بقلم :د.سعيد اسماعيل على منذ 19 ساعة 7 دقيقة برزت في الفترة التي أعقبت اندلاع ثورة يناير عبارة (الانفلات الأمني)، ثم بدأ بعض آخر، ونحن منهم، يكتب ويتحدث عن نوع آخر من الانفلات، ألا وهو «الانفلات الإعلامي»، ويبدو أن الدائرة بدأت تتسع، مما جعلنا نري المسألة بصورتها الأكبر ، ألا وهي ما يشهده المجتمع المصري من «انفلات» عام، وهو ما جعلنا نسميه «انفلاتاً مجتمعياً»، والذي هو حالة طبيعية يواجهها المجتمع الذي شهد ثورة شعبية من طراز متميز، ومثل هذا لا نراه فيما قام من ثورات أخرى، منظمة، قامت بها مجموعة، ذات برنامج محدد، لها قائد أو زعيم معين. في الثورة الشعبية، لا تجد فئة معينة تنتسب إليها الثورة، ولا قائداً بذاته، أو حتى مجموعة، ويترتب علي هذا وذاك خلو الساحة من رؤية كلية للمستقبل، محددة المعالم، واضحة القسمات، وكذلك تري مصداقية للمقولة التي تقول إن الهزيمة ليس عنها مسئول محدد، حيث يهرب الجميع من الاعتراف بمسئوليتهم، أما النصر، فله ألف أب، لأن كثيرين يحرصون علي أن يظهروا دورهم المهم الذي قاموا به. ومن هنا كثيراً ما تسمع أو تقرأ لهذا أو ذاك: «لما كنت في ميدان التحرير...»، كي يوحي لسامعه بأنه من المسهمين في الثورة، وكأن ميدان التحرير قد تحول إلى «جنسية» يسعي الجميع إلي التمتع بها، وينسي كل هؤلاء، أن مصر كانت قد تحولت كلها إلي مصنع يعج بالثوار، وأن ليس كل من كان بالبيت، كان متقاعساً، أو سلبياً، كذلك فهناك من «راكموا»، عبر سنوات، كتابات، وصورا توعية «تزرع نقدًا وفضحًا للنظام، وتبذر بذور تمرد وعدم رضا، مما كان مُشكلاً لتربية نبتت فيها الثورة، حتي استوت علي عودها. ويبدو أن طول فترة الكبت، لم يعود الناس علي الاستسلام والرضوخ والسلبية كما تصور كثيرون، وأنا واحد من هؤلاء، وإنما كانت هناك عملية «تخزين» مثلما يحدث للمياه الجوفية، حتي إذا حانت فرصة فتح للغطاء الحديدي، إذا بالمياه تنطلق، شلالاً يهدر، أو قل، كانت مشاعر السخط وعدم الرضا تتراكم، ليحدث الانفجار البركاني العظيم. كانت أيام الانفجار الأولي مليئة بصور فخر وعظمة أذهلت كثيرين، من حيث التضامن والتآلف، حيث كانت هناك مهمة كان عليها إجماع، ألا وهي ضرب رأس الأفعي.. رأس النظام، لكن بدأت الأخطار تلوح في الأفق، بعد أن ذهب رأس الأفعي، أو كما يقولون: راحت السكرة وجاءت الفكرة.. بدأ خطران كبيران يلوحان في الأفق: أولهما، أن سقوط قيادات النظام العليا، لم يكن يعني أبداً أن النظام نفسه سقط، بل هو مازال قائماً، وحراسه، يلبسون أقنعة الوضع الجديد، ويتفنون في استخدام ألوان المكياج، حتي «يتماشوا» مع «الجو»، ومن ثم فإن عدداً من المعايير الحاكمة، والموجهات المُسيرة، والأهداف المستترة.. كل ذلك مازال يتحكم في المسار للكثرة الغالبة من أجهزة الدولة. ثانيهما، أن الاتفاق علي الإسقاط والهدم، لم يكن يعني «شيكاً علي بياض»، فهناك المرحلة الأخطر، والتي هي جوهر أي ثورة، مرحلة البناء.. فإذا كان المبني قد سقط - أو هكذا نفترض - فماذا نُحل مكان هذا البناء؟ هنا تبرز الاختلافات، وتظهر الفروق، فهذا يريد مبني بمواصفات كذا وكذا، وذاك له رؤية مختلفة، وتلك تملك وجهة نظر مباينة.. وهكذا. ولأن النهر السياسي كان مغلقاً سنوات طويلة، فإن القادمين للسباحة لا يملكون الخبرة الكافية لإحسان العوم، ومن هنا نري ما يشبه «التطبيش»، والحركات العشوائية. وإذا كان هذا «التطبيش» يظهر في أوساط النخبة، لكن الأخطر، ما أصبح يجري داخل «المحيط» الشعبي.. تفجرت آلاف الرغبات، وتناثرت آلاف التصورات، وانهمرت آلاف المطالبات.. وهكذا. ولأن اليد الممسكة بمقاليد الحكم، لم تكن هي القائدة للثورة، حيث هناك فرق كبير بين «حماية» الثورة وبين «القيام بها»، فضلاً عن قيادتها.. وفضلاً عن ذلك، فإن السلطة المسئولة عن الحكم، علي الرغم من نبل ما فعله أعضاؤها، وعظمته، لكنه لا ينسينا أن هؤلاء الأعضاء لم يسبق لهم أن مارسوا السياسة، خاصة في أقصي مراتبها ومستوياتها، ألا وهو الحكم نفسه، فضلاً عن أن تنشئتهم وطبيعة ما تخصصوا فيها يقوم علي توجهات وأساليب ربما تختلف كثيراً عما تقوم عليها الممارسة السياسية المحترفة. لأجل هذا، وما سار علي نهجه: يظهر البطء، ويطل التردد، وتعلو المخاوف، ونلمس بعض علامات استفهام، تدفع البعض إلي شعور بشك لا يدري مداه.. ولعلنا نذكر المثل الشهير «غاب القط، العب يا فار»، وبعيداً عن ذهننا المماثلة التامة في التشبيه، فقد انطلقت «حمم» بركانية من التطلعات، والرغبات، والمطالب، وبدأ الشعور بالقوة، يتبدي لدي كثيرين، والإحساس بالسيادة، أو كما يعبرون في الشارع «ماعدش فيه كبير»، ومجتمعنا المصري، عبر تراث طويل، يمتد بعمق الزمان، يؤمن بقوة بمسألة «الكبير»، حتي قالوا «اللي ما لوهش كبير، يشتري له كبير»! في وسط هذا «اللغط» تحولت «الجرأة» لدي كثيرين إلي «اجتراء».. الجرأة تعكس شجاعة، واستعداداً للتضحية بالذات.. أما الاجتراء فيعكس وقاحة، واستعداداً للتضحية بالغير!! روح الثورة تؤكد علي شعار «الوطن أولاً»، لكن روح الفوضي تؤكد علي شعار «أنا وبعدي الطوفان». ولنأخذ مثالاً بسيطاً، يتصل بالمطالب الفئوية، فلا شك أن ظلماً كبيراً قد طال ملايين المصريين في أجورهم عن العمل حتي أصبحت مثار سخرية الجميع في أنحاء العالم.. لكن، هذا هو البئر وهذا هو غطاه كما يقولون، ولنقسها بالحسابات والمنطق: توقف كثير وطويل عن العمل والإنتاج، نتج عنه، تراجع مخيف في الإيرادات.. كيف يتأتي لك إذن أن تطلب المزيد من النقود؟ ومن أين؟ هنا تظهر الأيدي المرتعشة التي تحكم مصر.. ترتعد، فتسرع بالاستجابة لهذه الفئة، بالخصم واستنزاف الاحتياطي، فتتشجع فئة أخري علي أن تفعل شيئاً مماثلاً، وتهرع القيادة أيضاً إلي الاستجابة، ويكون الاستنزاف المستمر للموارد.. شخص يحصل علي مائة جنيه، ويطالبه أولاده بمزيد من الإنفاق، حتي أصبح اليوم ينفق مائة وعشرين، وغداً يزيد الرقم إلي مائة وأربعين.. وهكذا!! الثورة الحقيقية إذا كانت تقوم علي المشاركة للجميع، فلا يجب أن تقتصر المشاركة علي الأخذ فقط، بل لابد أن تشمل كذلك المشاركة في تحمل الآلام والتقشف، مع الوعي تماماً بسابق طول المعاناة والتحمل. كان التمرد والتوقف عن العمل يقابل بالاعتقال والفصل، أو غير هذا وذاك من ردود فعل تعسفية، لكن، هل يكون البديل: العكس تماماً؟ فإذا بآلاف يقطعون الطرق، ووسائل المواصلات، ثم نقابل هذا وذاك بما يشبه «الطبطبة» و«معلهش يا حبيبي، حقك عليّه»! لا ندعو إلي العودة إلي القسوة والتجبر، لكن هناك سلطة القانون: فما حكم القانون علي من يقطع الطريق العام، والمواصلة العامة؟ فليطبق عليه فوراً. إن الحزم لا يرادف القسوة، ومن هنا كان العقل الشعبي أكثر حكمة عندما قال «يا بخت من بكاني وبكي عليّ، ولا ضحكني وضحك الناس عليّ»!! إن للديمقراطية مقولة شهيرة، تقول إن حدود حريتك تنتهي عندما تبدأ حدود حريتي، فإذا كنت حراً في أن أسمع الراديو بمنزلي، فيجب ألا يرتفع صوته بحيث يزعج جارى، وهؤلاء المئات الذين يقطعون الطريق، ويوقفون القطارات، هم في الحقيقة إنما يعطلون مصالح وأعمال ألوف من المواطنين الذين لهم حرية التنقل أيضاً!! كان رجال الشرطة «يستبدون» و«يستغلون» أصحاب وسائقي «الميكروباصات» وسيارات الأجرة، لكن لا ينبغي أن يكون المقابل، أن يفعل هؤلاء وهؤلاء ما يريدون، ويصل الأمر أن يهددوا رجال الشرطة إذا تدخلوا بالعدل!! وداخل كثير من مواقع العمل، خاصة الحكومي، أصبح رؤساء يقفون عاجزين عن مظاهر تكاسل وتراخ، من عدد من العاملين، الذين يهددون بالاعتصام والإضراب، والمصيبة أنهم يبررون ما يفعلون بأننا في حالة ثورة!! فيتهم هؤلاء الرؤساء بالتقاعس وعجز الإدارة والتسيير! لا أقف في صف الرؤساء ضد العاملين، فكاتب هذه السطور أبعد خلق الله عن ذلك، لكن الحق أحق أن يُتبع. لا تجعلونا نتذكر المقولة الشهيرة: أن الطريق إلي جهنم مفروش بالنيات الطيبة، دون أي قصد أبداً مخالفة للحديث النبوي المعروف «إنما الأعمال بالنيات»، فالقياس مختلف تماماً، حيث نقصد بالنوايا الطيبة هنا: الغفلة، وحسن الظن المفرط، وافتقاد الرؤية البعيدة، وعدم التحسب للنتائج والعواقب.