حينما وضعت الحرب العالمية الأولي أوزارها، توجه السياسي الوطني سعد زغلول وصاحباه علي شعراوي وعبدالعزيز فهمي قبلة دار المعتمد البريطاني لمقابلة »السير ونجت« للسماح لهم كوفد مصري بالسفر إلي باريس لحضور مؤتمر الصلح تحقيقاً لوعد بريطانيا في الجلاء عن البلاد بعد انتهاء الحرب، وكانت المفاجأة أن تخلت بريطانيا عن وعدها وقامت بنفي سعد وعدد من رفاقه خارج مصر بما أجج نار الغضب في نفوس المصريين ودفعهم لأن يقوموا قومة رجل واحد بثورة شعبية هائلة، ونتج عن هذه الثورة إنجازات وطنية عظيمة، كان من بينها تأسيس حزب الوفد المصري. وقد ظل الوفد المصري هو حزب الأغلبية وأقواها تعبيراً عن نبض الشارع المصري وتأثيراً في مجريات الأمور، ولا غرابة فإن الطريقة التي نشأ بها هي الأكثر مثالية في تأسيس الأحزاب القومية إذا ما عرفنا أن الطريقة المألوفة تتمثل في قيام فرد أو فريق من الأفراد بتشكيل حزب سياسي ليقوم علي مبادئ وطنية مرتكزة علي أسس قومية وأن يفلحوا في تجميع الآخرين من حولهم لاتخاذ الإجراءات المعهودة حتي يري النور، وذلك علي سبيل المثال، كالحزب الوطني القديم والأحرار الدستوريين ومصر الفتاة، والطريقة الأخري التي عرفناها تاريخياً هي أن ينشق حزبي أو مجموعة من الحزبيين علي الحزب الذي ينتمون إليه الاختلاف في الفكر أو الرأي ليقوموا بتأسيس حزب جديد كما حدث في حال الهيئة السعدية والكتلة الوفدية وغيرهما، أو أن تؤسس أحزاب أخري تطويراً عن جمعيات اجتماعية أو ثقافية عاملة. لكن عندما دار الزمن دورته وظهر بمصر عهد جديد عرف بنظام سلطة يوليو قام السادات بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي وهو علي رأس السلطة فأظهر بولادته وضعاً استراتيجياً حساساً جعل للفكر الموضوعي حقاً بأن ينقص من شرعيته الوطنية وحتي يضعه في نطاق التنظيم المؤسسي الخادم للسلطة ودونما يجدر أن يسمي حزباً سياسياً بالمعني السياسي للمفهوم الديمقراطي، ولعل الأحداث قد أثبتت أنه ما كان وطنياً أو ديمقراطياً في أي لحظة من لحظات الوطن بما حفز ضمير القضاء الشريف لأن يعلن حله بموجب حكم قضائي أعقاب ثورة 25 يناير. وكما شذ الحزب الوطني (المنحل) في تكوينه عن الأحزاب الأخري بما وضعه في المرتبة الدنيا تكويناً وتنظيماً وأداء.. فإن حزب الوفد المصري، في المقابل، قد شذ هو الآخر في تكوينه عن الطرق التقليدية المعهودة، حين امتاز عليهم جميعاً في خروجه من رحم الأم الوطني كوليد شرعي أصيل بفعل تزاوج الأحداث الوطنية العاطفية بمصر المحروسة - آنذاك، حيث جاء ثمرة تفاعل قوي شعبية مؤججة بالوجدان الوطني بقوي غيرية خارجة تهفو الاغتصاب طمعاً في الاستغلال والاستمتاع بما لدي الفتاة العذراء من المتع والخيرات بما أنشأ صراعاً بريئاً مشروعاً مصدره رغبة الإنسان الأزلية في نشرانه للمثل العليا بنزوعه الفطري لمقدسات الحرية والعدل، فكان الحدث الدرامي في إنجاب الثورة وكان اللسان الناطق لحالها هو حزب الوفد، وهكذا جاء اسمه تجسيداً لما تمثل لغايته، ولا شك أنه كان لسعد باشا دور ئيسي وبطولي في توليد هذا الصراع وإخراجه إلي الواقع المادي الوطني، وبذلك يكون سعد (بابا) هو أبوه الروحي وراعيه المسئول من قبل أن يولد، وبعد أن ولد، بما وقر بضمير التاريخ الوطني، بأن أباه الشرعي الدرامي هو وجدان الأمة وروحها والموكلة أمورها رسمياً والمعلقة قلوبها أبدياً علي قلب الزعيم الأب سعد زغلول وهداه. فكيف بأي حزب في مصر أو العالم قد تمتع بمثل هذا الامتياز انطلاقاً وتكويناً ونشأة وتفاعلاً وأداء..؟، ولعل ذلك ما حدا بالزعيم الروحي العالمي غاندي لأن يقول يوماً: إن سعد زغلول هو أستاذي وأستاذ كل الحركات الاستقلالية في الشرق الأوسط، (وذلك خلافاً لما جاء بالميثاق الخبيث الذي أذاعه الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر في مايو 1962 بالتعرض في حق ثورة 1919 المصون وحق قائدها العظيم الموقر!!). إن حزب الوفد قد نال بذلك الخروج النادر وساماً عظيماً من الشرف لم ينله أي حزب آخر سواء بمصر أو خارجها، وأنه ليستحق بلا نزاع تقديراً قومياً وعالمياً كما يحق لأعضائه اليوم لفت نظر الجهات المصرية المسئولة والمحافل الرسمية الدولية إلي ما ينبغي أن يحظي به الوفد تبوءاً لمكانة أدبية فريدة ومرموقة، قومياً ودولياً.