كان نابليون بونابرت قائدا سياسيا وعسكريا من الطراز الرفيع، وقد تجلت موهبته في مرحلة متقدمة من الثورة الفرنسية. وقد تولى نابليون مقاليد الحكم في بلاده فرنسا سنة 1804 ميلادية، واستمر في سدة الحكم إحدى عشر سنة. وقد اشتهر نابليون بتعديلاته الدستورية على القوانين الفرنسية مما أعطاها طابعا براجماتيا قابلا للتطبيق في معظم دول العالم. إلا أن ذلك أكثر ما يميز ذلك القائد الفذ قدرته على التصدي للحلفاء وهزيمتهم في عقر دارهم وبسط سيطرة كاملة على معظم بقاع القارة الأوروبية مما جعل المؤرخين يعتبرونه أعظم قائد عسكري في تاريخ البشرية. ولم تقلل هزيمته الأولى ولا الثانية في حربه مع روسيا من قدره كما لم تغيب سنوات المنفى الست التي قضاها في سانت هيلانة وحيدا ذكراه في قلوب الفرنسيين الذين قدسوه حد العبادة وأحبوه كل الحب. وقد سجل التاريخ - من بين ما سجل - لذلك القائد الملهم حوار دار بينه وبين بعض الجنرالات الروس الذين وقعوا في قبضته أثناء غارة ناجحة شنتها قواته على بولندا. إذ لم يشعر بونابرت بزهو الانتصار في ذلك اليوم بسبب تصرفات الضباط الروس الذين رفضوا أن يقدموا له فروض الذلة والمهانة، بل وزادوا ليله حلكة حين رفعوا أرانب أنوفهم في السماء وقالوا في صلف أن الروس يبزون أقرانهم الفرنسيين في كل شيء، وقال قائلهم: "نحن معشر الروس نحارب من أجل الكرامة، أما أنتم أيها الفرنسيون فتحاربون من أجل الغنيمة." عندها لم يسقط في يد رب السيف والكَلِم، بل قال في اعتداد: "كل يناضل لتحقيق ما يفتقر إليه." هكذا علمتنا فتنة الحروب وحكمة التاريخ وتجارب الحاضر المؤلم الذي حول ساحات مياديننا الموحدة إلى أسواق تجارية تباع فيها القيم والشعارات فوق الأرصفة وفوق الأكتاف والمنصات أننا نناضل من أجل ما نفتقر إليه وليس من أجل ما نحب. لهذا تحولت أحلامنا الطوباوية في غد أفضل إلى كابوس مرعب يحملنا من خوف إلى خوف ومن خيبة إلى خيبات. وهكذا تحولت الثورة إلى طوطم يدور الناس حوله ويقدمون له الذبائح والقرابين حتى وإن كانت من لحوم الأصدقاء أو دماء الشهداء أو خارطة البلاد. وهكذا تمردت الأصابع على اليد، وتآمرت الجماجم على الفكرة الموحدة، وهكذا وجدنا أنفسنا بعد دفء الميادين خارج الجغرافيا في مهب تاريخ يتقدم بنا حثيثا نحو خلف كنا نظن سفها أننا طوينا صفحات غلافه الأخيرة. وهكذا وجدنا أنفسنا في عراء وجودي نبحث في أنقاض الميادين التي خربتها الشعارات المتصارعة عن بقايا نبض يؤملنا في مصير آخر ونهاية أفضل من أخدود عميق تتقدم نحوه عربتنا سريعا بعد أن فقدت الحصان الذي كان يجرها إلى أََمامٍ جديد. حاولنا أن نمسك بأي ثوابت تجمعنا، لكن أشجار الطريق كانت تلم ثيابها عنا في أنانية مفرطة وخيانة غير مبررة وغير مفهومة لأذرع استطالت قدر استطاعتها ولم تعد من خصلات الأحلام بشعرة واحدة. ولأن عجلات العربة الثائرة لا تفهم عبارات الاستجداء ولا تميز بين السخط والاستحسان، فإنها تتقدم في زهو بعد أن تحررت من حصان كبل حركتها وقادها رغما عنها وسط شلالات الدماء وصيحات الميادين. تتقدم بنا العربة دون شفقة نحو مصير نستحقه بجدارة، لأننا أعلنا عن سبق إصرار وعَتَهٍ تمردنا على الأصابع المتشابكة والشعارات الموحدة، وسعينا في سخف بالغ إلى عض الأيادي ولكز الصدور وركل الأرجل القريبة كمن أصيب بسعار الوقواق وشهوة التفرد بتراب السبق نحو الهاوية. علمتنا الحكمة النابليونية والثورات المليونية أن الشعارات الواحدة لا تعني الشيء نفسه إذا ما تداولتها أفواه المنتصرين وشفاه المهزومين، وعلمتنا أننا فقراء جدا وأننا شركاء هزيمة صنعتها سيوفنا المعطلة وأصواتنا التي التقت فوق بُسُط الميادين وتفرقت داخل صناديق الحريات. لكننا نعلم أننا لم نستوعب الدرس بعد، وأننا مقبلون على كارثة تاريخية بحجم أنانيتنا المفرطة وثقافتنا الخرساء وأقلامنا التي جف مدادها وذكرياتنا التي طويناها سريعا ودماء شهدائنا التي واريناها بتراب الأحقاد وغبار الفتن. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.