وفيما أهم بكتابة المقال صباحا، تلتقط أذني ما يبثه التلفزيون على قناة إم بي سي، ومن خلال البرنامج الهادف إلى «سعودة» العالم العربي من محيطه إلى خليجه، «صباح الخير يا عرب». الفقرة التي التقطتني بمضمونها العجيب، والتقطتها بدهشة المتلقي، كانت تتحدث عن قرار سعودي ب»تأنيث» تجارة و بيع الذهب في السعودية! القرار «المحلي جدا» والخاص بواقع سعودي لا يشترك به أحد في العالم مع المملكة، يجد طريقه إلى قناة تطرح نفسها انها قناة العرب جميعا، وبرنامج يومي مباشر يلقي تحيته الصباحية في عنوانه على العرب جميعا. «تأنيث تجارة الذهب» حسب التقرير الذي تابعته، أجمع كل من فيه بلا استثناء على رفضهم أن تقوم المرأة بأي دور في تجارة الذهب، والمدهش أن التقرير كان يخلو من أي رأي لأي امرأة في الموضوع، إلا رأي مراسلة البرنامج والتي وزعت الحوار لا أكثر. حتى اليوم، لا أفهم كيف يمكن استساغة هذا النوع من الخطاب في عالم تشترك في قيادته أنغيلا ميركل مثلا، وما القيمة المضافة من فكرة منع او حتى السماح للنساء بتجارة الذهب! على كل حال... «تأنيث» تجارة الذهب قد تفضي إلى نوع من الذهب المؤنث السالم... بعدما كان الذهب السعودي كله مذكر حالم. مسرحيات الانتخاب بصدق، صرت أرى في صناديق الاقتراع ومواسمها في العالم العربي مسرحية كوميدية مكررة الإفيهات والقفشات والقفلة واحدة. لكن، في مصر، هنالك تجديد، لا في الانتخابات، بل في المعالجة المسرحية نفسها، فلدينا إعلام مصري مدجن حد إباضته لكل ما هو مدهش في عالم الفضائيات العربية. تامر أمين، مثلا، يؤكد في حوار على «سي بي سي»، أن الشعب المصري لم يشارك لأنه يخاف على رئيسه المحبوب من البرلمان! وحسب نظرية تامر، الله يسلمه، فالشعب قرر حرمان نفسه من ممثليه لكي يطمئن الرئيس ولا يقلق. أما نجم النجوم، سيد التهريج الفضائي بلا منازع، الدكتور العلامة المحلل السياسي والعسكري والاقتصادي توفيق عكاشة فقد أبدع في آخر تجلياته على الهواء وعلى شكل حوار مع الممثلة المساندة له في كل أعماله «حياة الدرديري» حين بارك وهنأ بسخرية «بني إسرائيل» على أكبر انتصار لهم في التاريخ! حيث اعتبر لا فض فوه، أن نسبة ال15٪ بالمشاركة في الانتخابات المصرية هي مؤامرة بني إسرائيل على مصر، والتي انتصروا بها، وأن تقاعس الشعب المصري هو في المحصلة حسب أبوالعكش، ترسيخ للنصر الإسرائيلي التاريخي... («حياة» بكل ماكياجها الصارخ هزت رأسها بالموافقة والإعجاب بالفكر المستنير للكبير أوي عكاشة). الديمقراطية في بلادنا العربية، باتت مهزلة سمجة بصراحة... ولأننا نفقد ميزة الممارسة الديمقراطية الصحيحة، فإننا الأمة الوحيدة في العالم التي تتقن ممارسة «العادة الديمقراطية» حسب الأصول الفانتازية المطلوبة!! نقد فيصل القاسم أحاول – بكل ضبط النفس- منع نفسي من أي كتابة تنتقد الدكتور فيصل القاسم و برنامجه «الاتجاه المعاكس»، وترسخت تلك القاعدة لدي بعد «النيو لوك» للدكتور، والذي اعتمده في تناسب طردي مع «نيو لوك» في مضمون البرنامج ليتحول إلى مواضيع غاية في الغرابة واللامنطقية واللاموضوعية... ضمن سياق المدهشات القاسمية طبعا. لكن الحلقة الأخيرة التي كان أحد ضيفيها، الدبلوماسي الأمريكي المتقاعد ألبرتو فرناندز، وهو أحد أهم الخبراء الحقيقيين في العالم العربي وأحد دارسي التاريخ بعمق، وأنا أعرف ألبرتو شخصيا ولسنوات طويلة، وكان يثير إعجابي دوما بسعة اطلاعه القائمة لا على خبرته في السفارات التي شغلها في الشرق الأوسط وأفغانستان، بل على خبراته الخاصة المعرفية المكتسبة من بحثه الذاتي وتقصيه المعرفي الدؤوب لفهم الأشياء كما هي، ولذا كانت علاقته مع دوائر صنع القرار في واشنطن بين مد وجزر، لم تحسمه إلا لحظة تقاعده قبل شهور. الدكتور فيصل القاسم، ترك مقعد المحاور الموضوعي منذ زمن طويل، وصار وجوده في البرنامج واضح الانحياز للطرف الذي يمكن معرفته فورا من أول فقرة في الحديث، خصوصا أن الدكتور لا يخفي مواقفه المنحازة على صفحات التواصل الاجتماعي (مقالي هذا مرشح لسيل من الشتائم الآن على صفحة الدكتور). في كل الأحوال، عنوان الحلقة الفانتازي الغريب يسقطه من حسابات المنطق الموضوعي لدي على الأقل، فالحوار الذي أراده الدكتور القاسم كان تحت عنوان (أيهما الأكثر إجراما... الأسد أم تنظيم الدولة؟). مما جعله يختار ضيفين كل يدافع عن الجواب الذي يفترض أيهما أشد إجراما! مما يضع الموت المجاني في الشرق الأوسط في مفاضلات تقريبية ومقارنات عجيبة. ثم يأتيك الضيف العجيب في الاستوديو، الأخ العراقي المسمى باحثا، ليؤكد ان صفة الباحث صفة عبثية يمكن أن يحملها أي عابر «غوغل» ليأخذ من نتائج البحث ما يتناسب مع قدراته العقلية، وهكذا كان الباحث نوري المرادي، الذي يتناسب تماما مع الفانتازيا الجديدة لبرنامج «الاتجاه المعاكس»، وهو مرشح في رأيي لأن يكتب قصص الخيال العلمي السياسي الفانتازي، وهو لا يختلف كثيرا – ويا للمفارقة- عن خطابات المؤامرة الكونية والقوى الغامضة المتآمرة. بعد الحلقة، التي شن فيها الباحث نوري المرادي هجوما شرسا و شخصيا على ألبرتو فرناندز، بالمشاركة المباشرة مع الدكتور فيصل القاسم، كان تعليق ألبرتو فرناندز على أسئلتنا (نحن أصدقاؤه ومعارفه) أنه لم يكن سعيدا بأن يتعرض لهجوم ثنائي بهذا الشكل، وأنه لم يكن راضيا لاضطراره للتحدث بصوت مرتفع، لكنه يعتقد – حسب قوله – أن القاسم والمرادي افترضا أنه بالغ التهذيب وأن لغته العربية لن تسعفه بالرد السريع مما جعلهما يفترضان قصفه بسهولة. شخصيا، كنت أتمنى فعلا أن يستضيف الدكتور ضيفا آخر غير تلك الشخصية التي أتحفنا بها، كنت اتمنى حوارا يحرج ألبرتو لا يحرج البرنامج. كنت أتمنى وجود ند حقيقي وموضوعي لألبرتو وهو المتقاعد حديثا، ليقدم له جردة حساب موضوعية عن السياسات الأمريكية لا قائمة خزعبلات تكشف عورنا التاريخي مثل ما قدم الباحث العجيب. لقد زارني ألبرتو قبل أسابيع، في بيتي، وعلى طاولة المطبخ عندي حاورته حوارا عاديا لا فذلكات فيه، وتحدث الرجل بشكل واضح وصريح، عن أمور وخفايا عديدة هي ليست أسرارا بقدر ما هي آخر اهتماماتنا أمام أولوية الدخول في حوارات عبثية نحشر فيها أنفسنا بزاوية الغرائبيات والغيبيات. كان الأولى بطاولة فيصل القاسم ان تفيدنا أكثر من ذلك... بصراحة.