طريق ضيق مترب مشيته من قبل مرتين، هو اطول طريق وأقصر طريق أكرهه.. كلما مشيته أعود منه وقد فقدت قطعة منى، جزء من نفسى أغادره... وقد صرت من جديد يتيمة، اللون الأصفر الباهت يغطى الزرع النحيل الذى يحيا على بقاياهم، صفير غامض كصوت الرهبة يفاجئنى من بين الأبنية الصغيرة ومن تجاويف الأركان، ليغطى على صوت أقدامنا المتعجلة.. أرواحنا متمهلة لا ترغب فى مجيء اللحظة القادمة.. قلوبنا نازفة.. عيوننا غائمة بالدمع، بصرى معلق على أطراف الصندوق الخشبى، وقد اختفى معظمه خلف أيادى المتسابقين المتلهفين على حمله، زخم البشر الهاتف بالتوحيد والدعاء يحجب عنى الرؤية، يتوقف الجمع، وتتوقف أنفاسى وأيديهم تنبش المكان ، أصرخ وأكتم صوت صرختى خشية اقلاق نومته بصوت مكروه ..لا انتظروا ..لا تتعجلوا له الرحيل الأخير، دعونى بجانبه لحظات اخرى، دعونى استعيد ضحكات طفولتنا وشقاوتها، أتذكر صبانا وانطلاقنا.. أتذكر يديه الحانيتين تربت على شعرى فى شبابنا وهو يشجعنى على الانطلاق فى طريق الصحافة ومغامراتها، اتذكر رقصته بالعصا طرباً يوم زفافى، ويوم داعب أطفالى، ويوم جلسنا نستعيد الذكريات ويوم... ويوم ، آه ..يا ابن أبي وأمى ها انت يوسدون جسدك الطاهر الثرى لترقد بين حبيبيك أبيك وأمك. أغادره.. أعود من نفس الطريق الذى أكرهه وقد تساوت لدى كل الدنيا بالعدم، أناجى روحه وصورة وجهه - الذى أصررت على رؤيته واحتضانه قبل تكفينه لا تفارقنى، اسمعه يشكو لى ساعات الألم وإهمال البشر، وتحول ملائكة الرحمة إلى زبانية عذاب، فى الساعة الرابعة من عصر يوم الجمعة، كان أخى فايز جالساً بين زوجته وولديه فى شقته بسوهاج ، و فجأة شعر بضيق تنفس، وهو الذى لم يعان من قبل من مرض عضال أو مشكلة صحية خطيرة، فطلب منهم نقله لأى مستشفى لأنه يحتاج إلى أكسجين، خرج سائراً على قدميه وهو يسبح ويقرأ القرآن، فاستدعوا شقيقنا الأكبر فؤاد ليحمله فى سيارته إلى أقرب مستشفى ورافقه ولده احمد وزوجته، فى دقائق كانت السيارة أمام مستشفى الهلال، وإذا بالمفاجأة، لا يوجد بالمستشفى إلا طبيب طوارئ واحد فيما القطط ترتع فى كل مكان، القمامة والقذارة تغطى كل شيء، الأسرة تنتشر عليها بقع الدماء ، وما إن شاهد الطبيب أخى فايز حتى قال إنه بحاجة الى عناية مركزة، ولا يتوافر بالمستشفى الآن غرفة خالية، وطلب منهم حمله إلى المستشفى الجامعى فقد يجدون بها غرفة خالية ، وتفضل بمنحهم خطاب توصية لدخول غرفة العناية المركزة فى المستشفى الجامعى، وحذرهم بقوله: كل دقيقة تأخير ستفرق معه، وكأنه بهذا أراح ضميره وأخلى مسئوليته ، ولم يكلف نفسه بفحص شقيقى أو التدخل الطبى لإنقاذه بأى شكل. وبالفعل أعيد فايز إلى السيارة ، وقاد أخونا الأكبر سيارته كالمجنون الى المستشفى الجامعى، وهناك قدم لهم خطاب التوصية، فإذا بالطبيب المسئول يتسلم الخطاب ويصر على تجاهله ، ويقول «يجب ان أبحث الحالة أولا لأتأكد انه يستحق دخول العناية المركزة من عدمه» وقام بوضع اخى على جهاز الأكسجين بصورة مؤقتة دون ان يعرف حالته بالضبط أو يفحصه واختفى الطبيب واختفت الممرضات، وبقى أخى على جهاز الأكسجين قرابة 3 ساعات دون ان يتحرك أحد لإخبار الأسرة الملتاعة عن حالته، وفجأة صرخ نجله أحمد وهو يشاهد والده وقد تغير لونه وازرق جسده ، وتورم وجهه وأطرافه وجحظت عيناه، فأخبر عمه بما رأى ففرغ صبر أخينا الأكبر، وزعق طالبا المدير المسئول لإنقاذ اخى والتدخل لتحديد سبب الحالة التى صار إليها ، وإذا بالطبيب يفجر المفاجأة البشعة فى وجهه و يقول «لا يوجد لدينا غرفة خالية بالعناية المركزة يجب ان تنقل شقيقك الى مستشفى اخر ، اذهبوا به الى مستشفى الهلال، فصرخ أخونا الأكبر بأنهم جاءوا من الهلال ولا يوجد هناك غرفة خالية بالعناية المركزة. ولم يكن هناك وقت للجدال والشجار مع الطبيب والمستشفى الذى بلغ به الاهمال لترك مريض يصارع ألماً غامضاً أو مرضاً مفاجئاً مجهولاً دون تدخل باستثناء الاكسجين، ولم يعد اخونا الأكبر قادرا على قيادة سيارته بشقيقنا الذى بدأ يدخل فى غيبوبة وبدأت صنابير من الدماء تتفجر من انفه وفمه، فاستدعى سيارة إسعاف عاجل، وحمل فايز الى المستشفى العسكرى، وهناك بمجرد ان رآه الطبيب ، قال « لقد فات الوقت عودوا به لبيته بدلا من البهدلة لقد حدث له انفجار بالرئتين «جن جنون الجميع صرخت الزوجة وانهار الابن والأخ والسيارة تعود به إلى منزله جثة هامدة فى الثامنة مساء ، بعد 4 ساعات من العذاب وتسول العلاج على ابواب المستشفيات التى اختفى منها الأطباء لأن اليوم جمعة، وكأن المرض عليه أخذ إجازة اسبوعية، واختفت منها غرف العناية المركزة ، ولم يعد بها مكان لاستقبال حالة واحدة حرجة. حقا لكل أجل كتاب، ولكن لكل موت سبب ، وأخى مات لأنه لم يجد طبيباً له ضمير ولم يجد غرفة عناية مركزة ولا فى المستشفيات الخاصة ، ولم يجد حتى من يحدد حالته وسبب انفجار الرئة، رحل أخى فى يوم جمعة مبارك وروحه الطاهرة تشكو لخالقها إهمال المسئولين عن الصحة فى مدينته سوهاج التى أحبها ورفض ان يفارقها رغم عشرات فرص السفر للعمل بالخارج كمدرس أول، فتخرجت على يده أجيال، ولكن عندما ضاق صدره فى لحظة واحتاج ليد رحيمة تعينه وتشخص حالته وتسعفه بالعلاج لم يجد، فمن المسئول عن موت أخى، من المسئول عن يتم ولديه أحمد وفاطمة، عن مصاب عائلة فقدت ابناً باراً حنوناً، من المسئول يا وزير الصحة، يا محافظ سوهاج، يا محليات، يا مستشفيات، ياأطباء.. يا ضمائر البشر. اه يا رب كم صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن ليالي، رحم الله اخى ، ورحم كل موتانا ، وشكرا لكل من واسانى فى مصابى حزبا وجريدة فقد كنتم جميعا بجانبى فى سوهاج روحا وقلبا وصوتاً، هاتفنى د. سيد البدوى ..الاستاذ فؤاد بدراوى ليقولا لى ان كل القلوب بالوفد معى، شكر الله لكم سعيكم ولا أراكم أبداً مكروها فى عزيز .