سكان المقابر شبكة متصلة بين الحياة والموت ما أقرب التشابه بين الحياة فوق الأرض وتحت الأرض، بالنسبة للمعاناة التى يعيشها هؤلاء فى انتظار الموت, الذى يعد بالنسبة لهم المُخَلص المنتظر. المشكلة أن سكان المقابر يزدادون يوماً بعد آخر مع ازدياد نسبة الفقر فى مصر، ورصد أول إحصاء أن عدد سكان المقابر عام 1898، بلغ قرابة (35) ألف نسمة، وبعد عقود قليلة أشارت الإحصاءات المختلفة إلى زيادة عددهم، ففى تعداد 1947 بلغوا نحو (69) ألفاً، وفى عام 1966 وصل عددهم إلى (97) ألفاً، وفى عام 1986 زاد عددهم 82 ألفاً، ليصبح (180) ألف مواطن مصرى يعيشون مع الأموات، وحسب الإحصائية الصادرة عن الجهاز المركزى للمحاسبات فى عام 2008 هناك 1.5 مليون مصرى يعيشون فى مقابر السيدة نفيسة ومقابر النصر والبساتين والتونسى والإمام الشافعى وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثى، وجبانات عين شمس ومدينة نصر. وأخيراً اعترفت الحكومة المصرية أن شركاء الأموات فى المقابر وصل عددهم إلى 2 مليون مصرى. ويبقى السؤال: كيف يعيش سكان المقابر؟ ما هى أبرز همومهم اليومية؟ وما هى جهود الحكومة لتخفيف الأعباء عنهم وحل مشاكلهم؟ ذهب فريق «الوفد» إلى مقابر البساتين لإلقاء الضوء على ظلمة الحياة هناك. المكان يبعث على الكآبة والوجوم مجرد دخوله، وهو نموذج يجسد معاناة المهمشين فى مصر، الحياة يخيم عليها الموت من كل جانب، هنا أحلام تولد وتموت وتدفن مع أصحابها فى نفس البقعة من الأرض، أحلام سكان المقابر تحاصرها «أربعة جدران» ينفذ منها هواء برائحة الموت. حديثنا مع «أحمد سعيد» 64 سنة يثبت لنا بالدليل المادى أن حلمه فى الخروج من المكان قد مات، لظروفه الصعبة مات الأمل بداخله منذ عقود، وترك روحه وحيدة بلا حلم تتحمل عبء جسده الثقيل إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولاً. ويتساءل «سعيد»: بأسى «هو فين الموت»، معتبراً أن الموت امتياز لم يحصل عليه حتى الآن، لذا فأموات المقابر أكثر راحة من أحيائها، بعد أن وجدت أرواحهم الخلاص، وتحررت من أجسادهم وشقائها. ويحكى لنا سعيد عن مأساته، وكيف انتهى به الحال إلى اليأس فى الخروج من المقابر قبل أن يدفن بها، قائلاً: «كان حلماً وانتهى» جاء سعيد من المنيا إلى مقابر القاهرة، ولم يتعد عمره السبع سنوات، جاء مع أبناء عمومته هرباً من الفقر, وراجياً فى الحياة الكثير، عمل سعيد فى الكثير من الأعمال البسيطة، التى اخترقت طفولته طولاً وعرضاً، ولم تحترم صغر أنامله، ودقة أطرافه, حتى تحول إلى رجل صغير «مسخة» على حد تعبيره، مرت سنوات طويلة دفنت خلالها طفولته، وبقى الأمل فى سنوات الشباب، عمل سعيد سائقاً وتزوج وأصبح أباً لأربعة أبناء، ومازال فى المقابر وكيف يخرج منها وهو بالكاد ينفق على أطفاله الأربعة. وهنا توقف حلم الخروج من المقابر على قدميه، أو حتى على نقالة. ربما يمكننا تقبل فقدان الأمل فى خروج سعيد من المقابر لكن الغريب أنه بعد مرور 60 سنة من مأساته قدر له أن يرى أحفاده يعيشون نفس الظروف، ويتذوقون معاناة الحياة فى المقابر. مأساة الحفيد «ميدو» هو الحفيد الذى كتب له أن يكون بطل مأساة جده، والتى يزيد عمرها على 60 عاماً، هذا ما تخيلناه لكن الحقيقة أن مأساة الحفيد تتفوق على مأساة الجد، ف«ميدو» يعيش طفولة يسير فيها المرض جنباً إلى جنب مع الفقر، وقلة حيلة الوالدين، وفى ظل حكومات متتالية لا تنظر إليه وأمثاله بعين الاعتبار يعانى ميدو مرض السكر ويبحث مع والدته يوميا عن العلاج المجانى، وإلا فالتسول وانتظار الإحسان ليضمن يوماً جديداً فى الحياة، وإن كانت بين الأموات. فى أحضان مدافن الدكتور «يوسف بك بدر الدين» - الذى رحل فى الثمانينيات كما هو مذكور على شاهد قبره - ينعم بالراحة الأموات، وتعيش الحشرات والكلاب وكذلك «ماهر وعائلته»، ماهر قناوى يعيش فى المقابر منذ 50 عاماً، ويعتبر هذه الحياة نعمة من الله بعيداً عن الناس الذين تحركهم الأطماع، ويقضون حياتهم فى تدبير المكائد لبعضهم البعض، استسلم قناوى للعيش فى المقابر متخذاً هذه الحجج سنداً له، أمام عائلته وتبريراً لعجزه عن الخروج من المقابر. فقد حاول قناوى كثيرا أن يحصل على شقة أو حتى غرفة صغيرة فى أى بقعة لا يسكنها الأموات، لكن «ما باليد حيلة»، وهو عامل بسيط يعمل على سد جوع 4 بنات وأمهن، وغير قادر على شراء شقة أو حتى تأجيرها. مما جعله لقمة سائغة فى أيدى باعة الوهم. لقد قدم «قناوى» لنا كومة من الأوراق التى دفع مقابلها مئات الجنيهات لكل من يأتى إليه بكذبة عن شقق الإسكان الشعبى. ويقول قناوى بأسى: «لو جالى رئيس الجمهورية وعرض علىّ شقة مش هصدقه». مدافن الطحاوية بابتسامة مشرقة وسط عالم الغروب استقبلنا الطفل «أحمد» فى مدافن الطحاوية كان يحاول استعادة كرته من فوق منزل المقبرة غير عابئ بمن تحته، فهو يعلم بوجود الأموات، ولا يخشاهم قالها ببراءة شديدة «أنا بلعب عندهم على طول ومبيخدوش الكرة منى». ربما رسالة أحمد شديدة الشبه برسالة قناوى لنا عن حسن جيرة الأموات وتفضيلها عن جيرة الأحياء خارج المقابر، فالطفل أحمد يعيش خارج المقابر، فى شقة صغيرة فوق السطح، لا يستطيع اللعب بحرية إلا عند جده فى المقابر، تقول «أم أحمد» إن الحياة خارج المقابر ليست أفضل كثيراً من الحياة فى المقابر، غير أنها أكثر ضجيجاً، وتضيق بأصحابها، عاشت أم أحمد قبل زواجها فى المقابر.وكانت تتمنى أن تخرج لتعيش بين الأحياء إلا أنها صدمت بالواقع المر، إن مصر مليئة بالمهمشين، وأن سكان المقابر لا ينفردون بالعذاب عن غيرهم، كما أن أولادها ليسوا أسعد حظاً منها فهم يعيشون طفولة قاسية، ويعانون الحرمان من اللهو والتجول فى الشارع، خاصة بعد انتشار حالات الخطف واختفاء الأطفال فلا تجد أم أحمد الأمان إلا عند الأموات. أما «هيام عبد الحميد» 49 سنة، حاصلة على دبلوم تجارة وأم لثلاث بنات، فهى تؤمن بثورة 25 يناير، وتتحدث وكأنها أحد أبطالها، وتنتظر تحقيق العدالة الاجتماعية، فهى مازالت تعيش وسط الموتى بعد مرور 4 سنوات على الثورة إلا أن تحقيق حلم الخروج من المقابر مسئولية القائد، مشيرة بذلك إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، مؤكدة أن الفرق بينها وبين الميت هو قدرتها على الحلم من أجل مستقبل أفضل لها ولأسرتها. فالحياة فى المقابر طالها الممل والإحباط، ويسيطر عليها تجار المخدرات, والبلطجية، فبعد غروب الشمس تختبئ السيدات والبنات داخل الأحواش خوفاً من متعاطى المخدرات والمنحرفين الذين يتخذون المقابر ملجأ لهم فى الليل، أما اللصوص فيطرقون أبوابنا لإثارة الرعب بداخلنا، وفى كل مرة نفتح فيها الباب لا نجد سوى الظلام، ونتظاهر بالسعادة، والرضا مدعين أننا أكثر إيمانا من غيرنا. لكن الحقيقة أننا مغلوبون على أمرنا، والفرق بينى وبين غيرى أننى مازلت أشعر بشبابى قادماً فى مستقبل بناتى، ولابد أن أطالب بحقهم فى حياة كريمة، لا تنتهك طفولتهم كما هو الحال فى المقابر. «محمد فاروق» شاب عمره 32 سنة اختفت ملامحه المصرية تحت ملامح البؤس والشقاء، ولد محمد فى المقابر وعاش ثلاثة عقود كالأموات مع أمه وأخيه، وفى يوم من الأيام خرج محمد إلى العمل وعاد ليجد أمه وأخاه الأكبر احترقا، بعد أن اشتعلت بهما النيران، واتحد رفاتهما مع رفات الأموات فى المقبرة، وأغلق الحوش بعد الحريق على الجثث الحديثة، والقديمة، حينها قرر محمد الهروب من المقابر وحاول العيش بين الأحياء لكن سرعان ما عاد أدراجه، بعد أن يئس فى الحصول على مسكن غير المقابر. يعيش محمد فى إحدى مقابر البساتين، يتكون مسكنه من غرفة واحدة مظلمة فيها: سرير وبوتاجاز وخزانة ملابس وكنبة أنتريه متهالكة، وخارجها مرحاض مثير للاشمئزاز، وغسالة تستند إلى أحد الأركان، وحبل ممتد من الشاهد إلى الحائط حاملا بعض الملابس المنشورة، ويقول: كل الأبواب أغلقت فى وجهى إلا المقبرة احتوتنى، اليوم يبدأ بمآس وينتهى بمآس. «سعدية عبد الخالق» 40 سنة هجرها زوجها وتشرد أبناؤها الثلاثة بعد مرضها وبقيت وحيدة تصارع الموت الذى لا يرحمها حتى الآن. كل ما تتمناه سعدية أن يسكن عنها الألم، بعد أن أصيبت بتليف كبدى، وغيره من أمراض الشيخوخة المبكرة، لا تحصل سعدية على علاجها لذا تلجأ إلى المسكنات أو بالأحرى على المخدرات حتى تعجل من موتها بدون ألم، ولأول مرة يتصدق تجار المخدرات, على امرأة تحتضر. «عم طه» رغم جهله، إلا أنه رجل الدين فى مقابر ناصر وملجأ الباحثين على الصبر. لا يخشى عم طه من المقابر, فيجد فى نهارها الوعظ، وفى ليلها الاطمئنان ويقول: «تعودنا على الموت، فكبرنا ولعبنا معه, فالحياة هنا هادئة وسهلة، وعندى انتماء للمكان، ولا أرغب فى الاختلاط بالفوضى والسيارات، لأنى أتوه وسط الأحياء. ويتمنى «طه» لأحياء المقابر أن يأخذوا فرصتهم فى الحياة، فهذا أبسط حقوقهم فى الحياة، فليس كل البشر مثله يعيش فى المقابر راضياً، وشاكراً هذه النعمة. إلا أنه مشغول دائماً بمشاكل الناس وهمومهم، كما أنه مسئول عن توزيع المهام فى المقابر بين شبابها التُّربية. كما أنه مسئول عن توزيع أموال الصدقات على سكان المقابر. بيت صغير «منى محمد» 23 سنة، رغم ما تتمتع به من جمال وحيوية إلا أنها رضيت بالعيش فى بيت صغير يطل على المقابر منذ زواجها، لا يشغلها التفكير فى المسكن أكثر من تفكيرها فى مرآتها المعلقة على أحد الشواهد، وطريقة وضع مكياجها، وألوان ملابسها، أهم لديها من الطعام وكيفية الحصول عليه، تتباهى منى بشبابها وحيويتها أمام الأموات، فهى تعيش رغم الموت, هذا ما قالته عنها حماتها العجوز «نفيسة عبد الله» 75 سنة، التى ترى أن منى «سرقاها السكينة» وجمالها يلهيها عن واقعها القاسى، فمع مرور الوقت ستشعر منى بملل الموتى يتسلل إلى جسدها الجميل، وحزن الزوار يخترق ما تدعيه من سعادة. بقى أن نذكر أن عالم المقابر تخرج منه ولا تعلم من المحظوظ فيه. الموتى أم الأحياء؟!