لم يكن يعلم أنه على موعد مع الشهرة على نطاق العالم العربي، حين اختار الموسيقار محمد عبد الوهاب في العام 1967 قصيدته "هذه ليلتي" ورشحها إلى كوكب الشرق أم كلثوم لتغنيها في العام التالي، لتجوب شهرته الآفاق، ويصبح ذائع الصيت لبنانيًا وعربيًا. القصيدة التي غنتها سيدة الغناء العربي في العام 1968، فتحت أمامه أبواب المجد على مصراعيها، وجعلت مشاهير الفن في لبنان ومصر، يلتفون حوله، مثل فيروز والأخوين رحباني ومحمد عبدالوهاب ونصري شمس الدين ورياض السنباطي ووديع الصافي. عشق شخصية الإمام علي بن أبي طالب، وكرَّس جُل حياته وهو المسيحي الماروني لوضع موسوعة كاملة عنه، تحت عنوان "الإمام علي صوت العدالة الإنسانية" في خمسة أجزاء، هي "علي وحقوق الإنسان" و"بين علي والثورة الفرنسية" و"علي وسقراط" و"علي عصره" و"علي والقومية العربية"، ثم أتبعها بملحق كبير بعنوان "روائع نهج البلاغة".. إنه الأديب والشاعر اللبناني جورج جرداق. ولد جورج سجعان جرداق عام 1931، من والد يعمل مهندس بناء، "في بقعة سكانها عرب حقيقيون، يتحدرون من أسر عربية عريقة. كان جورج الصغير يهرب من المدرسة، بحثا عن عين ماء من عيون السهل الشرقي تلك التي سمي المرج باسمها "مرج عيون"، فينتقي صخرة تحت شجرة تظلله، ليحفظ شعر المتنبي، وفقه اللغة العربية في مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي. عندما اشتكت المدرسة من فراره الدائم، حاول ذووه معاقبته، فتدخل شقيقه فؤاد معللًا: "إن ما يفعله جورج يفيده أكثر من المدرسة". بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق ب"الكلية البطريركية" عام 1949. منذ ذلك الحين، سكن بيروت وسكنته، من دون أن ينفي ذلك حنينه إلى الجذور وتواصله مع الأهل والأصحاب في "الجديدة". كان اختياره الكلية البطريركية "ذائعة الصيت" حاضنة خصوبة فكره وذاكرته، وفي هذه الأجواء، كان من البديهي أن يؤلف جرداق كتابًا في سن مبكرة، حيث كتب في الثامنة عشرة من عمره، باكورته "فاغنر والمرأة" عن الموسيقي والفيلسوف الألماني عام 1950. ونظرًا إلى أهمية الكتاب، قرر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي إدراجه ضمن لائحة الكتب التي يجب على طلاب الدكتوراه في الأدب قراءتها بإمعان. في عام 1953 بعد تخرجه من الكلية البطريركية، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية من جهة، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت من جهة أخرى. استهل عمله الصحافي في مجلة "الحرية"، ويقول عنها: "كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرر مقالات وأوقعها بأسماء صارت لاحقا معروفة لدى أصحاب الصحف، حتى إن أحدهم طلب مني أن أعمل عنده، فرفضت". عملا أيضًا في مجلة "الجمهور الجديد" وانتقل إلى "دار الصياد" عام 1965، وعمل في مجلة "الشبكة" وفي صحيفة "الأنوار"، ولا يزال أحد أركان الكتابة في منشورات "الصياد" حتى وفاته قبل أيام. قدم جرداق عددًا من البرامج الإذاعية، ونال الكثير من الجوائز والتكريمات، كان آخرها مؤسسة "عبدالعزيز البابطين" التي منحته جائزة الإبداع الشعري لعام 2014، ولكن مرضه الأخير حال دون سفره إلى الحفل الذي أقيم الشهر الماضي في مراكش لتسلم الجائزة التي تبلغ 50 ألف دولار. برحيل جورج جرداق، خسر لبنان والعالم العربي علماً من أعلامه الثقافية والأدبية، حيث كان وسيظل منهلاً ومرجعاً لكل مثقف لبناني وعربي. رحل بعد أن ترك بصمته الخاصة في الحياة الثقافية، التي ستبقى مدوية، لأنه خسارة للفكر الإنساني، حيث كان واحدًا من أهم دعاة الوحدة الإنسانية والتعايش، وعابرًا لحدود المذاهب والطوائف.