بقلم د. ريم ثابت لاشك أن هناك فلسفة كامنة وراء قيام الثورات الشعبية، تلك الفلسفة ترتكز دعائمها على رفض الظلم والقهر والهيمنة والقمع والفقر، ونبذ تقييد الحريات الشخصية، والاتجاه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، والسعى نحو التغيير والتطوير، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والمقصود بالثورة الشعبية فى هذا الصدد الخروج عن الوضع الراهن سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ من الوضع القائم، وتمرد أفراد الشعب على الأوضاع التى يعيشونها فى إطار النظام السياسى الحاكم، والتظاهر فى الأماكن العامة بهدف المطالبة بحقوق إنسانية مشروعة وعادلة تتعارض – غالباً - مع الآليات السياسية المتبعة من قبل النظام الحاكم. ولنا فى الثورات المصرية التى ظهرت فى عصرنا الحديث مضرب الأمثال التى توضح المفهوم السابق، والتى كان أشهرها: ثورة عرابى التى اندفع فيها الشعب المصرى نحو تأييد عرابى وأعوانه، فهب الشعب يساند ابن بلدهم (عرابي) ضد الاحتلال والملك، وتبعتها ثورة 1919 التى بدأت كثورة شعبية قادها مصطفى كامل ضد الاحتلال ثم تزعمها سعد زغلول.. وتلتها ثورة يوليو 1952 التى اندلعت بقيادة بعض ضباط الجيش، هذا ويلاحظ أن تلك الثورة جاءت مختلفة فى تركيبها عن مفهوم الثورات التى سبقتها، فقد رأى البعض أن هذه الثورة تصحيحا للمسار، فى حين رأى البعض الآخر أنها تمثل انقلابا على الثورة، ولقد أطلق عليها "طه حسين" مسمى "الانقلاب العسكرى للجيش"، حيث رأى أن خروج الجيش على الحاكم وإجباره على التنازل عن عرشه يعد انقلاباً. وأخيراً تأتى ثورة يناير 2011 وهى ثورة شعبية سلمية اندلعت فى مصر نتيجة تفاقم وسوء الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من حيث:زيادة معدلات الفقر، واستشراء الفساد السياسى فى انتخابات مجلس الشعب والشورى، وتصدير الغاز لإسرائيل، هذا بالإضافة إلى استمرارية تفعيل قانون الطوارئ (وهو القانون المعمول به منذ سنة 1967) والذى هو يمثل أحد أهم الأسباب التى أدت إشعال جذوة المواطنين وثورتهم، إذ أن هذا القانون قد سمح بزيادة سطوة رجال الشرطة، (الحكومات المتوالية فى مصر عملت على إبقاء العمل بهذا القانون بحجة الحفاظ على الأمن القومي). كذلك أرى أن من أهم الأسباب غير المباشرة لتلك الثورة – وان لم يكن أخطرها - ما تضمنه الدستور المصرى من صلاحيات منحت رئيس الجمهورية السلطة والاختصاص فى احتكار كافة مقاليد الأمور فى الدولة وقمع الحريات الإنسانية، من هذه الصلاحيات: إصدار اللوائح التنفيذية (المادة 144)، وإصدار لوائح الضبط - التى تحد من الحريات العامة للأفراد- (المادة 145)، وتعيين الموظفين وعزلهم (المادة 143)، والإشراف على المرافق العامة (المادة 146) وعلى الجيش (المادة 150و182)......إلخ ، إذ أنه بمجمل هذه الصلاحيات صارت السلطة كلها فى يد رئيس الجمهورية، دون أن يتم اقتسامها مع الحكومة، فهى تأمر وتأتمر بأمره، وتنفذ كل ما يقضى به .. على طريقة «أحلامك يافندم أوامر». ولقد رصدت الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان فى تقرير أصدرته المنظمة الدولية بعنوان (ثمن الأمل: انتهاكات حقوق الإنسان خلال الثورة المصرية) عدداً من الانتهاكات التى ارتكبها نظام الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك ضد المتظاهرين خلال أحداث ثورة 25 يناير، إذ أنه فيما يتعلق بأعمال القتل ومحاولات القتل والإصابات فقط رصد تقرير الفيدرالية الدولية مصرع 846 شخصاً وإصابة 6467 آخرين خلال الفترة من 25 يناير وحتى 11 فبراير، مشيراً إلى أن هناك أكثر من ألف شخص يعانون فقداناً دائماً للبصر، وأفاد أطباء مصريين التقتهم بعثة المنظمة بأن "إطلاق النار على المتظاهرين بالرصاص كان يستهدف الجزء العلوى من أجسادهم وعيونهم" . ويأتى تقرير الفيدرالية الدولية متضمناً نتائج بعثة تقصى الحقائق التى أوفدتها الفيدرالية فى شهر مارس 2011 لبعض المحافظات المصرية للوقوف على الانتهاكات التى تخللت ثورة 25 يناير بخلاف إجراء عدة لقاءات مع الضحايا من الشهداء والمصابين، إضافة إلى لقاءات مع حقوقيين ونشطاء سياسيين ورجال دين، وأعضاء الجماعات الشبابية، ومحامين وصحافيين وأطباء، وذكرت المنظمة أن النائب العام والمدعى العام أبديا رغبة حقيقية فى التعاون مع منظمات حقوق الإنسان بشأن توثيق دقيق للانتهاك. ووفقاً لتلك التقارير وغيرها من الأدلة القاطعة التى تثبت وجود انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تخللت ثورة 25 يناير، يمكن القول أنه من المهم تحديد المسئول الرئيسى عن الجرائم التى وقعت أثناء الثورة إذ أن وجود ضرر قد أصاب المجتمع من قبل الدولة جراء تقصيرها فى أداء المهام الموكولة إليها أو الإضرار بمواطنين المتظاهرين والاعتداء عليهم، وبما لا يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، هذا فضلاً عن إخلال الدولة بالالتزام القانونى العام الذى يفرض عدم الأضرار بالمواطنين فى حال تظاهراتهم السلمية، وما يستتبع كل ذلك بالضرورة من مسئولية تقصيرية أو جنائية – أو كليهما - تقع على عاتق الدولة... كل ذلك من شأنه أن يمثل أمر غاية فى الأهمية ولا سيما عند وضع حد لظاهرة الإفلات من العقاب، خاصة لكبار مسئولى الدولة والضباط الذين شاركوا فى ارتكاب هذه الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان فى ظل نظام الرئيس السابق مبارك. وفيما يتعلق بمسئولية الدولة التقصيرية الناجمة عن الاعتداء على المتظاهرين وإلحاق الأضرار بهم بسبب الاضطرابات والقلاقل قضت محكمة النقض بأن مسئولية الحكومة عن الأضرار التى تلحق بالأفراد بسبب الاضطرابات والقلاقل لا تقوم إلا إذا ثبت أن القائمين على شئون الأمن امتنعوا عن القيام بواجباتهم وقصروا فى إدارتها تقصيرا يمكن وصفه فى الظروف الاستثنائية التى وقع فيها الحادث بأنه خطأ" (4/1/ 1990 طعن 352 سنة 55 ق- م نقض م – 41- 115) ولئن كان رجال البوليس فى سبيل ما نص عليه القانون رقم 10 لسنة 1914 بشأن التجمهر والقانون رقم 14 لسنة 1933بتقرير الأحكام الخاصة بالاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق العمومية أن يتخذوا من الوسائل ما يؤدى إلى تفريق المجتمعين ولا مسئولية عليهم إذ هم فى سبيل القيام بهذا الواجب أصابوا أحداً..إلا أنهم إذا جاوزوا فى تصرفاتهم الحد اللازم لتحقيق هذا الغرض، كان هذا التجاوز اعتداء لا يحميه القانون وتقدير ذلك من مسائل الواقع التى يستقل بها قاضى الموضوع متى أقام قضاءه على أسباب سائغة. (18/3/ 1992 طعن 1675 سنة 55 ق- م نقض م – 43- 468). وطالما كان الضرر فى المسئولية الجنائية منصباً فى الأساس على المجتمع ذاته، كان جزاء المسئولية هنا يتمثل فى عقوبة جنائية، وكان لزاماً على النيابة العامة أن تطلب (عن المجتمع) توقيعها على المخطئ أو الجاني.. وطالما كان الجزاء فى المسئولية الجنائية عقوبة تنطوى على معنى الإيلام، وتمثل حداً من الحرية الشخصية، كان لابد من حصر الجرائم والعقوبات، لذلك فإن المبدأ فى القانون الجزائى هو لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وطالما أن المسئولية الجنائية تقوم على أساس أن هناك ضرراً لحق بالمجتمع طالما توافرت النية – التى هى فى الأصل ركناً من أركان المسئولية الجنائية - فى إلحاق هذا الضرر، فالقاعدة أنه لا يجوز الصلح أو التنازل فى المسئولية الجنائية. ولما كان رئيس الدولة فى مصر هو رئيس الجمهورية وهو الذى يتولى السلطة التنفيذية فيها ويضع بالاشتراك مع مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة ويشرفان على تنفيذها وهو الذى يعين رئيس الوزراء والوزراء ويعفيهم من مناصبهم وله دعوة مجلس الوزراء ورئاسته وطلب التقارير من الوزراء ومن ثم فهو صاحب الصفة فى تمثيل الدولة ولا يغير من ذلك أن الوزير يمثل الدولة فى الشئون المتعلقة بوزارته باعتباره المتولى الإشراف على شئونها والمسئول عنها والذى يقوم بتنفيذ سياسة الحكومة فيها فذلك ليس من شأنه أن ينفى صفة رئيس الجمهورية فى تمثيل الدولة ذاتها، وبناءً عليه أرى أنه لابد أن: • أن تحمل محكمة النقض الرئيس المخلوع المسئولية الجنائية عن قتل المتظاهرين طالما أظهرت التحقيقات إصداره الأوامر بإبادة المتظاهرين أو امتناعه عن نهى مرؤوسيه عن إجراء عمليات القتل، إذ كان يتعين عليه تنبيه المسئولين بعدم اللجوء إلى وسائل القوة وعدم إصداره لهذا القرار يدينه بالمسئولية التقصيرية التى تصل إلى حد المسئولية الجنائية أيضا المترتبة على عدم إصداره مثل هذا القرار، واعتبار مسلكه السلبى فى ذلك بمثابة أمر أو موافقة على الجريمة، مع إصرار النظام الحاكم على العمل بقانون الطوارئ، المساهم فى خلق مناخ الإضرار بالمتظاهرين والاعتداء عليهم وتوافر إمكانية العلم بحدوثه. هذا فضلا عن ضرورة أن تحمل محكمة النقض المسئولية الجنائية والتقصيرية لرئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس جهاز أمن الدولة...طالما أظهرت تحقيقات النيابة أنه قد نما إلى علمهم أو إمكانية علمهم بوقوع جرائم قتل الثوار والاعتداء عليهم بشكل منظم مع الأخذ فى الاعتبار تشابه تلك الجرائم فى سائر المحافظات التى تم فيها التظاهر، والارتباط بين وقائع متكررة فى العنف الأمنى تجاه المتظاهرين، وعلم رؤوس السلطة بعمليات الإبادة الجماعية. • أن يحمل مبارك المخلوع ورئيس مجلس الوزراء... ووزير الداخلية .. ورئيس جهاز مباحث أمن الدولة المسئولية الجنائية والسياسية عن جرائم التعذيب والاعتداء التى ارتكبها ضباط الشرطة بحق المتظاهرين فى بداية اندلاع الثورة، فالمادة الثانية من اتفاقية مناهضة التعذيب – التى أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10/ 12/ 1984، ووافقت عليها مصر بقرار رئيس الجمهورية 154 لسنة 1986 على أن تتخذ كل دولة إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة، أو أية إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب فى أى إقليم يخضع لاختصاصها القضائي... ولا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أياً كانت هذه الظروف سواء فى حالة الحرب أو تهدياً بالحرب أو عدم استقرار سياسى داخلى أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة كمبرر للتعذيب. ختاماً ... أرى أنه لابد لنا من التصدى لانتهاكات حقوق الإنسان التى تفشت بشكل واضح فى أحداث ثورة يناير 2011، وإجراء تحقيقات كاملة ومحايدة ومستقلة والوقوف على مدى مسئولية الدولة التقصيرية والجنائية فى جميع حالات انتهاكات حقوق الإنسان التى وقعت فى ذلك السياق...وذلك حتى لا يصبح الإفلات من العقاب هو العلامة المميزة للمشهد السياسى فى مصر فى المرحلة المقبلة، بعد أن أصبحت تلك الانتهاكات شعاراً للنظام الحاكم على مدار السنوات الثلاثين الماضية، ومن أجل إعادة بناء ثقة الشعب المصرى فى المؤسسات الوطنية واحترام العدالة والقانون..