كنا زمان ..عندما تستعصى الأمور بيننا وبين آبائنا ..يرد الأب "روح ولع فى نفسك"..كنا نتندر على هذه الكلمة ،وأذكر أنه فى قريتي ،عندما استقام عودى ؛وبعد العشاء مباشرة ..سمعنا عن رجل يدعى "فتحي"حرق نفسه ؛وكان "فتحى"يمتهن أى مهنة ،فتارة تجده مع "عمال التراحيل"وتارة أخرى تجده "نقاشاً"وثالثة يعمل مع أشقائه فى بيع "السمك"؛فأمه "بهية"كانت بمائة رجل ، وربت أولادها وجعلتهم جميعاً يمتهنون مهنة الأب "سماك"،وكان "فتحى"الدلوعة..نال قسطا من التعليم "دبلوم تجارة"،وكان شيكاً..يلبس أفضل الملابس ،ويأخذ شعره على جنب ورائحة العطر تفوح منه،وتزوج بنتاً من قريته وأنجب منها،ولما زهزهت الدنيا له ؛تزوج امرأة ثانية من قرية قريبة،ولكن سرعان ما ضاقت السبل فى وجهه ،فما كان منه إلا الصعود لسطح المنزل وسكب جركن "جاز"على نفسه ،وأشعل النار ؛ففاضت روحه إلى بارئها،وكانت حكايته من النوادر حتى وقت قريب ،فلجوئه إلى الانتحار "حرقاً"بسبب ضيق ذات اليد،وعدم تحمل المسئولية. ما جعلنا نتذكره ،ما حدث الأسبوع الماضى من محاولات انتحار لما يقرب من عشرة مواطنين فى بر مصر المحروسة،بعد قيام محمد البوعزيزى منذ ثلاثة أسابيع من إشعال النار فى نفسه أمام البرلمان التونسي بسبب قيام أحد الضباط بصفعه على وجهه ؛لأنه يسرح بعربة "تشبه عربة الترمس عندنا"فلم يعجب الضابط التونسى أن يقف البوعزيزى فى عرض الشارع ليبع ويقتات طعام يومه ،بالرغم من أنه خريج جامعة ..ولكن الحالة الاقتصادية الصعبة والفقر الذى ينخر فى عظام بعض الدول العربية والسياسات الفاشلة للحكومات العربية والفساد ..قل ما شئت من هذه المصطلحات،وكانت النتيجة ثورة شعبية سببها أبو زيد الهلالي الذي ضحى بنفسه لتحرير وطنه من قبضة ديكتاتور ظل جاثما على أنفاسهم طوال 23 عاما. وفى هذا المكان كتبت مقالات عديدة وكان آخرها العدد الماضي تحت عنوان"أما آن للشعب أن يستريح"حذرت فيه من ثورة الشعوب ضد الظلم والفساد.وكانت النتيجة ما حدث فى تونس..أعتقد أن كوب الماء مهما اتسع ووضعت فيه المياه سيمتلىء حتما وستكون النتيجة فورانه . وهذا ما أكده عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية فى القمة الاقتصادية بشرم الشيخ الأسبوع الماضي عندما قال:'ليس ما يحدث في تونس من ثورة أمرا بعيدا عن موضوع هذه القمة أي التنمية الاقتصادية والاجتماعية ودرجة توازنها وتصاعدها وشموليتها'.وأضاف أن المواطن العربي وصل إلى مرحلة من الغضب لم يسبق لها مثيل. وأعرب عن ثقته في أن تحقيق التنمية الشاملة الملموسة للعرب سيقضي على هذه التحديات في مجتمعات المنطقة. وما أحزننى تعامل المسئولين فى مصر مع الثورة التونسية ؛فيخرج وزير الخارجية أحمد أبو الغيط ويصرح لوسائل الإعلام "أن من يظنون أن ما حدث فى تونس سيمتد إلى دول المنطقة "كلام فارغ"،وفى مؤتمر شرم الشيخ يؤكد أن التنمية فى مصر وصلت إلى ذروتها والدليل أن كل مصرى يحمل تليفون محمول فى يده "وهنا أضع نقطة ومن أول السطر..كل يوم يخرج وزيراً من الوزراء فى حكومتنا المصونة ..أدام الله عزها..ويعايرنا وكأنهم يجبون علينا ويسبغون علينا من نعمهم ،وبحسبة بسيطة معالى وزير الخارجية ..فى موضوع المحمول..أى مواطن يحمل المحمول ..لا يتعدى ثمنه 50 جنيها ،ومن الممكن أن يكون أحدث موديل ،وهنا طريقتان للشراء والبيع :الأولى ..شباب عاطل تخرج من الجامعة وغير الناموس الكونى ،فجعل ليله نهاره ونهاره ليل"بمعنى "ينام طول النهار ويسهر طول الليل"،فيلجأ إلى ما يسمى "حرق المحمول"،العيال الحرامية بيقفوا فى المواقف ويسرقوا أى محمول ويذهبوا لبيعه بأبخس الأثمان ،فأخونا اللى نايم طول النهار "عايز يمشى المصلحة"فيأخذها منه ويبيعها لآخر ،ويطلعله 20 أو 30 جنيها فى المصلحة. الثانية:المواطن الغلبان يدخل "جمعية"ليشترى محمولا لابنه ليتقى شر هواجسه ،ويظل رابط الحزام على بطنه طوال شهور الجمعية..ناهيك عن هذا ..منافسات شركات المحمول فى إعطاء هدايا 1000 دقيقة من الساعة 12 صباحا وحتى السادسة مساءfree ،ولو كانت المكالمة ب 5 جنيه لن تجد واحدا من الغلابة أمثالى يحمل المحمول ،وبعدين هو أرخص من تليفوناتكم الحكومية. ما علينا..كل الحكومات ..بعد أحداث تونس ..تحاول استمالة المواطن عن طريق تخفيض أسعار السلع ، وأنتم تعايروننا ..يا سادة ..هل تعلمون أنكم جعلتم فى كل منزل "أب وابن"عاطلين،خصخصتم القطاع العام ،وقضيتم على العمال ،وآخر مصائبكم عمر أفندي ..أنتم لا تعلمون شيئا عن معاناتنا أجبرتمونا على القهر الإجباري ،وما زلتم فى غيكم ،انتفاضة الشعب التونسى أنقذتنا منكم ومن أفعالكم..وانتخابات الشعب الأخيرة خير دليل ،فإياكم وانتفاضة المظلوم. فما أشبه الليلة بالبارحة، فقبل 34 عاما وبالتحديد في 18 و 19 يناير عام 1977م شهدت مصر المحروسة أحداثا مؤسفة عرفت بانتفاضة الخبز ..اندلعت ثورة شعبية عارمة احتجاجا على عدد من القوانين سيئة السمعة وتدهور أحوال المعيشة ولم يجد الشعب أمامه إلا الخروج للشارع صارخا من آلامه ومكشرا عن أنيابه.وكان على رأس هذه القرارات رفع أسعار السلع الأساسية من خبز وسكر ودقيق وزيت، المدهش أن هذه السلع ترتفع أسعارها أسبوعيا دون أن يخشى المسئولون اندلاع انتفاضة مماثلة.ورغم اعتبار النظام الحاكم آنذاك، المتمثل في الرئيس الراحل محمد أنور السادات ووزير داخليته اللواء النبوي إسماعيل، لهذه الانتفاضة على أنها "ثورة حرامية" وليس جياع، إلا أنها أتت أكلها واضطرت الحكومة للتراجع وإلغاء كافة الإجراءات التي تسببت في تذمر الشعب وخروج المارد من قمقمه.ورغم تشابه الأحداث والتواريخ التي توحي للكثيرين بأن التاريخ يعيد نفسه، إلا أنه شتان ما بين 1977 و2011 حيث جاءت أحداث هذا العام أكثر اشتعالا على النحو الذي شهدته بلدان عربية عديدة من بينها تونس والجزائر والأردن وموريتانيا، بخلاف قلب العروبة مصر. فعندنا جاءت حوادث حرق الذات التي نفذها 8 مواطنون كان بإمكانهم الانتحار في صمت دون أن يدري بهم أحد على النحو الذي يتكرر كل يوم، لكنهم ومن المؤكد قرروا ألا يرحلون "فطيس" قبل أن يوصلوا رسالة مفادها أن الأوضاع لم تعد تحتمل وأن الأرواح بلغت الحلقوم. وتثير هذه الحوادث البشعة حالة من الهلع بين الملايين الذين يعانون من ظروف معيشية صعبة تدفعهم في كثير من الأحيان للتخلص من حياتهم بعد العجز عن إيجاد حلول لمشاكلهم، فقد كشفت التحريات المبدئية أن صاحب المطعم الذي بدأ مسلسل حرق الذات عانى من تضييقات روتينية حادة في محافظة الإسماعيلية، مسقط رأسه، وتراكمت عليه الديون وفقد الأمل في الحصول على مخرج من أزمته.وقد بذل المسئولون بما فيهم سيادة محافظ الإسماعيلية جهودا مضنية لإقناع الرأي العام بأن عبده عبد المنعم الذي أشعل النار في نفسه مختل عقليا وأنه كان زبونا دائما على مستشفى الأمراض النفسية لكن هذا لم يقلل من حجم المأساة.وكان عبده عبد المنعم جعفر "49 عاما" صاحب مطعم بمنطقة القنطرة غرب بمحافظة الإسماعيلية، قام صباح الاثنين بالصياح أمام مجلس الشعب بأعلى صوته، مرددا هتافات منها "منكم لله" قبل أن يقوم بسكب البنزين على نفسه وإشعال النار، إلا أن شرطة تأمين المجلس تدخلت على الفور وقامت بإطفاء النيران، ونقلت المصاب إلى المستشفى للعلاج.و أكد فى أقواله أنه يعانى من التعسف فى الحصول على حصته من الأرغفة المدعمة، وتقدم بعدد كبير من الشكاوى إلى رئيس الوحدة المحلية بالقنطرة غرب، ومدير مشروع الخبز المدعم أجل الحصول على حصته إلا أنه تعرض للتعسف من جديد وحاول بشتى الطرق التفاوض معهما دون جدوى، فلم يجد حلا إلا إشعال النار فى نفسه لعل أحد يهتم بأزمته .وأضاف أنه اشترى جركن من البنزين وتوجه إلى أمام مجلس الشعب وأشعل النار فى نفسه إلا أن أحد السائقين المارين فى شارع القصر العيني شاهده، وأسرع إليه بطفاية حريق سيارته، وأخمد النيران قبل أن تلتهمه، وفي نفس المحافظة الإسماعيلية ترددت أنباء عن محاولة ميكانيكي يعمل بإدارة الحركة ببريد الإسماعيلية إشعال النار في نفسه أمام مكتب مديره احتجاجا على إحالته للتحقيق.وقال شهود العيان أن الميكانيكي يدعى طارق قد سكب كميات من البنزين على نفسه محاولا إشعال النار في نفسه إلا أن أصدقائه في العمل تمكنوا من إيقافه.أما ثالث حوادث الانتحار فدلت المعلومات الأولية أنها كانت من نصيب محام شاب أضرم النار في نفسه أمام البرلمان وأن عشرات المواطنين التفوا حوله على الفور وأطفأوا الحريق وتم نقله إلى أقرب مستشفى لتلقي العلاج وبعدها بدقائق حاول طالب حرق نفسه أمام البرلمان أيضا.وأيا ما كانت الأسباب والدوافع التي تضطر إنسانا لإشعال النار في جسده للتخلص من همومه إلا أنه من المؤكد أننا بتنا أمام واقع مأساوي جديد عنوانه "اللي ما تقدرش تحله ولع فيه".. .. وربنا يستر!! ومع اختلاف أو تطابق حوادث الانتحار مع أحداث يناير 1977فلعل ما يربطها شيء واحد هو أن هذه نتيجة معاملة الفقراء على أنهم وباء، لذلك تسربت المعلومات حول ضرورة عدم استفزاز الشعب بإجراءات تخرجهم من دينهم وعقولهم وتدفعهم لإحراج الوجه الوردي للحكومة "النظيفة" التي لم أعرف حتى الآن نوعها سواء أوتوقراطي أو تكنوقراطي.وتضعنا هذه الأحداث أمام عدة حقائق مهمة لعل أولاها أن المسئولين "البررة" اعتادوا ألا يفكروا في الشعب سوى من زاوية كيف نحرق دمه ونكدر عليه معيشته ونجعله حبيس الحزن والقهر وذلك على جميع الأصعدة، بداية من أزمات المرور الخانقة التي لا تنفرج إلا عند مرور أحد المسئولين، إلى جانب طوابير الخبز واللحم المدعم.ومرورا بالضرائب التي تكوي جباه الشعب ولا يحسون بأي عائد عليهم منها أو ثروات البترول والسياحة وقناة السويس التي لا يعلمون أي شيء عنها اللهم إنها تستخدم في دفع رواتب الكبار، وانتهاء برب الأسرة الذي لا يجد قوت يوم أسرته فيقرر التخلص من حياته بل ومن أبنائه أحيانا ليكفيهم شر هذا الهوان الأليم، والشباب الذين لا يجدون أي أمل في فرص عمل أو زواج أو حتى في مسكن يليق بالأرانب وليس البشر.فهذه الأحداث أفرزت حالة من الاضطراب لدى كثير من المسئولين الذين وصلتهم الرسالة بدون تشفير أن على مصر الاستفادة من الدرس التونسي، وأنه على كل مسئول محاسبة نفسه قبل أن تطير رقبته كما طارت رقبة زين العابدين.ومن هنا لم تكن دهشتي كبيرة حين طالعت عناوين الصحف القومية على مدار الأيام الماضية وهي تردد عبارة واحدة مفاده: "مصر مش زي تونس".ثم استرسلت في رسم معالم المستقبل الوردي وتصوير أنهار الزبد والعسل واللبن الذي ينتظر المصريين بين طرفة عين وانتباهتها، وراح كل وزير يقول له كلمتين ليبعد البطحة عن رأسه على طريق: "أنا مش قصير قزعة أنا طويل جدا".. عارف عايزين تقولوا إيه بس خلوها في سركم أحسن.