فى زمن الطفولة والانبهار بالأساطير ، كنا نسمع عن وجود وحش خرافى شرير له ألف رأس وألف ذراع ، كلما حاربه الاخيار وقطعوا له رأسا أو ذراعا ، نبت ثانية وازداد شراسة . وعندما كبرت لم يصور لى خيالى وجود مثل هذا الوحش على أرض الواقع ، لكنى رأيته مع شعب مصر، فهكذا كان نظام مبارك ، وحشا خرافيا مفترسا ، أكل الأخضر واليابس ، ولا تزال أذرعه ورؤوسه التى تجتثها يد الثورة والعدالة ، تنبت ثانية هنا وهناك ، ولم يبق هذا الوحش على شئ إلا ابتلعه فى بطنه ودمره ، من ثروات مصر ليحرم منه الشعب ، أرضها ، سواحلها ، زروعها ، استثماراتها ، ذهبها ، آثارها ، حتى انتماء الشعب ، وعلاقات مصر الخارجية لم يبق عليها ، ولا يعرف أحد لمصلحة من فعل كل هذا . إن كان ذلك من منطلق اللصوصية ، فاللص يسرق حتى يشبع ، أو يوفر لنفسه ما يكفيه من مال حرام فى سنوات يعتقد انه سيعيشها ، أما مبارك وزبانيته فقد تجاوزوا منهج اللصوصية ، الى آخر لا مدى ولا نهاية له ، ولا أجد له اسما او توصيفا ، فالعقل البشرى المصرى او العالمى الذى يرصد المليارات التى نهبوها من دماء وقوت الشعب ، وخزنوها فى الداخل وبحسابات البنوك السرية فى الخارج ، تؤكد ، أن الهدف لم يكن فقط السرقة ، بل تخريب مصر للأبد . حتى يبقى الشعب المصرى للأبد خافض الرأس ، حانى الظهر وراء قوت يومه ، لا ينظر لأعلى للمطالبة بحقه فى خير بلده ، ولا حقه السياسى فى الحرية والديمقراطية ، فمبارك وزبانيته لوعاشوا فرضا آلاف السنين ، هم وأولادهم وأحفاد أحفادهم ، وأنسال أنسال اللى هيخلفوهم ، ما كانوا سينفقون تلك المليارات حتى لو أكلوها ورقا وشربوا وراءها ماءً . كانت مصر لهم بمثابة مغارة على بابا ، التى لا يشبعوا من نهبها وسلبها ، وكان ذهب مصر جزءا من تلك الثروة العظيمة التى نهبها النظام على طريقته الخاصة ، تلك الثروة الطبيعية الثمينة ، التى كان يمكن ان تدر على مصر مليارات الجنيهات على المدى الطويل ، لتنعش الحالة الاقتصادية والحياة الاجتماعية ، ولكن كما قلت ، كان النظام السابق حيوانا ، وحشا خرافيا بألف رأس لا يشبع ولا يروى أبدا ، ودوما فى طلب المزيد من دماء الشعب يوما بعد يوم . فاستغل نظام مبارك مناجم الذهب ، كجزء من مخطط الاستيلاء علي المال العام ، لإهدار ثروات مصر المعدنية ، وهو الملف المعروض الآن أمام النيابة للتحقيق به ، والذى كشف من خلاله تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية تفاصيله المهولة ، والتى تدلل بقوة ،علي أن نظام مبارك كان ينافس أفكار الشيطان نفسه ، من حيل ووسائل فى النهب والسلب والسرقة وتدمير الشعب . فقد تم بيع مناجم الذهب المصرية لشركات أجنبية بمبالغ زهيدة ، تحت زعم أن هذه الشركات ستتولى عمليات الاستثمار المستقبلى ، وتم ذلك بصورة لصوصية فريدة ، تسمح للشركات باستخراج الذهب المصرى وبيعه للخارج دون رقابة مصرية أو محاسبة ، وبالطبع لم يخل الأمر من استفادة القائمين على قطاع الثروة المعدنية فى النظام من تلك الصفقات المريبة ، وهو ما تحاول أن تثبته الآن التحقيقات ، وكأن شركات الاستثمار المصرية عاجزة عن الاستثمار فى هذا القطاع ، وعاجزة عن توفير الاموال والعمالة اللازمة لاستخراج الذهب من مناجم مصر ، وبيعها لحساب مصر والمصريين . والملف المعروض أمام النيابة العامة ، يشير الى تورط المهندس سامح فهمي وزير البترول السابق ، المتورط أيضا فى مأساة مصر من بيع الغاز لإسرائيل، وكل من مصطفي البحر رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية ، عبدالباسط حمزة السوداني رئيس مجلس إدارة شركة ماتز هولدنجز ليمتد، وهشام فؤاد الشحري مدير عام ذات الشركة ، وزينهم الألفي رئيس مجلس إدارة شركة جمش مصر سابقا . وتقول تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات إن بيع مناجم الذهب ، كان بموافقة وتصديق مجلس الشعب ، وأن التلاعب حدث فى تنفيذ بنود اتفاقيات البيع ، وكان الاتفاق ينص على أن تتولى الشركة الاجنبية استخراج الذهب ، وأن تحصل من جراء ذلك على ما دفعته من تكلفة فى عمليات التنقيب والاستخراج ، وما يزيد علي ذلك ، يتم اقتسامه مناصفة بين مصر ممثلة فى هيئة الثروة المعدنية ، وبين الشركة نفسها . ولأن الفساد كان سمة هذا النظام ، فقد تغاضت هيئة الثروة المعدنية عن مبالغة الشركة الاجنبية المستثمرة ، فى تقدير النفقات التى صرفتها على استخراج الذهب بصورة هائلة " لغرض فى نفسها معلوم " ، مما أتاح للشركة فى نهاية الامر الاستيلاء على أنصبة أكبر مما تستحقه من الذهب المستخرج ، بل وأيضا سمحت لها بتمديد سنوات الاستغلال لعمليات الاستخراج بالمناجم المصرية ، تحت زعم الوفاء بما دفعته من نفقات . ولا يهم فى كل ذلك أن يكون من سرق ذهب مصر بمساعدة مسئولى النظام السابق ، اسرائيليين على غرار جاكوب ليفين الذى كان شريكا فى شركة الاستثمار " ماتز هولدينج يونايتد " و التى احتكرت استخراج الذهب من منجم " حمش " منذ اكثر من 16 عاما ، وحتى فترة ستصل الى 20 عاما مقابل 5 ملايين دولار فقط . لا يهم أن يتم منح ذات الشركة المشبوهة حق استخراج الذهب من منجم آخر وهو منجم دونقاش ، رغم عدم وفائها بالتزاماتها فى منجم حمش ، ولا يهم ان تقوم شركة متز بالتلاعب وبيع نصف المنجم لشركة أخرى تدعى " مايكا " بأربعة أضعاف المبلغ الذى اشترت به تلك الحصة من مصر ، بعد ساعات قليلة من اتمام صفقتها مع مصر ، لا يهم كل ذلك ، ما دام أصحاب وأرباب وزبانية النظام السابق لم يشبعوا بعد ، ولم يحققوا من مال مصر ما يؤمن لهم مستقبلهم فى هذا العهد . إننى أطالب النيابة العامة بسرعة إنهاء التحقيقات فى ملف سرقة ذهب مصر ، وأطالب بإبطال الاتفاقيات التى لم تحترم أو تنفذ فى هذا الإطار ، وأن يتم إلغاء عقود الاحتكار أو الانتفاع لتلك الشركات الاجنبية من ذهب مصر ، من منطلق عدم التزامها ببنود العقود ، ومماطلتها فى عمليات الاستثمار ، وتلاعبها أو مبالغتها فى تقدير حجم المصروفات ، وأن يتم فى ذلك تشكيل لجنة وطنية من الخبراء ، لتقدير ما تم إنفاقه على عمليات الاستثمار فى مناجم الذهب على مدى السنوات الماضية ، وتقدير ما دخل خزانة مصر ، وما تم إهداره وسرقته ، ومطالبة هذه الشركات بتقديم الفروق والتعويضات الملائمة التى هى من حق مصر ، وألا يتم فورا فسخ هذه العقود. فى عهد الثورة ، صار شعب مصر هو الأحق بخير مصر ، هو الأحق بأرضها بكل ثرواتها ، ومصر بها الملايين من الشرفاء ، والكثير من المستثمرين الوطنيين الذين لن يترددوا لحظة فى استثمار أموالهم بمناجم الذهب المصرية ، بعيداعن الشركات الاجنبية ، وبعيدا عن الوساطات ، والرشاوى والمحسوبية ، وإهدار المال العام ، إننا ننتظر جميعا نتائج التحقيقات بلهفة ، لنعرف مزيدا من اللصوص فى مصر التى حولوها على مدى 30 عاما الى مغارة على بابا .