من أغرب حكايات المماليك فى مصر حكاية السلطان الناصر محمد بن قلاوون، لأنه الوحيد فى تاريخ مصر الذى تولى حكم مصر ثلاث مرات بفوارق زمنية بضع سنوات. لقد كان مُحمد هو الذى يعده السلطان قلاوون لخلافته، لكن الوفاة المفاجئة للعظيم قلاوون أنهت ذلك التخطيط وأدت إلى تولى الأشرف خليل الابن الأكبر حكم مصر، ثُم لم يلبث أن تم اغتياله بسبب دمويته وجنونه، ووقتها لم يجد الأمراء بداً من اختيار الناصر محمد والذى كان عمره تسع سنوات ليتسلطن فى ظل وصاية كتبغا وسنجر الشجاعى وبيبرس الجاشنكير والذين كانوا أهم مراكز القوى فى ذلك العصر. ويرسم المؤرخ الشهير أبوالمحاسن ابن تغربردى ملامح ذلك العصر الذى اتسع فيه الخلاف والصراع بين مراكز القوى لدرجة تجعل استحضار خليفة مكروه أو طفل حلا لوضع حد للصراعات بين الأمراء. لذا فإن الطفل الصغير الذى صار سلطانا لم يمر عليه عام حتى عُزل من قبل أوصيائه. ومع تجدد الصراعات والحروب السرية بين مركز القوى قُتل سنُجر الشجاعى، ثُم لحق به كتبغا ووجد الأمراء ضالتهم فى حسام الدين لاجين والذى كان متزوجا من ابنة قلاوون. لكن حتى ذلك الأمير انتهى به الصراع سريعا قتيلا فى صلاة العشاء، وهكذا لم يجد أمراء المماليك حلاً سوى اعادة الناصر محمد سلطانا مرة أخرى وكان عمره وقتها قد بلغ خمسة عشر عاما. فى الولاية الثانية حاول بيبرس الجاشنكير والأمير سلار السيطرة على الحُكم وحبسا الناصر محمد فى قصر صغير وعينا له تموينا محددا، لكنهما اختلفا مرة أخرى ودارت مساجلات ومؤامرات بينهما. ويبدو أن الناصر محمد قد ضاق ذرعا بتلك المؤامرات، لذا فقد تخفى وهرب إلى الكرك، وهناك أعلن تنازله تماما عن السلطنة. ومرة أخرى تجددت الحروب بين مماليك الأمراء وخيم شبح الحرب الأهلية على مصر، واجتمع عدد من الأمراء وقرروا اعادة الناصر محمد بن قلاوون للحكم بأى ثمن وذهبوا بالفعل إليه مُبايعين، وكان الثمن فى هذه المرة هو رأس اثنين من مراكز القوى الكبار وهما سلار وبيبرس الجاشنكير. وطبقا لرواية «النجوم الزاهرة» فقد تم اغتيال بيبرس الجاشنكير بسهم أطلقه مجهول، بينما قبض الأمراء على الجاشنكير وتم سجنه. وقرر الناصر محمد الانتقام من الأمير سلار بطريقة سادية فحكم بموته جوعاً حيث ألقى فى السجن دون طعام لعدة أيام. وكان السلطان يُرسل إليه كُل يوم ثلاثة أطباق مُغطاة، فيكشفها ليجد فيها قطعا ذهبية فيبكى. وامتدت الولاية الثانية للناصر محمد لنحو ثلاثين عاما اشتهر خلالها بالشجاعة والصرامة والدهاء، وتوفى عام 441 هجرية الموافق 1340 ميلادية.