تزايد أواسط سبعينات القرن الماضي اهتمام المفكرين والإعلاميين الأمريكان والأوروبيين بالإسلام، لما بدا من تزايد طردي للمسلمين في أمريكا وأوروبا . سواء منهم المهاجرون من الوطن العربي والأقطار الإسلامية، أو الذين تحولوا للإسلام اقتناعاً بعدله وتسامحه واستنارته. وتزامن ذلك مع بداية تراجع فعالية الاتحاد السوفييتي كقطب منافس للنظام الرأسمالي بقيادته الأمريكية، ما بدا كأن صناع القرار الأمريكي على وشك أن يفقدوا الفزاعة الشيوعية التي وظفوها من قبل نهاية الحرب العالمية الثانية في تجييش الرأي العام الأمريكي والأوروبي في دعم مشروعهم الكوني . وعليه بات على المفكرين الاستراتيجيين على جانبي الأطلسي اختلاق عدو جديد تسلط عليه الأضواء . وفي العام 1977 طرح زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد كارتر، كتاباً لقي رواجاً كبيراً حذر فيه من خطورة الإسلام والمسلمين على المصالح ونمط الحياة الأمريكية وما سمي "الحضارة اليهودية - المسيحية" . وضمن هذا السياق ينظر في الهجمات على برجي التجارة العالمية في نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن، يوم 11 سبتمبر/أيلول ،2001 التي اتهم بارتكابها تنظيم "القاعدة" . وحينها سلطت الأضواء على القاعدة باعتبارها تنظيماً إسلامياً متطرفاً، فيما كثفت الظلال على كونها جماعة إرهابية، سبق لوكالة المخابرات المركزية أن أشرفت على تنظيمها وتدريبها وتوفير الخدمات اللوجستية لنقل ستين ألف شاب عربي مسلم للقيام ب"الجهاد" ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان، من دون أن يتطوع ستة منهم لقتال "إسرائيل" مغتصبة القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومعراجه . وبرز حينها أكثر من باحث أمريكي وأوروبي مختص شكك في قدرة "القاعدة" على امتلاك الخبرة التقنية اللازمة لتنفيذ تلك الهجمات بالدقة التي نفذت بها . ونظر لأؤلئك الشباب الذين شاركوا في تنفيذ تلك المهمة فائقة الدقة على أنهم مجرد أدوات تنفيذية سخروا في إكساب هجمات سبتمبر/ أيلول المظهر "الإسلامي" الذي كان مطلوباً أن تظهر به، من دون أن يكون لهم دور عملي في التنفيذ . ونما دور "القاعدة" في خدمة المخططات الأمريكية، خاصة في المشرق العربي، فمنذ غزو العراق وتولي المندوب الأمريكي السامي بريمر تفكيك جيشه الوطني، وفرض المحاصصة العرقية والطائفية نظاماً "ديمقراطياً" للنخب التي جاءت على ظهور الدبابات الأمريكية، ووضع العضو المؤسس لجامعة الدول العربية على عتبة التقسيم العرقي والطائفي، برزت "القاعدة" في أرض الرافدين ناشطة في تنفيذ عمليات انتحارية، استهدفت بصورة رئيسية المساجد والمدارس والمآتم والجيش والقوات الأمنية، في ممارسات عدوانية شبه يومية، تحمل بعداً مذهبياً صارخاً، وموقعة عشرات الضحايا من المدنيين الأبرياء بما يأباه عدل الإسلام ورحمته . محققة بوعي من قيادتها و"أمرائها" أو لا وعي، لأعداء العراق وأمته العربية أكثر من هدف استراتيجي في وقت واحد . فهي من جهة أولى قدمت، ومازالت، لكل أعداء الإسلام والمسلمين على اختلاف عقائدهم وجنسياتهم، صورة شوهاء للإسلام، الدين والحضارة والتاريخ، ما يخدم ادعاءاتهم ودعاواهم، ومن جهة ثانية قدمت خدمة جلى ل"إسرائيل"، العدو التاريخي لشعب العراق وأمته العربية بالتفجيرات شبه اليومية التي اقترفتها في مدن العراق، ما أسهم، ولا يزال، في إعاقة تعافي العراق واستعادته فعاليته الوطنية ودوره القومي . ثم، أليست "إسرائيل" هي المستفيدة الأولى، وإن لم تكن الوحيدة، من دور "القاعدة" في تدمير بنى سوريا التحتية، وإنهاك جيشها صاحب الدور القومي المعروف؟ فضلاً عن دور "الموساد" الذي بات معلناً في العمليات التكفيرية في شمالي سيناء وعلى مشارف رفح، وتخوم قطاع غزة المحاصر ما يسهم في العدوان الآثم على مصر، العمق الاستراتيجي لقطاع غزة، المرتبط عضوياً أمنه واستقراره بأمن مصر، واستقرارها واستعادتها فعاليتها الوطنية ودورها القومي في التصدي للغزاة . وليست الإدارة والأجهزة الأمريكية، بما لديهما من أقمار تجسس تجوب أجواء العالم على مدار الساعة، وأجهزة تنصت واستشعار فائقة القدرة، بالعاجزة عن رصد موقع أيمن الظواهري، مرشد القاعدة ومفتيها الأول، وبقية أمرائها وعناصرها في عموم الوطن العربي . كما أنها ليست بالعاجزة عن تصفيتهم حيث وجدوا . ولكنها لا ترى ما يخدم المصالح الأمريكية، و"الإسرائيلية" بالتبعية قتل الدجاجة التي تبيض ذهباً، بدورها في تراكم المكاسب الأمريكية، دون أدنى تكلفة مادية أو معنوية . إذ "القاعدة" بكل ما تقترفه في عموم الوطن العربي، تقوم بالدور الذي يخدم المصالح الأمريكية وأمن "إسرائيل" بمقاتلين مسلمين، رافعي شعارات إسلاموية تدعو للجهاد المقدس ضد الأمريكان والصهاينة . وليس بين توابع أمريكا من أسهم في تنفيذ استراتيجية "الفوضى الخلاقة" ومخطط التفتيت العرقي والطائفي، كما فعلت، ومازالت تفعل، القاعدة والتنظيمات والمنظمات المنبثقة عنها متعددة الأسماء وجنسيات عناصرها . غير أن التكفيريين، برغم ممارساتهم الإجرامية المدانة، وجهل قياداتهم المريع بحقائق الإسلام، قدموا من حيث لا يعون ولا يدركون، ولا يعيه ويدركه موجهوهم على اختلاف مواقعهم وجنسياتهم، خدمة للإسلام لا تقدر، إذ أبرزوا الرؤى والممارسات التكفيرية بأجلى صورها، ما يدفع باتجاه تقديم الاستجابة الواعية للتحدي الذي يشكله التكفيريون . ألا وهي الإقدام على تقديم الصورة الأكثر استنارة للإسلام، الدين والحضارة والتاريخ، وتلبية احتياجات المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالقراءة الموضوعية للنصوص من الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام التي يحتاجها المسلمون في زمنهم الراهن . كما كان قد أبدع فقهاء عصر التدوين ما لبى حاجات المجتمع في ذلك الزمن . الأمر الذي قصّر في تقديمه شيوخ جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، الذين لم يجاوزوا إعادة إنتاج ما سبق وقدمه المبدعون الأوائل، ولم يرتقوا للعمل بما شرعه الرسول الكريم بقوله "أنتم أدرى بشؤون دنياكم" من دون تنبه إلى أن شؤون دنيا المسلمين في تجدد دائم . نقلا عن صحيفة الخليج