نحن نعيش في عصر العولمة. عبارة أصبحت تقليدية لوصف التغيرات الكبرى التي حدثت في المجتمع العالمي منذ العقد الأخير من القرن العشرين والتي تعمقت آثارها مع بدايات القرن الحادي والعشرين. غير أن هناك عبارة أخرى تصف مشاهد العنف على مستوى قارات العالم المختلفة، هي أننا أيضاً نعيش عصر الإرهاب! ومما لا شك فيه أن ظاهرة الإرهاب الذي كان يمارس في بلاد متعددة على المستوى المحلي تطور بعد ذلك وأصبح إرهاباً عابراً للقارات. ولعل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي قامت بها مجموعة إرهابية إسلامية ضربت معاقل القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية أبرز مثال على الخطورة الفائقة لظاهرة الإرهاب العالمي، والتي ترتبت عليها أحداث تاريخية جسام، قد يكون من أخطرها الغزو الأميركي لأفغانستان والغزو العسكري الأميركي للعراق، والذي ترتب عليه تمزيق نسيج المجتمع العراقي، وإشعال موجات متصاعدة من الإرهاب فيه. غير أن موجات الإرهاب الهادرة أصابت العالم العربي بضرباتها المدمرة. ولننظر إلى العراق الذي تجتاحه الآن حوادث إرهابية كل يوم حيث يتساقط مئات القتلى وعشرات المصابين. أما ما يحدث في سورية فيفوق الوصف، حيث تختلط جرائم النظام بإرهاب الجماعات المسلحة، بحيث أصبحت سورية رمزاً للبلد الذي تنتهك فيه الحقوق الأساسية للمواطنين، وأهمها على الإطلاق الحق في الحياة. ولم تسلم مصر، كبرى البلاد العربية، من ظاهرة الإرهاب، حيث سبق للدولة من قبل أن استأصلت جذوره في التسعينيات بعدما قضت على جماعة «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية»، غير أنه عاد في الفترة الأخيرة وتوحش في سيناء، وسرعان ما امتد لهيبه إلى الوادي، بحيث أصبحت التفجيرات الإرهابية واغتيالات أفراد الشرطة وبعض أفراد القوات المسلحة حوادث يومية. ولا بد هنا –نظراً إلى خطورة ظاهرة الإرهاب- من أن نثير أسئلة أساسية تتعلق بطبيعة المجتمع العالمي الراهن وبالأسباب العميقة الكامنة وراء الظاهرة، وذلك في ضوء نظريات العلم الاجتماعي المعاصرة، سعياً وراء أنجع الوسائل لمقاومتها والحد من آثارها المدمرة. ويمكن القول ابتداء، إنه لا يمكن فهم الظاهرة الإرهابية إلا بوضعها في سياقها العالمي ونعني التوصيف الدقيق للتحولات الكبرى التي حدثت في العالم منذ أواخر القرن العشرين. ولعل أهم هذه التحولات على الإطلاق هو الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الذي عاش قروناً منذ قيام الثورة الصناعية إلى النموذج المعلوماتي العولمي (global information society). ويمكن القول إن هذا النموذج الجديد لم يكن يمكن تخليقه إلا بعد أن قامت ثورة الاتصالات الكبرى بمفرداتها الأساسية، وهي البث الفضائي التلفزيوني، والذي جعل البشر في كل أنحاء الأرض -على رغم تعدد الثقافات- يعيشون أحداث العالم السياسية والاقتصادية والثقافية في الزمن الواقعي لها real time، مما جعل العالم كله متصلاً بعضه ببعض connected. غير أن أبرز إنجازات ثورة الاتصالات على الإطلاق هو اختراع شبكة الإنترنت التي غيرت حياة ملايين البشر، وأثرت على كل دول العالم، بحكم أنها أصبحت المجال العام الجديد الذي تتم في رحابه كل أنواع التفاعلات الاقتصادية والسياسية والثقافية. بل إن الإنترنت سمحت بابتداع صور جديدة من الحملات السياسية المحتجة أخذت شكل «المدونات» blogs التي –بحكم طبيعة الشبكة- أفلتت من حصار الحكومات وقيود النظم السياسية، بالإضافة إلى ظهور ال «فايسبوك» وال «تويتر» أدواتٍ غير مسبوقة للتواصل الاجتماعي والسياسي. حتى أن ثورات الربيع العربي لم تكن لتنشأ لولا اعتمادها عمليات «التشبيك الإلكتروني» في مجال حشد الجماهير ضد النظم السياسية الشمولية والسلطوية. ويبقى السؤال الرئيسي: كيف نفهم عمل مجتمع المعلومات العالمي بما يتضمنه من آليات مستحدثة، وشفرات مبتدعة، وعلاقات جدلية بين المرسل والمستقبل؟ ظهرت نظريات متعددة تحاول شرح كيف يعمل مجتمع المعلومات العالمي. غير أن أبرزها على الإطلاق هي نظرية «المجتمع الشبكي» التي صاغها عالم الاجتماع الأميركي كاستللز في كتابه الشهير «عصر المعلومات» بمجلداته الثلاثة «المجتمع الشبكي» و «قوة الهوية» و «نهاية الألفية». يقول كاستللز في شرح مقتضب لجوهر نظريته المركبة: «لقد نشأ بعد اختراع الإنترنت صراع ثنائي القطبية بين «الشبكة والذات» Self. ويقصد بالشبكة Net التشكيلات التنظيمية الجديدة التي قامت على أساس الاستخدام الواسع المدى للميديا الاتصالية المتشابكة ونماذج التشبيك Networking والتي تميز أكثر القطاعات الاقتصادية المتقدمة، وينطبق ذلك على الشركات الكبرى المتنافسة تنافساً شديداً، وكذلك بالنسبة للمجتمعات المحلية والحركات الاجتماعية، وأبرزها الحركات السياسية الاحتجاجية المضادة للنظم الشمولية والسلطوية، إضافة إلى الحركات الإرهابية بمختلف تنوعاتها، والتي أصبحت تملأ ساحة المعمورة. ومن ناحية أخرى، فالذات Self يُرمز بها إلى الأنشطة التي يحاول فيها الناس تأكيد هوياتهم، وخصوصاً أننا نعيش عصر العولمة الذي يسعى إلى توحيد النظام الاقتصادي العالمي في ضوء فلسفة الليبرالية الجديدة، كما يطمح إلى فرض ثقافة عالمية غربية المنشأ قد تؤدي إلى زوال الثقافات الوطنية المحلية. ومن هنا سيلعب موضوع الهوية Identity دوراً رئيسياً، لأن الناس في مختلف المجتمعات غير الغربية يحاولون صد الاعتداء الثقافي العالمي على هوياتهم الدينية أو الثقافية، بعبارة أخرى الدفاع عن الهوية أصبح هو الوسيلة المثلى ضد موجات العالمية الهادرة التي تحاول القضاء على الخصوصيات الثقافية، وخصوصاً بالنسبة لشعوب العالم الثالث. ومن هنا بزغت تشكيلات اجتماعية جديدة تدور حول الهويات «الأولية» Primary والتي قد يكون تركيزها على الدين أو السلالة أو القومية. وهذه الهويات ينظر إليها دعاتها وكأنها خلايا بيولوجية اجتماعية جبلية غير قابلة للتغيير، وذلك في مواجهة التغيرات السريعة التي يمكن أن تلحق بالآفاق الاجتماعية. وقد صاغ كاستللز تعريفاً دقيقاً للهوية، حين قرر أنها «عملية بناء المعنى استناداً إلى سمة ثقافية ما أو بالنسبة لمجموعة سمات ثقافية تكون لها الأسبقية بالنسبة لمصادر المعنى الأخرى». وقد مُيز بين ثلاثة أنماط للهوية، وهي هوية إضفاء «الشرعية» التي تستند إليها المؤسسات المسيطرة في المجتمع لكي تبسط رواق سيطرتها على باقي الفاعلين، ومثالها البارز إضفاء الشرعية على النظم الشمولية والسلطوية. وهناك هوية «المقاومة»، وينتجها هؤلاء الذين يشعرون أن وضعهم أو ظروفهم تؤدي إلى استبعادهم بحكم منطق الهيمنة، وأبرز مثال لها المقاومة الفلسطينية ضد الدولة الإسرائيلية العنصرية. وتبقى أخيراً هوية «المشروع المستقبلي»، وهي التي تصوغها الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى التغيير الشامل والانقلابي للمجتمع، ومثالها هوية جماعات الإسلام السياسي التي تريد القضاء على الدولة المدنية وإحلال الدولة الدينية محلها. وهذه الجماعات قد تلجأ في مرحلة من مراحل تطورها إلى القيام بالإرهاب الصريح، سواء ضد الدولة أو ضد الجماهير. وهكذا، في ضوء قانون «المجتمع الشبكي» الذي يركز على الصراع بين «الشبكة والذات»، يمكن فهم ظاهرة الإرهاب، والذي هو في الواقع الصراع بين «المجتمع والذات الإرهابية» التي تسعى إلى تغيير العالم ولو بسفك الدماء! نقلا عن صحيفة الحياة