بدلاً من أن يتفرغ القذافى ليجد حلاً لمشكلة الثورة فى ليبيا، يوفر له مخرجاً آمناً هو وأسرته، ويصل إلى حل يرضى مطالب المجلس الانتقالى فى ليبيا، لكى تتوقف ضربات حلف الأطلنطى لقواته وللشعب الليبى على سبيل الخطأ أحياناً.. وإذا به يترك هذا كله فى مخبئه بحى العزيزية.. ويتفرغ لبث تسجيل صوتى يدلى فيه برأيه فى ثورة يوليو 1952 فى مصر.. ويعلق على ثورة يناير الديمقراطية التى أطاحت بحليفه الرئيس السابق مبارك.. ويمر مروراً عابراً على أحداث الثورة فى ليبيا وتونس!! كالعادة.. كان رأى القذافى مستفزاً لمشاعر المصريين، وجاء تكراراً لنغمة قديمة تتلخص فى فشل الثورات العربية سواء فى مصر أو تونس أو ليبيا. وفى كلمته المسجلة دعا القذافى المصريين إلى وقف الاعتصامات والتظاهرات وإعادة الرئيس السابق مبارك إلى الحكم لكى يحكم المدة الباقية له ويتم مدته ويختاروا رئيساً آخر إذا كانوا لا يريدونه، كما أكد أن مبارك كان رئيساً وطنياً، قدم الكثير من التضحيات لمصر ولم يكن يستحق تلك النهاية، وكان يجوب العالم شرقاً وغرباً لكى يشحت للمصريين ويوفر لهم حياة كريمة، وقال إنه لم يكن هناك داع لكل ما جرى فى مصر منذ يناير حتى يوليو الجارى، لأنه إذا كان المصريون يريدون انتخاب عمرو موسى رئيساً لهم، فإن الدكتورة نوال السعداوى أفضل منه!! وتعليقاً على أسلوب الحكم المناسب فى مصر الفترة المقبلة، دعا القذافى المصريين إلى الأخذ بأسلوب اللجان الشعبية فى ليبيا، لكى يحكم المصريون أنفسهم بأنفسهم، أسوة بما تم فى ليبيا السنوات الماضية!! لقد توقفت طويلاً أمام كلمة القذافى، وأجد أن مأساة الزعيم الليبى مازالت مستمرة.. .. أفكاره مازالت كما هى.. لم تتغير، رغم كل ما جرى من ثورات فى الوطن العربى، بعد مرور 42 عاماً على ثورة الفاتح من سبتمبر 1969، مازال القذافى بنفس أفكاره القديمة الخليقة من الثورات العالمية والفلسفات الإنسانية، والتى جعل الكتاب الأخضر عنواناً لها، وكانت نتيجة وحصاد تلك الأفكار والقناعات، ما يحدث فى ليبيا الآن من ثورة إلى مؤامرة إلى مخططات دولية لتقسيم ليبيا سيكون ضحيتها الأولى هو القذافى شخصياً. والراصد لعلاقة القذافى بمصر، يجد أنها علاقة متوترة.. غامضة.. ملتبسة.. أصدق وصف لها هو عنوان فيلم «غرام وانتقام» للراحل يوسف وهبى وأسمهان، مأساة القذافى الحقيقية أنه عاش يحلم بالوحدة مع مصر دون مقدمات أو شروط أو تدريج أو قواعد بروتوكول وعندما قامت ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 أيد الزعيم عبدالناصر الثورة وقال للقذافى أراك أمين القومية العربية من بعدى، ولا أدرى هل كان الزعيم الراحل يجامل الزعيم الليبى باعتباره ثورياً مثله؟ أم أن التحول فى شخصية القذافى لم يكن قد حدث بعد فصل الثورة والثروة، المهم أن تلك العبارة العابرة هى سر مأساة القذافى الحقيقية التى يعانى منها الآن، لأنه اعتبر نفسه أميناً للقومية العربية فعلاً، وبعد وفاة عبدالناصر حاول أن يترجم الحلم إلى حقيقة، فاصطدم بتيار السياسة الجارف المتلاطم الأمواج، فى منطقة تتقاطع فيها الزعامات الإقليمية مع مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا لتأمين البترول وحماية إسرائيل وعدم قيام الوحدة العربية أبداً. وحاول القذافى أن يجرب حلم الوحدة مع مصر أيام السادات نقيض عبدالناصر وفشل، ومن يومها انقلب إلى أكبر عدو له، وراح يدبر له مؤامرات الاغتيال الواحدة تلو الأخرى، وجن جنونه حين وصفه السادات ب«مجنون ليبيا» أو «الولد المجنون»، ولم يكن الوصف بعيداً عن الواقع، لسلوكيات القذافى الشاذة، ولأنه أودع فعلاً إحدى المصحات النفسية بالمقطم بعدما اكتشف مؤامرة لقلب النظام ضده من أقرب أصدقائه.. أدرك القذافى بفطرته أن حلم الوحدة مع مصر أو الوحدة العربية عموماً، مات بعد رحيل عبدالناصر، فاتجه إلى إفريقيا بعدما اصطدم بحكام الخليج، وعندما تولى مبارك الحكم فى مصر، أدرك مفاتيح شخصيته وحلمه بالزعامة، فلم يصطدم به، بل راح يبارك خطواته كعميد للحكام العرب وملك ملوك إفريقيا!! وإذا كان القذافى يخوض الآن حرباً خاسرة ضد قوات التحالف الدولى، ونحن نرفض التدخل الدولى فى الثورة الليبية، فإنه حقيقة سقط ثلاث مرات من قبل، والمرة الأولى عندما أعدم صدام حسين بعد الغزو الأمريكى للعراق حيث قال القذافى إن الدائرة ستعود وأن صدام لن يكون آخر الزعماء الذين سيتم التخلص منهم، وسقط القذافى فى المرة الثانية يوم هروب الرئيس التونسى بن على إلى السعودية والمرة الثالثة يوم 11 فبراير الماضى حين تنحى مبارك عن الحكم ونجحت الثورة الديمقراطية فى الإطاحة به. الشىء المؤسف أن ليبيا راحت ضحية أحلام العقيد القذافى الخيالية من النهر العظيم إلى الثورة العالمية إلى البرنامج الثورى، كما راحت ضحية حكمه المستبد هو وعائلته رغم أن ليبيا بثرواتها الهائلة كان يمكن أن تصبح سويسرا العرب، ولكن خيالات القذافى وضلالاته حولتها إلى بركة دماء تنعق فيها البوم، ونحن ندعوه أن يترك ثورة يوليو 1952 والمصريين وشأنهم، وأن يتفرغ لحل مشكلة ليبيا، وأن يدرك أن زمنه انتهى إلى غير رجعة!!