تعد عتبات النص علامات دلالية لا يمكننا تجاهلها أو أن نغضّ الطرف عنها ونحن نتّجه الى النص ، فهي نصوص موازية شارحة ومفسّرة – في كثير من الأحيان – تضيء ما يعتم من النص وربما تختزله أو توحي بمقطّعات صورية عنه ، والأهم أنها تكشف مقاصد المؤلف من كتابة عمله الأدبي ، وإن حاول إخفاءه أو الالتفاف عليه أو تمويهه . عادة ما يُقال عن العنوان بأنه مفتاح إجرائي يختزل أنساق النص ، ويُظهر معناه ، كما وُصِف بأنه مرآة النسيج النصي ، وسلطة النص ، وطاقة توجيهية وما الى ذلك من توصيفات لا تتوافق مع كل عنوان . غير أنه مما لاشك فيه أنه واجهة إعلامية تتصيّد القارئ وتُغريه باقتحام النص . وضع شوقي كريم لروايته " لبابة السر " عدة مداخل أو عتبات ، فبالإضافة الى عنوانها ، هناك عتبتان ومقدمة بقلم الدكتور جاسم الخالدي ، فضلا عن صورة الغلاف التي وُضِيعت لتدلّ سيميائيا على قوة حضور التاريخ وسلطة ملوكه في الرواية . مثّلت صورة الغلاف مشهدا بابليا يظهر فيه أحد ملوك بابل وهو يقف بانتصاب ، وقد فرد ذراعيه فوق المدينة للدلالة على الهيمنة والقوة ، انتصب خلفه هيكل مواز لارتفاع الملك شبيه بالزقورة ، دلّ على وقوف المعبد وكهنته خلف السلطة الحاكمة ، وتحته بأحجام صغيرة بدت بابل وبوابتها وأفراد من البابليين يعملون في مهن مختلفة ، لابدّ من القول هنا أن تباين الأحجام أيقونة سيميائية أشارت الى حجم التباين بين عالمي الملوك ورجال الدين من جهة ، وبابل وسكّانها من جهة أخرى . أما بالنسبة للعنوان فأنه لا يكاد يُفصح كثيرا ، فهو يُشير الى مُعمّيات تُثير فضول القارئ ، ويومئ الى مغلّف ينطوي على سرّ ينبغي هتكه وإظهاره للعيان . غير أن المداخل الأخرى أكثر فصاحة ، ولها القدرة على البوح والتصريح . ورد في إحدى عتبات الرواية تحت عنوان توضيح المقصد : ( وأيّ شبه بين الحقائق والآتي من الأيام … إنما هو من باب الكشف عما هو مؤهل للإعلان ..) . المقصود بالحقائق – في هذا النص – هي الحقائق التاريخية التي وقعت بعد عام 556 قبل الميلاد بحسب تحديد المؤلف ، والآتي من الأيام ربما المقصود بها عصرنا ، وتحديدا زمننا ، على هذا النحو صاغ المؤلف مفارقته الزمنية . إذن هناك زمنان أحدهما مضى وانقضى دون أن نشهد منه لحظة واحدة ، غير اننا عرفنا وقائعه وحقائقه من خلال الرُقم الطينية واللُقى وكسر الجرار وأساسات البناء ، والآخر زمننا الذي نختبر فيه سعاداتنا وآلامنا ونجاحاتنا وإخفاقاتنا لحظة بلحظة . يقول المؤلف بما معناه إذا وقع التشابه بين الزمنين فهو من باب كشف ما ينبغي كشفه لضرورته أو تأهّله . المهم في قوله هذا أن المؤلف أو الراوي الرئيس في الرواية إنما يروي حقائق تاريخية من خلال الرُقم ، أما التشابه مع الآتي من الأيام فهو ليس من دأب المؤلف أو من مقاصده الرئيسة في هذه الرواية التاريخية (لُبابة السر) ، وإنما وقعت بوصفها مقصدا ثانويا بفعل بعض الشبه مع الآتي مع الأيام . إذ لما تشابهت بعض الوقائع بين الماضي والحاضر أصبح من الضروري التعامل مع هذا الشبه على أنه كشف (عما هو مؤهل للإعلان) هكذا يريد منا هذا النص أن نفهم الرواية . طبعا هذه حيلة فنية لجأ اليها المؤلف لتمرير إدانته لواقع سياسي مضطرب يقسو على الإنسان ، ذلك أنه من غير المعقول أن تكون وظيفة الراوي / المؤلف أن يروي حكايات تاريخية أو يسرد حقائق من التاريخ لأغراض الحكي والتسلية وعرض المعلومات ، إذ لابد من أن تكون له غايات ما وراء الحكي وإلا فإنه لا يعدّ روائيا بمفاهيمنا المعاصرة . المؤلف يعرف ذلك جيدا ويتفهّمه لذلك فهو يتفق معي بأن عتبته حيلة فنية تكمن وراءها مرامٍ يريد إخفاءها أو الالتفاف عليها لأغراض فنية ، حسنا ما المرامي التي يريد المؤلف إخفاءها ؟ قلت آنفا لتمرير صورة واقع سياسي متسم بالاضطراب والقسوة ، والملاحظ أن هذا الواقع المضطرب مرتبط ب(الآتي من الأيام) وليس بالحقائق التاريخية التي يسردها المؤلف ذلك أنها مرآة فحسب . إن سردية التاريخ في الرواية ليست أكثر من مرآة تعكس تداعيات الحاضر ، يعني أنها وسيلة سردية ، وبصورة أوضح استخدما المؤلف التاريخ بوصفه قناعا للحاضر . مما يعني أنه (أي المؤلف) معنيّ بوقائع (الآتي من الايام) ، وما الحقائق الرُقمية إلا وسيلة ذات طابع سردي وظيفتها الإشارة الى (الآتي من الأيام) وكشف ملامح قسوته وقهره للآخر المغاير أو المعارض . فالمؤلف في نصه / العتبة أراد شيئا ، وأظهر شيئا آخر مغايرا ، قد تبدو هذه الوسيلة البلاغية معتمدة من المؤلف لإيهام المتلقي ، ولكنها في الحقيقة للفت نظره وتنبيهه على نحو فنّي غير مباشر ، أي أنها واقعة سيميائية يجب أن نُحسن قراءتها ، وتجدر الملاحظة هنا أن صيغة الآتي من الأيام معنيّ بها ما تأتي من أيام وسنوات بعد السرد التاريخي ، وهذه أيضا لعبة سردية فالأمر في كلا الزمنين سيان ، وهذا ما لم يُشِر اليه كاتب عتبة مقدمة الدكتور جاسم الخالدي إذ حصر الامر في التاريخ حسب . ولكن لماذا كُتبت الرواية في إطار التاريخ ؟ فالملاحظ أن وقائعها وأماكنها وأسماء شخوصها وأسماء الآلهة والملوك والارتباطات الاجتماعية وهياكلها الدينية تشير جميعا الى العراق القديم . نُعيد صياغة السؤال : إذا كان الراوي معنيّ ب(الآتي من الأيام ) ، ومقصده – كما اتضح آنفا – هو كشف واقع سياسي – اجتماعي متسم بالقسوة وقهر الانسان وإذلاله ، فلماذا لجأ الى التاريخ مستخرجا ومستنبطا ومتعقبا الشبه بين الحقائق ؟ يُخيّل لي أن الجواب يكمن في تضاعيف السؤال ، فالراوي ، على ما يبدو ، يُريد أن يؤسطر أحداث (الآتي من الأيام) ، أن يُضفي على الواقع الذي شهده غلالة أسطورية ، لتعظيم المكابدات ، وكشف حجم المعاناة إزاء نظام سياسي يراه غاشما ، فضلا عن إضفاء طابع الديمومة (الخلود) على حقائق الآتي من الأيام ، والمقصود بالعبارة الاخيرة – مرة أخرى – هي الأحداث التي شهدتها أجيالنا المعاصرة. يختار شوقي