يشكل النظام العالمي الجديد، الذي تم الإعلان عنه أثناء حرب الخليج الثانية، تحدياً حقيقياً بالنسبة للدول العربية، خاصة أن هذا النظام قد ارتبط بسقوط الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان يعد الحليف الاستراتيجي للدول العربية. ويمكن إرجاع ذلك إلى كون انهيار هذا الحليف الاستراتيجي قد مثل فراغاً استراتيجياً في المنطقة العربية، من حيث الدعم السياسي الذي كان يقدمه للدول العربية في كثير من المواقف والأزمات، وعلى رأسها الصراع العربي – الإسرائيلي، فضلاً عن الدعم الاقتصادي والمساعدات التي كان يقدمها، والتي كانت تعتمد عليها كثير من الدول العربية. وارتبط بذلك، وكنتيجة له، بروز دور الولاياتالمتحدةالأمريكية كالدولة العظمى الأحادية التي تستطيع أن تلعب دوراً أساسيا في مجريات السياسة العالمية، وظهور تكتلات اقتصادية جديدة، وإلى غير ذلك من المتغيرات التي طرأت على خريطة العالم في السنوات الأخيرة، والتي ما زال أثرها ووقعها مستمراً في تداعياته على الصعيد العالمي، وخاصة في وقت يشهد فيه العالم ثورة هائلة في المعلومات والاتصالات. وعلى الرغم من كون متغير النظام العالمي ليس هو المتغير الوحيد في التأثير على السياسة الخارجية للدول، وإنما هناك عدد كبير من المتغيرات التي تحكم هذه العملية، سواء متغيرات داخلية أو خارجية، إلا أن متغير النظام العالمي من أهم هذه المتغيرات، انطلاقاً من انه إذا كانت النخبة القومية تحدد ما الذي تفعله الحكومات، فإن البيئة المحيطة تحدد ما الذي يمكن أن تفعله الحكومات. والواقع أن النظام العالمي يؤثر على سلوك الدولة من ناحيتين؛ فهو يسمح من ناحية بمدى معين من الحركة الممكنة من خلال الفرص التي يتيحها، كما يولد من ناحية ثانية الضغوط التي تفرض الحركة في اتجاه معين. وبالتالي يلعب النظام العالمي دوراً كبيراً في إمكانية نجاح أو فشل هذه السياسات. ويصبح هذا المتغير أكثر أهمية في ضوء الارتباط القوى بين النظام الدولي والنظام العربي، وفي ضوء خصوصية النظام الإقليمي العربي. ولقد ارتبط بهذه التغيرات تقليص مساحة حرية الحركة الخارجية التي كانت تتمتع بها الدول الصغيرة، ومنها الدول العربية إبان عقود القطبية الثنائية الأربعة في الساحة الدولية (1945م – 1985م)، وخاصة أن السياسة الخارجية للوحدات الصغيرة والمتوسطة أكثر قابلية للتأثر بالبنيان الدولي من السياسات الخارجية للوحدات الكبرى أو العظمى، ذلك أن نقص أو محدودية الموارد بالنسبة للوحدة الصغيرة أو المتوسطة يحد من قدرتها على مقاومة الضغوط الآتية إليها من الوحدات الكبرى والعظمى، التي تملك من الموارد ما يمكنها من حرية الحركة والتأثير على السلوك الدولي للآخرين. السياسة الخارجية: في الواقع تتعدد تعريفات السياسة الخارجية، وتتفاوت نواحي التركيز فيها. وهذا يعكس تعقيد ظاهرة السياسة الخارجية، وصعوبة التوصل إلى مجموعة محددة من الأبعاد التي تندرج في إطارها، والعلاقة بين كل منها. لاشك أن هناك ما يدفع للافتراض، على الأقل، أنه يمكن الحديث عن خصوصية عربية ما، في إطار التحليل السابق، بالنظر إلى أن الوطن العربي يعتبر كياناً متميزاً داخل إطار الدول النامية، حيث يمتلك عدد من العناصر المشتركة التي تجمع بين الدوله القطرية والتي تطغى على التباينات بين هذه الدول. وتؤثر هذه العناصر المشتركة بشكل أو بآخر على السياسات الخارجية التي تتبعها هذه الدول. وعلى الرغم من أنه ليس من المتوقع أن يكون هناك سياسة خارجية متطابقة للغالبية العظمى من الدول العربية، إلا أن هذه العناصر المشتركة تؤدى في بعض القضايا إلى التشابه في السياسة الخارجية لهذه الدول. ولعل من أهم العناصر المشتركة الاعتبارات التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية. على المستوى التاريخي ظهر في المنطقة العربية عدد من الحضارات القديمة التي أدت دورها الرائد في الحضارة الإنسانية، ثم كانت ذات المنطقة مهبطاً للديانات السماوية الثلاث. وأخيرا أدت الدولة العربية الإسلامية دوراً هاماً في النظام الدولي. وعلى المستوى السياسي لا يمكن بأي حال إنكار أن السكان الذين يعيشون على المنطقة المسماة بالوطن العربي يتوافر فيهم الحد الأدنى من مقومات الرابطة القومية وعلى رأسها اللغة الواحدة، حيث يتمتع العرب كجماعة بشرية بدرجة عالية من التجانس اللغوي والثقافي، فالشعب العربي كله يتحدث لغة واحدة ويعبر عن تقاليد ثقافية متقاربة. هذا فضلاً عن التاريخ المشترك، وكذلك الدين المشترك للأغلبية حيث يعد الدين الإسلامي هو دين غالبية سكان الدول العربية، وهو الذي يوحد مشاعرها إزاء الخارج في لحظات المواجهة المصيرية، حين تذوب الاختلافات الطائفية بين أبناء الدين الواحد. وأيضا المصالح الاقتصادية التي يفترض أنها مشتركة بمعنى أن خطوات التنسيق والتعاون والتكامل الاقتصادي بين أقطار الوطن العربي سوف تؤدى بالتأكيد - إن تمت على نحو مستقر – إلى أثار إيجابية واضحة على مجمل الأوضاع الاقتصادية للوطن العربي. هذا فضلاً عن وحدة القضايا المصيرية حيث تمثل القضية الفلسطينية مركزاً متقدماً في أجندة أولويات السياسة الخارجية لمعظم، إن لم يكن لكل، الدول العربية. فالدول العربية تنظر إلى ما يحدث للشعب الفلسطيني على أنه حالة صارخة من عدم العدالة ضد العرب أجمعين ومجمل القول إنّ النظام الإقليمي العربي يملك من الإمكانيات المعنوية المادية ما يؤهله لأن يكون له قدرة من الاستقلال في تفاعلاته على التأثير في مجريات النظام الدولي وليس مجرد التأثر بسلوك الفاعلين القياديين فيه. ولكن هذه الإمكانات لا يمكن أن تتحول إلى قدرة إلا إذا تحرك النظام كنظام واحد وليس كوحدات منفصلة، يختلف سلوكها، إن لم يتضارب، فيما بين بعضها، وهو ما لم يمكن أن يتم بدوره دون قيادة. ولهذا فان النظام الإقليمي العربي قد مارس دوراً فاعلاً بدرجة أو بأخرى، سواء فيما يتعلق بشئونه الذاتية أو فيما يرتبط بمواجهة النظام الدولي عندما توفرت له هذه القيادة، بينما تفكك وفقد تماسكه ومن ثم قدرته على الفعل المستقل الناجح حينما غابت هذه القيادة. وهذا ما تؤكده الخبرة الواقعية لعلاقة النظام الإقليمي العربي بالنظام الدولي القائد في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، حيث أظهر النظام العربي من خلال محاولات التكيف والمواجهة مع النظام الدولي أنه لم يكن أبدا أداة في يد قيادة النظام الدولي. ومن مؤشرات ذلك استغلاله للصراع على قمة النظام الدولي في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ثم تكيفه مع النظام الدولي في مرحلة الوفاق الحادثة على هذه القمة منذ أوائل الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات ولا يعني هذا عدم وجود عوامل تحد من فعالية هذه الاعتبارات التي تعطى خصوصية للنظام العربي، ومنها التبعية السياسية والاقتصادية لمعظم أقطار الوطن العربي، وتناقضات الغنى والفقر بين هذه الأقطار، ومشكلة الأقليات العرقية والطائفية، غير أن أنصار الخصوصية العربية – الرابطة القومية العربية – يرون إمكانية وجود حركة قومية عربية داخل النظام الإقليمي العربي تعطى لهذا النظام قوة وفعالية في تحقيق أهدافه ومواجهة خصومه الخارجيين، ومن مؤشرات ذلك تحرك النظام الإقليمي العربي بفاعلية في العقد الممتد بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات في هذا الاتجاه، وحرب 1973م. ويفترض أن هذه الرابطة القومية لا تتوفر لنظم إقليمية أخرى مما يعطى ميزة نسبية للنظام الإقليمي العربي في هذا الصدد. أما على المستوى الاقتصادي فلا شك بطبيعة الحال في أن الأقطار العربية كافة تنتمي بدرجات متفاوتة إلى معسكر التابعين اقتصادياً في النظام الاقتصادي الدولي، مما يجعل التحليل السابق الخاص بمدرسة التبعية ينطبق عليها، غير أن النظام الإقليمي العربي يمتاز عن غيره من النظم الإقليمية بمكانته في إنتاج البترول وتصديره، إذ تبلغ نسبة الإنتاج العربي العالمي في هذه السلعة شديدة الحيوية للاقتصاد العالمي عامة وللدول الصناعية الكبرى خاصة 25.8%، كما تبلغ نسبة الاحتياطي العربي من الاحتياطي العالمي 60%. ولذلك يعتبر الوطن العربي هدفاً دائماً لمحاولات بسط النفوذ والسيطرة من الدول الكبرى في النظام الدولي وقد شهد النظام العربي تحسناً منذ مطلع التسعينيات حيث اختفت الصراعات بين أعضاء النظام، وخفت حدة الانقسام التي ميزت النظام خلال الثمانينيات. إلا أنه بحلول منتصف عام 1990 تدهورت الأوضاع بشدة على مستوى النظام الإقليمي الأوسع، إذ تحطمت الآمال في تخفيف حدة الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن رفضت الحكومة الإسرائيلية بدء المحادثات المباشرة مع ممثلي الفلسطينيين، في الوقت الذي انخفض فيه دعم الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا لدول المواجهة العربية مع إسرائيل. كذلك تلقى النظام العربي صدمة نتيجة الغزو العراقي للكويت، حيث أدى هذا الغزو إلى توليد انقسامات حادة في العالم العربي، فضلاً عما ترتب على هذا الغزو من أحداث مستمرة إلى الآن أما المرحلة الراهنة فهي من أخطر المراحل في تاريخ علاقة النظام الإقليمي العربي بقيادة النظام الدولي. وتتعدد وجهات النظر بخصوص الكيفية التي يجب أن تكون عليها العلاقة الجديدة للنظام الإقليمي العربي مع قيادة النظام الدولي في مرحلة الوفاق وهيمنة القوى الرأسمالية، ما بين المطالبين بالمشاركة أو حتى اللحاق بالمنتصرين في هذه القيادة، والذين ينادون باستمرار المواجهة. وبعيداً عن هذا الجدل فان الأهداف العربية لا يمكن أن تتحقق ما لم يتم القضاء على حالة الانقسام التي يعانى منها النظام العربي، في ظل أخطر مرحلة من مراحل التحول في النظام الدولي. وسوف نعرض لهذه المتغيرات العالمية تالياً. **كاتب المقال دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية