بعد سلسلة التفجيرات التى ضربت لبنان من أقصى شمال شرقه فى منطقة الهرمل الحدودية مع سوريا إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية مركز ثقل حزب الله الأساسى فى عاصمة بلاد الأرز، وصل الأمر البارحة مع تفجير الشويفات المتاخمة للضاحية الجنوبية إلى استعمال الأحزمة الناسفة. ما الذى يجرى على الساحة اللبنانية وهل الجهة الآمرة والمخططة هى واحدة وما الهدف من هذه التفجيرات العشوائية؟ التفجيرات فى لبنان فى حقبة ما عرف "بفترة الوصاية" أو "السلام السورى المفروض" فى فترة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1990 التى جعلت من لبنان صندوق بريد متفجرا للقاصى والداني، لم تغب التفجيرات والسيارات المفخخة عن الساحة اللبنانية إلا فى الفترة التى امتدت ما بين عامى 1990 و1999، أى لأقل من عقد من الزمن. ففى عام 2000 اغتيل عقل هاشم، وكان حينها يتبوأ ما كان يعرف بقيادة القطاع الغربى فى جيش لبنان الجنوبى المتعاون والمدعوم من الجيش الإسرائيلى الذى احتل الجنوب اللبنانى من 1978 إلى 2000، فى عبوة وضعت أمام منزله فى ما كان يعرف بمنطقة "الشريط الحدودى" المتاخمة لإسرائيل. وفى عام 2002 تم اغتيال النائب والوزير اللبنانى إيلى حبيقة، فى منطقة سكنه الحازمية فى ضواحى بيروت، والذى ترأس جهاز أمن القوات اللبنانية عام 1979 قبل أن يصبح رئيسا لها عام 1985. وفى 2004 تم اغتيال القيادى فى حزب الله غالب عوالى عبر عبوة زرعت فى سيارته. ثم جاء فبراير/ شباط 2005 ومعه اغتيال رفيق الحريري الذى كان رئيسا للوزراء لعدة مرات ونائبا ومن أكبر زعماء طائفته السنية وقضى فى نفس التفجير، وإن بعد أيام، النائب والوزير باسل فليحان. وهذا الاغتيال، الذى كانت له التداعيات الأكبر على المستوى المحلى كما الإقليمى ما زال لبنان يدفع ثمنه حتى يومنا هذا، وقد سرع -هذا الاغتيال- فى خروج الجيش السورى من لبنان، والذى كان قد تقرر فى مجلس الأمن فيما عرف بالقرار 1559، وهنا انتهت حقبة الوصاية ومعها "السلام المفروض" وعادت السيارات المفخخة تقطف رجالات لبنان كما الأبرياء فى طريقها. ما بعد "جلاء الجيش السورى" مع خروج الجيش السورى من لبنان لم تتأخر السيارات المفخخة فى العودة إليه، فعصفت فى لبنان سلسلة تفجيرات جديدة استهدفت شخصيات سياسية وإعلامية كانت رأس الحربة فى المعارضة لنظام الرئيس السورى بشار الأسد وذلك قبل نصف عقد من بدء الحراك السورى والحرب التى نشهدها اليوم. ففى يونيو/حزيران من عام 2005 تم اغتيال الصحفى فى جريدة النهار والناشط المخضرم سمير قصير عبر عبوة وضعت فى سيارته. فى الشهر عينه تم اغتيال جورج حاوى، وهو الأمين العام السابق للحزب الشيوعى اللبنانى ومن أعمدة ما كان يعرف بالحركة الوطنية أيام الحرب الأهلية، ذلك أيضا عبر عبوة ناسفة وضعت فى سيارته. نهاية عام 2005 تم اغتيال جبران توينى، رئيس تحرير جريدة النهار العريقة والنائب فى البرلمان اللبناني، عبر سيارة مفخخة كانت مركونة فى منطقة المكلس وهى على الطريق التى كان يرتادها إلى بيروت. وكل هذه التفجيرات كان لها أهداف محددة وإن حصدت بطريقها الأبرياء. لكن فبراير/ شباط 2007 شهد أول عودة للتفجيرات العشوائية والتى تستهدف المدنيين حتى وإن كان الهدف منها إيصال رسائل سياسية. فعلى سبيل المثال ولا الحصر تفجير عين علق، فى المتن الشمالى لمنطقة جبل لبنان، كان رسالة سياسة لوزير الدفاع فى حينها إلياس المر ولآل الجميل كما اعترف المنفذون آنذاك، وجرى التفجير فى حافلة صغيرة للركاب. بعد هذا التفجير تم اغتيال النائب وليد عيدو فى يونيو/حزيران 2007 عبر وضع سيارة مفخخة على طريق يسلكها فى قلب العاصمة اللبنانيةبيروت وقد أودى ذلك بحياة نجله الأكبر أيضا. وفى سبتمبر/أيلول من العام نفسه تم اغتيال النائب والقيادى فى حزب الكتائب أنطوان غانم بواسطة سيارة مفخخة فى منطقة سن الفيل فى ضواحى بيروت. كما شهد عام 2007 على أول اغتيال لشخصية أمنية رفيعة ومهمة على المستوى الأمنى والسياسي، وهنا كان الاستهداف الأول للجيش اللبنانى عبر اغتيال العميد الركن فرنسوا الحج، مدير العمليات فى الجيش الذى قاد ما عرف بمعركة نهر البارد ضد تنظيم فتح الإسلام، ذلك عبر تفجير سيارة مفخخة فى بعبدا على الطريق الذى كان يمر بها يوميا متوجها إلى وزارة الدفاع. علما أن الحاج كان من أبرز المرشحين لتبوء قيادة الجيش خلفا لميشال سليمان الذى كان المرشح التوافقى لرئاسة الجمهورية. ثم جاء اغتيال النقيب فى شعبة المعلومات للأمن الداخلى وسام عيد فى يناير/كانون الثانى 2008، أى بعد أيام معدودة على اغتيال الحاج، أيضا عبر عبوة ناسفة. ثم غابت التفجيرات لفترة بعد اغتيال عيد، قبل أن تعود وبقوة عبر التفجير المدوى الذى عصف بمنطقة الأشرفية فى ضاحية بيروت الشمالية والذى أودى بحياة رئيس شعبة المعلومات عينها اللواء وسام الحسن، الذى كان من المقربين للرئيس الأسبق الحريرى ومن نجله سعد الحريرى كما من تيار المستقبل وحركة 14 آذار المعارضة والمؤيدة للثورة السورية. كما أدى هذا التفجير إلى أضرار جسيمة وإلى وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى فى هذه الضاحية المسيحية لبيروت والتى غابت عنها التفجيرات منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضى وأيام الحرب الأهلية. عودة التفجيرات العشوائية التفجير الذى استهدف الحسن كان آخر تفجير يستهدف شخصية أمنية، ثم بدأت سلسلة التفجيرات العشوائية والتى تستهدف المدنيين. وبدأت مع تفجير الضاحية الجنوبية الأول والذى وقع فى يونيو/حزيران من العام الفائت مشرعا باب التفجيرات فى المناطق السكنية على مصراعيه. ووقع التفجير فى منطقة بئر العبد المكتظة بالسكان، وهذا لن يكون آخر تفجير يستهدف هذه المنطقة بالذات. والجدير بالذكر أن هذا التفجير هو الأول فى الضاحية منذ اغتيال غالب عوالى عام 2004 ومنذ بدء الأزمة السورية وانخراط حزب الله فيها سياسيا وعسكريا. تلا هذا التفجير بأقل من شهر تفجير منطقة الرويس أيضا فى الضاحية الجنوبية لبيروت وكان الأكثر دموية منذ حوالى 30 عاما فى لبنان وأسفر عن ما يزيد على 18 قتيلا و200 جريح، علما بأن مجموعة سورية غير معروفة تبنته فى وقته. بعد أيام من ذلك وقع تفجيران فى مدينة طرابلس شمال لبنان، وهى مدينة تشهد اضطرابات بين أغلبيتها السنية والأقلية العلوية، وهى الطائفة التى ينتمى إليها الرئيس السورى بشار الأسد، ووقع التفجيران أمام جامعى السلام والتقوى الواقعين فى منطقة الميناء وفى وسط المدينة عند انتهاء صلاة الجمعة وبفارق دقائق مسفرين بذلك عن عشرات القتلى وأكثر من 300 جريح. ثم غابت التفجيرات لفترة لتعود بحلتها الانتحارية، ولأول مرة فى لبنان منذ التفجيرات التى ضربت القوات الفرنسية والأمريكية فى بيروت عام 1983 والتى كان وراءها نواة ما يعرف اليوم بحزب الله، فاتضح أن التفجير الذى تعرضت له السفارة الإيرانية فى منطقة الجناح فى بيروت فى شهر نوفمبر/تشرين الثانى وهو من فعل انتحاريين لبنانيين وما لبثت كتائب عبد الله عزام المرتبطة بتنظيم القاعدة أن تبنت العملية معللة إياها بانغماس حزب الله وإيران بالحرب الدائرة فى سوريا إلى جانب النظام السورى. وفى خضم هذه المرحلة من التفجيرات العشوائية وقع التفجير الذى استهدف الوزير السابق محمد شطح فى كانون الأول/ديسمبر من العام المنصرم وهو كان من أقرب المقربين لرئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى كما من نجله سعد. تلا هذا التفجير تفجيراستهدف مركزا لحزب الله فى منطقة صبوبا شرق لبنان وبعده فى أوائل كانون الثاني/يناير مطلع هذا العام وقع تفجير وهو كان الأول الذى يستهدف مدينة الهرمل وتبين أن التفجير كان انتحاريا. وبعد أيام معدودة عصف تفجير انتحارى ثان بالمدينة وتم تبنى التفجيرين من قبل تنظيم جبهة النصرة فى فرعه اللبناني. ثم جاء آخر تفجير انتحارى أخير وقع بحافلة فى منطقة الشويفات كانت متوجهة إلى ضاحية بيروت الجنوبية، وهذا التفجير الأخير كان ناجما عن حزام ناسف. لبنان يدخل مرحلة جديدة أكثر خطورة وهنا يجدر بنا التوقف عند هذا الأمر، علما بأنه فى تفجير الضاحية الأخير أواخر يناير/كانون الثانى الذى تلا التفجير الأول بأيام فى منطقة حارة حريك، والذى تبنته جبهة النصرة فرع لبنان، تم العثور على حزام ناسف لم ينفجر. فإن كان الشروع بالعمليات الانتحارية له دلالاته وإن كان وضع حد لهذه العمليات من الأمور المستعصية والتى عجزت عنها الدول والأجهزة الأكثر تطورا فى العالم شرقا وغربا، فإن العمليات التى تقوم على أفراد يتنقلون مع أحزمتهم الناسفة هو أمر أكثر وأشد خطورة. لأن هؤلاء يمكنهم أن يمروا عبر "شبكات الأمان" الأمنية بسهولة أكبر مما يسهل لهم الدخول إلى عمق المناطق المستهدفة وإلى شوارع الضاحية الجنوبية الضيقة. فضلا عن أن تجهيز هؤلاء أسهل من تجهيز سيارة وتحضيرها وإن كان الضرر الناجم عن سيارة أكبر. فيمكن تجهيز حزام ناسف فى أية شقة من أية منطقة فى لبنان، بينما تجهيز سيارة يستلزم مكانا مجهزا ومهارات فى عدة مجالات لضمان نجاح العملية. فى نهاية الأمر من الواضح أن لبنان دخل فى مرحلة جديدة وهى آخر مراحل "إرهاب حاضنة حزب الله الشعبية". فبعد فشل السيارات المفخخة وحتى الانتحاريين بسياراتهم بالوصول إلى هذه الغاية. بات من الواضح أن الانتحاريين بأحزمة ناسفة هم الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل فمن الخوف من السيارة المركونة، إلى الخوف من السيارة والسائق فى وسط الشارع، انتقلنا إلى الخوف من الأفراد. وكل ذلك بحسب الملمين ليس انتقاما، بل بهدف واضح وصريح ألا وهو إحداث الفرقة وسلخ حزب الله عن حاضنته الشعبية. لكن يجب ألا ننسى أنه إن تم التأكد من وجود فرع لجبهة النصرة فى لبنان فإنه حتى الساعة لم يتم تأكيد وجود الدولة الإسلامية فى العراق والشام على الأراضى اللبنانية. إلا أنه وفى نفس الوقت أن تحول العمل فى لبنان إلى طريقة العمل فى الغرب، أى قيام مناصرين وليس خلايا بالعمليات، فستكون محاربة هذا النمط من الإرهاب أكثر صعوبة.