بقلم :د. وفيق الغيطاني منذ 48 دقيقة 8 ثانية عشت بين عائلة متكاملة مميزة.. ومثال حقيقي للطبقة المتوسطة أيام الزمن الجميل، وسلوك هذه الطبعة يتصف بالوفاء والانضباط وعمق ودفء العلاقات العائلية والإنسانية. عشت في حي الإفرنج أحد أحياء بورسعيد الراقية، أسكن عمارة من عمارات حي اليهود العتيق، واختلطنا بكل الاجناس وكل الأديان، وكانت حياة خصبة وتجربة ثرية بين أناس عاشوا وماتوا ومازالت ابتسامة الحب ترفرف بين الطرقات وحول درجات السلم وعلي الشرفات التي طالما كانت الزهور تجملها طوال العام. حي اليهود.. حي يتجلي فيه عالم الليل بسحر ومذاق خاص وهدوء إيجابي يفجر الطاقات، تعرفت علي مجموعة من الأصدقاء كبرنا معا وتعلمنا معا وتسامرنا معا وعشنا مغامرات الاكتشافات الأولي للحياة، وعرفنا وتعلمنا السياسة والثقافة والفن والجمال المرتبط بالحب والإحساس الجميل الراقي المهذب. كان حي اليهود عبارة عن سبع عمارات عملاقة يتوسطها المعبد وكان يسكنه أجانب ويهود ومصريون مسلمون ومسيحيون وكانت علاقاتنا علاقات راقية وسلوكنا ينم عن مستوي فكري حضاري بعيدا عن أي تعصبات أو مهاترات.. وكان الجميع يحترم مشاعر الجميع فكان قبول الآخر بماله من فكر وعقيدة سمة من سمات ذاك الزمن الجميل. تغيرت الحياة بعد مرور الأيام والسنين وقامت حروب. ومات أشخاص ورحل أصدقاء وهدمت بيوت وتفرق الأصدقاء وسرقني الزمن ومرت السنون سريعا.. مرت ستون عاما بين الدراسة والعمل والكفاح وعدت. صدمت بعد أن وجدت حي اليهود مختلفا والحمد لله أنه خال من اليهود فقد تغير الزمن وتغيرت المشاعر.. ولكني حزنت عندما علمت أنها مهملة بعد أن صادرتها الدولة وجعلتها تحت إشراف وملكية شركات التأمين الحكومية القابعة تحت سلبيات الروتين الحكومي. تغير السكان بعد رحيل الأجانب ووفاة الكثير من العظماء الجيران الأوائل ذوي الابتسامة الدائمة، وارتفعت أمام عمارتي عمارة أقصد برج مرتفع مكان المعبد اليهودي.. كيف?!.. لا أعرف!! ازدحم الشارع بالسيارات فرواج المنطقة الحرة وكثرة البطاقات الاستيرادية حول بورسعيد إلي جراج كبير وشوارع مزدحمة بالسيارات من كل نوع. أنا لا أدافع عن الأجانب واليهود ولكني أترحم علي سلوكيات وأخلاق العديد من الجنسيات التي تربينا في أحضانهم.. فاقتناعهم باحترام الآخر وقبوله ووفاء سلوكهم وحرصهم علي التعامل بذوق وشياكة واحترام.. تعلمنا منهم الكثير الذي فقده أبناؤنا الآن حتي وصل الحال إلي منحدر سيء في السلوكيات والتعامل في كل شيء. يسكن معنا وحولنا الآن أنماط وأشخاص من كل لون ومن كل جنس مصري من بحري وقبلي.. ولكنهم غير المصريين ما كنت أعرفهم أيام الزمن الجميل.. سواء كانوا مصريين أو أجانب.. لا توافق.. لا حب.. لا انسجام.. لا وفاء.. لا ذوق.. لا معاملة حسنة سمات منتشرة بين المصريين في كل مكان.. أري كل هذا في سياق شخصيات قلقة باحثة عن مكان وموضوع قدم وسط هذا الخضم من المشاكل وهذا الزحام الذي نتج من سوء إدارة العسكر للبلاد منذ عام 1952. الكل يجري.. الكل يتعثر حتي ولو يملك مال الدنيا وذلك لأن الحياة ليست حياة الأنا أو حياة فردية، ولكن ده مجتمع متكامل ساكنه ناس لها علاقات ومصالح مشتركة فأصبح رفض الآخر سمة غالبة علي السلوكيات والحياة أصبحت غير وردية ولا يغلفها الحب والوفاء. أري كل هذا وأتذكر الماضي الجميل وأفقد أعصابي وأتلعثم ولا أستطيع أن أقول لهم ما يدور في نفسي من أنهم نسخة باهتة من المصريين أصحاب هذا البلد في الزمن الجميل حيث تربينا معهم وبينهم وتعاملنا بالأخلاق والحب الوفاء. تغير سلوك الشعب المصري يرجع إلي التجاوزات غير المقبولة التي مارسها العسكر طوال السنوات السابقة وخاصة في السنوات الأخيرة.. تجاوزات أمنية ونهب لمقدرات مصر وثروتها وإهمال وترد في الحياة العامة وإهمال المواطن ووصول أكثر من 45٪ من المصريين الي تحت خط الفقر والتعدي علي الأراضي الزراعية وسرقة أراضي الدولة وازدياد العشوائيات والبطالة والاختراق الصهيوني لمصر بمعرفة نظام المخلوع مبارك وحاشيته الفاسدة مما أدي إلي تدمير سلوكيات المصريين. انتابني شعور ورغبة جامحة في أن أصفح الهواء من حولي بقوة متمنيا أن يظهر لي جناحان يحملاني في الهواء وأطير بعيدا عن هذا المكان وهذه السلوكيات المقززة.. حيث التجمل والنفاق.. بعيدا.. بعيدا.. وحدثت المعجزة وها أنا أطلق في الهواء بعيدا ومازال عقلي يفكر ويفكر. لقد تغير الإنسان المصري وأصبح منه ذلق اللسان بأكاذيب وافتراءت علي أشخاص وأناس بسطاء، هدفهم من هذه الدنيا توفير قوت يومهم وهم مجردون من كل شىء عبارة عن أرجل تتحرك لكي تعمل لتحصل علي مقابل بسيط لا يكفي تلبية حاجتهم ومطالبهم البسيطة وهذا نتيجة وصول أنماط بشرية إلي قمة الهرم المالي دون سابق إنذار ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة فقط. ويزداد التوتر كلما زادت المنافسة ويزداد التلعثم لان المعركة غير شريفة وغير متكافئة وخاصة عندما يظهر لك منافس بلا مبدأ ولاأخلاق وما أكثرهم هذه الأيام فتشعر بالإحباط والتخلف من حولك وضيق ذات اليد وقصور كبير في كثير من السياسات الداخلية وعدم فاعلية السياسات الخارجية مما يؤثر علي المستوي العام لمعيشة الشعوب والشعب المصري بصفة خاصة. وهذا الشعور ممكن أن يؤدي إلي نزاعات متطرفة تنعكس علي السلوك اليومي للمواطن تؤدي إلي التطرف ورفض الاستقرار المزعوم والرغبة الملحة في التغيير حتي ولو كان التغيير إلي الأسوأ، المهم التغيير، وضربت الهواء بجناحي مغيرا لاتجاهي بحثا عن فضاء فسيح آخر. إن المواطن المطحون في بلاد الواق واق مازال يعيش بعيدا عن الديمقراطية الحقيقية والحرية الكاملة. تطرق إلي سمعي وأنا أحلق طائرا حول المكان صوت أم كلثوم عبر الأثير من خلال نافذة تطل علي عمارتنا وهي تغرد حبيبي لما يوعدني .. أبات الدنيا ضحكا لي ولما وصله يسعدني.. أفكر في اللي يجرالي يا سلام.. يا سلام يا ست.. صوت الزمن الجميل ورومانسية الزمن الجميل. شردت في ذكريات الست وسهراتها كل أول شهر ونحن جالسون حول نار الفحم حيث نشوي (الكستن) أو (أبوفروة)، وجميع أفراد العائلة صامتون وكأن علي رؤوسهم الطير كبارا وصغارا ولا نسمع إلا كلمة واحدة.. الله.. الله.. عليك يا ست. فجأة تنبهت علي أصوات تتلاطم فإذا بي عرجت نحو شاطئ البحر ووجدت نفسي أحلق بجوار طيور النورس فسعدت بها فطالما صاحبتني في رحلاتي البحرية أيام ممارستي لهواية صيد الأسماك عند كوبري الجميل وبحيرة المنزلة وقناة السويس والترعة الحلوة. فجأة وبدون سابق إنذار وبدون أن أشعر .. طارت أجنحتي في الهواء واندفعت بقوة تجاه البحر وارتطم رأسي في القاع وأنا أصرخ بأعلي صوتي الحقوني.. الحقوني.. فتحت عيني فجأة لأجد نفسي واقفا فوق سريري ممسكا برأسي وشفتاي تنتفضان وأنا أذكر الله.. فهذا الحلم المزعج الجميل أخرج من صدري خلجان الألم والفرح والذكريات الجميلة، ونسيت لفترة ما نعيش فيه من الواقع المر. *المنسق العام لحزب الوفد