ما أحوجنا إلي منهج فكري واضح، ونحن علي أعتاب المنعطف الأخير من خارطة المستقبل، بموجبه نولي جميعاً وجوهنا شطر مصالحنا الوطنية العليا، لا تشغلنا منافع ذاتية ضيقة، لا تتسع لمجمل الطموحات الثورية المشروعة التي نادت بها الملايين الثائرة، وأعلت بها من قدر الثورة المصرية المُلهمة، وقد انفجرت ثورة قيم إنسانية سامية، لا ثورة جياع كما حلا للبعض التقليل من شأنها، ومن حرصها علي إرساء قيم إنسانية لا تكفل لهم حق العودة.! فإذا ما صح الاتجاه صوب مصالحنا الوطنية العليا، فإن الأهداف باتت واضحة لا لبس فيها يبرر الإخفاق في تحقيقها، ولا غموض يحيط بها يتيح لأعدائها التسرب إلي صدارة المشهد، ودون ذلك فلنا أن نصغي جيداً إلي أصداء صناعة قديمة، نعيد بها إنتاج أسباب ثورتنا.! فعلي طريق مصالحنا الوطنية العليا، لابد وأن نلحظ ملامح مؤكدة تشير إلي عملية تحول ديمقراطي حقيقي، نعمل خلالها علي صياغة مجموعة جديدة من المعايير الموضوعية، بموجبها يتم تجديد النخب السياسية، وإعادة رسم العديد من الأدوار الفاعلة علي الساحة السياسية، بل والمجتمعية بشكل عام، فضلا عن إعادة ترتيب أولويات العمل الوطني بما يتفق والمطالب الثورية. ولا سند من واقع لمختلف الخطوات السابقة، إن لم ترتكز جهودنا إلي منهج فكري يؤسس لقيم مجتمعية جديدة، تتبني مفاهيم لطالما انطلقت منها عمليات التحول الديمقراطي في مواقع شتى، عبر مسيرة المد الديمقراطي الذي ساد الساحة الدولية في العقود الأخيرة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلي حساب ما عداه من قيم مجتمعية جامعة، يأتي «العمل المؤسسي» كمؤشر واضح علي ضبط اتجاه العمل الوطني باتجاه تحقيق عملية تحول ديمقراطي حقيقي؛ فليس إلا «العمل المؤسسي» يؤكد حتمية توافر معايير الحكم الرشيد، كسبيل وحيد لبناء دولة ديمقراطية حديثة. فدون شفافية، تتيح انسياباً في حركة المعلومات داخل المجتمع، وفي غياب المراقبة والمساءلة والمحاسبة، لا يستقيم كل حديث عن سيادة القانون؛ ومن ثم تفتقر التجربة إلي إرادة سياسية حقيقية، ننشئ في ظلها دولتنا الديمقراطية الحديثة العادلة، الكفيلة بتجسيد مجمل مبادئ وأهداف الثورة. فإذا ما دفعنا بالأمور بعيداً عن «العمل المؤسسي»، وتباري البعض في محاولات النيل من الأحزاب السياسية، طعناً بأدوات وحجج بالية ترتد إلي عقود مظلمة، فإن تقدماً ملموساً علي طريق عملية التحول الديمقراطي، يظل محل شك كبير، وهواجس قوية من ردة إلي سابق الأحوال لم يعد لنا أن ننكر مشروعيتها، بل وجدارتها بالدرس والفحص. فليس «العمل المؤسسي» يخرج إلا من رحم القيم الديمقراطية، دفعاً باتجاه استنهاض مختلف القوى الوطنية المخلصة، علي حساب مفهوم الفرد القائد الأسطوري الفذ، كمفهوم متخلف، لم تلحق به تجربة ديمقراطية حقيقية، حين ساد الفكر الإداري في بداية القرن التاسع عشر، بموجبه يختفي الكل وراء القائد، وتزول نجاحاته، إذا ما كانت له نجاحات، برحيله عن موقع القيادة، وفي وجوده تتواري كوادر وكفاءات، أجدر بنا أن نفسح لها الطريق لتتبوأ موقعها في خدمة الوطن. ولا شك أن «مؤسسية الدولة»، باتت سمة أساسية من سمات الدولة الديمقراطية المعاصرة، وهو أمر ينبغي أن يترك صداه علي مختلف محاور العمل الوطني، وعلي كافة المستويات؛ فليس لنا أن نثق في قدرة مؤسسات دستورية، لم تتأسس وفق مفهوم «العمل المؤسسي»، واتخذت من الفرد الفذ سبيلاً إلي التعبير عن إرادة شعبية حرة، فذلك أمر ليس علي صلة بالدرس التاريخي المقارن. «مؤسسية الدولة» إذن لا يمكن عزلها عن سيادة مفهوم «العمل المؤسسي» بشكل عام؛ فإذا ما أنكرنا علي الأحزاب السياسية دورها في صياغة مختلف الاتجاهات المجتمعية، وكرسنا في الثقافة الشعبية مفهوم الفرد الفذ، فإن تضارباً واضحاً قد شاب ما نستند إليه من منهج فكري. «الوفد»