام الماضية لتحقق بقيمة 5.1 مليارات دولار فقط فإذا قادتْك قَدَمُكَ لتَعْبُر "باب زويلة" التاريخى بمنطقة الغورية وتدخل إلى سوق الخيامية فلا تتعجب من العيون التى ترقبك وتنظر إليك باهتمام وتكاد تجذبك إلى داخل محالها لتعرض عليك أعمال يدوية قد لا ترى مثيلًا لها فى كافة أرجاء الأرض لكنها تشهد ركودًا شديدًا خلال تلك الفترة، يحاولون ترويج أعمالهم اليدوية النادرة بأى شكل بعد أن انخفضت أسعارها بنسبة تقترب من ال200% ويتم بيعها لزوارهم المصريين بثمن بخس . ما يقرب من 30 محلًا يُشكلون سوقًا واحدة فى العالم أجمع، أعمالهم تجوب العالم فى معارض مختلفة، يأتيهم السياح من كل فج للحصول على لوحات مطرزة على قطع القماش لم تدخل فى صناعتها آلة ولم تعرف لها المطبعة سبيلًا، يعجب منها الناظر ويظل يتأمل كيف لا يتزاحم المصريون لاقتناء تلك الأعمال كيف أصبح سوق الخيامية خاليًا من التواقين لاقتناء هذه اللوحات بعد أن هجرها السياح مجبرين. فلسفة الصنايعية المهرة العاملين بالمهنة التى تعاني خطر الاندثار تظهر في المثل الشعبي السابق حيث تحدى هؤلاء الأزمات الحالية بالاصرار على الاستمرار في مهنتهم النادرة فيما قررت الأجيال الأصغر سنًا هجر تلك المهنة للعمالة الاعلى سعرًا والتى تتمتع بدرجة أكبر من الأمان. يقول البعض أن صناعة الخيامية تمتد لعصر المصريين القدماء، والأكيد أنها ازدهرت مع حكم الدولة الإسلامية، ومنذ ذلك الحين لم تتغير ولم تؤثر عليها دخول الآلة فى الصناعة، تفردت بتقاليدها ومهارة القائمين عليها لمئات الأعوام، وكانت كسوة الكعبة أحد مراحل تطور هذه الصناعة فى مصر حيث تشرفت مصر بتطريز كسوة الكعبة لأكثر من 900 عام امتدت من بداية الدولة الفاطمية فى مصر عام 969 ميلادية إلى عام 1962 حينما قررت المملكة العربية السعودية احتكار هذا الشرف. ولكن الأحداث التى مرت على الصناعة خلال الأربعة سنوات الماضية تُهدد بانقراضها وتطرح تساؤلًا كبيرًا حول مستقبلها فى ظل الركود الحاد الذى تعانى منه نتيجة تدهور قطاع السياحة وإهمال الحكومة لها وندرة المعارض الخارجية التى كانت أحد أسباب نشاط تلك الصناعة . ومصطلح "الخيامية" ينسب إلى الخيام ويرتبط برغبة سكان الخيام فى القدم فى تجميل مسكنهم فكانوا يلجأون إلى تطريز الأقمشة بأشكال وألوان مختلفة لتزيين الخيام والحصول على شكل أجمل. من أبواب محلاتهم يتخذون مجالسهم طيلة اليوم، ينتظرون الرزق، والذوق الرفيع الذى يقدر أعمالهم اليدوية، قليلًا منهم يستغل وقته فى تطريز لوحة جديدة والأغلب يجلسون منتظرين الفرج، طول الانتظار خلق من السوق حلبة للصراع على الزبائن حتى أن بعض التجارة يتعمد بيع سلعته بأقل من تكلفة تصنيعها نكاية فى جاره ورغبة فى الحصول على أى مورد لتغطية مصاريفه اليومية وأجرة الحرفيين العاملين لديه . "محسن" أحد أصحاب المحال بسوق الخيامية والذى يعمل بالحرفة منذ 14 عامًا أكد أن أخطر ما يهدد المهنة هو انخفاض عدد الحرفيين العاملين بها، نتيجة الركود الحاد الذى أصابها خلال السنوات الماضية وهو ما جعل الكثير منهم يترك صنعته ويعمل فى مهن أخرى لكسب قوت يومه، مضيفًا أن تكلفة تطريز اللوحة منخفض ويختلف حسب مقاسها، كما أنه يستهلك وقتًا فأصغر لوحة قد تستغرق يومين من العمل، وهو ما يجعل الحرفيين فى احتياج دائم للعمل للحصول على أكبر قدر من العائد . استطرد "مهنتنا ده مكلفة شوية، يعنى ميشتغلش فيها غير اللى بيحبها لإنها فن مش مجرد مهنة، عشان كده ممكن تلاقى واحد شغال شغل تانى خالص وبيقوم بالتطريز فى وقت فراغه، لأن تكلفة التطريز أساسًا مش كبيرة غير إنه بياخد كتير من الوقت، فلو مكنش الحرفى ده واللى عنده المهارة بيحبها مش هيهعرف يكمل فيها ويستحمل ظروفها" . وأشار إلى أن 90% من المشترين أجانب مقابل 10% فقط للمصريين وهو ما تسبب فى تدهور المهنة نتيجة التراجع الحاد بقطاع السياحة، منوهًا إلى أن المهنة كانت تشهد رواجًا شديدًا أثناء الاستقرار السياسى وكان مصريون كثيرون يعيشون بالخارج يحصلون على كميات كبيرة من مشغولاتهم لبيعها فى الخارج، بالإضافة إلى مشاركتهم فى العديد من المعارض الخارجية على مستوى العالم . الركود الحاد الذى يشهده سوق الخيامية قابله سعى من التجار للحصول على الرزق حتى أن بعضهم قام بإضافة بعض المعروضات الجاهزة وسلع دخلية على سوق الخيامية لتنشيط حركة البيع بالمحل يقول محسن "لو بصيت بعد باب زويلة هتلاقى شارع الغورية مبيفضاش من الناس اللى بشتروا مستلزمات العرائس عكس هنا خالص علشان كده جبنا شوية بضاعة جاهزة بنحاول نجر رجل الزبون" . يعود مُحسن ليُلقى الضوء على أهمية العمل الذى يقوم به حرفيو تلك المهنية فيقول "بعض الأعمال والتى تُستخدم فى المناسبات تأخذ وقتًا طويلًا من العمل نظرًا لكبر حجمها، فهناك بعض القطع التى يعمل فيها 4 أو 5 من الحرفيين وقد تأخذ شهرًا كاملًا من العمل فى أيديهم، ولكن ظهور الأقمشة المطبوعة والخاصة بالمناسبات منذ ثمانينيات القرن الماضى ساهم فى تراجع تلك الصناعة أيضًا" . قال محسن "زوجة السفير الاسترالى كانت بتقدر مهنتنا وعملت معارض خارجية لينا فى دول كثير زى انجلترا واستراليا وفرنسا وأمريكا ودول أوروبية تانية، بس السفير اتغير ورجع بلده، والحال كل مدى بيتدهور زى ما انت شايف" . فى محل آخر على آلته التراثية "النول الخشبى" يجلس، يلتقط أطراف الخيط بيديه ليمررهها من اتجاه لآخر وبيده الأخرى يجذب ذراع النول فى الوقت الذى تعمل قدمه على تشغيل الآلة الخشبية، فتلتحم الخيوط بقطع القماش مشكلة جزءًا صغيرًا من "كليم" أو سجادة صغيرة بديعة الشكل، يلتقط أنفاسه مرة تلو الأخرى ليُكرر الخطوة مئات أو آلاف المرات قبل أن يتنهى من عمله، مخرجًا لوحة جميلة من الخيوط وألوان الأقمشة الرفيعة أو سجادة تراثية "كليم" تنافس فى جمالها مطقوعة موسيقية لأكثر الموسيقيين مهارة . سيد كحيل والده أشهر وأقدم صانع سجاد تراثى بالقاهرة خلال الفترة الحالية، يقول عن "النول" الذى يجلس عليه أنه يعود إلى جده الذى كان يعمل عليه ثم والده الذى لازال يمارس هذا الفن حتى الآن، ويعمل هو الآن على هذا "النول" كما حرص على تعليم ابنه "سيد" وابنته "ياسمين" هذا الفن حفاظًا على الحرفة التى تواجه خطر الاندثار . وكأنه كان ينتظر الفرصة للحديث عن حرفته التى تمتد لآلاف الأعوام، فما بدأنا معه حتى استطرد فى الحديث عن أحوال المهنة التى لم تعد تسُرّ، وانخفاض سعر المعروضات التى كانت تصل إلى 1000 جنيه فتراجعت إلى 350 جنيهًا رغبة فى التخلص منها وتصنيع المزيد، حتى أنه اضطر لترويج سلعته من خلال التواجد بين الباعة على أرصفة وسط البلد، ليصطدم بقرار حكومى يمنعه من الوقوف على الرصيف وينقله إلى سوق الترجمان الذى تركه هربًا من انعدام الرزق فيه . يحكى سيد البالغ من العمر 40 عامًا عن الفن الذى اتخذه طريقًا له وكأنه يرى روحًا عزيزة عليه تختفى من الدنيا، يقول "مصر ملهاش طعم من غير الصناعة ده، إحنا أساسها، ومعارض العالم كله بتشهد، قد ايه الناس فى العالم بيقدروا صناعة الكليم اليدوى والخيامية، مينفعش نسيبها تنقرض، الركود طفش الحرفيين وحولهم لسواقين تكاتك". لا يعلق أصحاب صناعة الخيامية على الحكومة أملًا فى دعم صناعتهم، ويعتبرون أى محاولة حكومية لمساعدتهم محاولة لتحقيق الكسب المادى من ورائهم، يقول سيد "الحكومة فكرت تعملنا معرض بعد الثورة عشان تنشط الصناعة بس اشترطت تاخد 30% من البيع، وده مستحيل طبعًا، ورفضنا المشاركة لأننا بالشكل ده هنخسر مش نكسب" . بجانب عدم اعتمادهم على الحكومة فى شئ فهم على يقين بأن صناعتهم ليس لها إلا السياح الأجانب والمعارض الخارجية، وهو ما يدلل عليه "سيد" بحكاية أحد تجار الخيامية الذى سافر لأمريكا ذات يوم فوجد العديد من المتواجدين بالمطار يحيونه وعندما سأل عن ذلك، وجدهم يضعون صورة له وهو يطرز قطعة قماش بالمطار تقديرًا للعمل الذى يقوم به" .