الذين يتمنون الفريق أول عبد الفتاح السيسي رئيسا لمصر كثيرون وأنا منهم، ولكن تجربة الفترة الماضية منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى اللحظة تجعلني أبادر بتقديم نصيحة للفريق السيسي رغم أنني كثيراً ما أتذكر مقولة للدكتور بطرس بطرس غالي: «لا تقدم نصيحة لم تطلب منك»، إلا أن تأمل ما جري ويجري يجعلني أتطوع بما لا أحب أو أرغب. سيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي.. أعلم يقينا أنك بحكم خبراتك العملية الكثيرة تدرك جيدا ما قد أتخوف منه ولكن يقيني أن الظروف والمتغيرات الكثيرة في حياة القادة الكبار أحيانا تراكم أمامهم طبقات من الدخان الذي يحجب الرؤية أو يقلل من درجة وضوح الواقع المحيط بهم، وعادة يبدأ القائد مسيرته مع شعبه نقيا صافيا عازما على التمسك بالكثير من المبادئ التي يمكن أن نلخصها في تعبير «مقومات الحكم الرشيد». لكن يا سيدي أنت تعلم أننا في مصر وخلال أربعة عقود مضت على الأقل استوطن الشخصية المصرية الكثير من الأمراض، خاصة تلك التي أصابت النخب السياسية والثقافية والإعلامية، وأخشي من أن يكون المرض أقوى من الأمل في الشفاء ويتحلق حولك بالكتابة حينا وعبر بريق الشاشات الصغيرة حينا آخر جماعات من أصحاب المصالح الذين يسعون في كل عصر إلى صناعة حاكم على مقاسات ضمائرهم ومصالحهم. وليس خافيا على أحد أن من بين أعلى الأصوات التي تناديك رئيسا لمصر من عاش سنوات طويلة في محراب نظام حكم فسد وأفسد ثلاثين عاما وتفنن في مديحه والثناء عليه وتبرير بقائه وهؤلاء هم من أتخوف منهم ومن أن يضاف إليهم متشوقون جدد يرفعونك عاليا لدرجة حجبك عن الناس وعن هموم الطبقات العريضة التي لم تجد من يرأف بها طوال أربعة عقود مضت وبيد الحاكم والحكومات في السابق كما لو كان هذا الشعب عندهم عالة وهم ثقيل دون تقدير وفهم أن الحاكم الذي لا يستطيع ان يحقق السعادة لشعبه عليه أن يرحل ويترك مكانه لمن يؤمن بأن مهمته أن يضيف للرصيد التاريخي لهذا البلد لا أن يخصم منه - فشلاً وديوناً وفساداً وتراجعاً للدور والمكان والمكانة. سيقترب منك كثيرون يهمسون حينا ويصرخون حينا بأن اللحظة الراهنة لحظة أمن وهم اقتصادي وليست لحظة ديمقراطية فلا تصدقهم لأنك تعلم أنه لا أمل في أمن أو تنمية بلا ديمقراطية ولأن من سينصحونك بذلك تصريحا أو تلميحا همهم في المقام الأول مصالحهم وأن يتخلصون بيديك من خصومهم وأن تعود مصر كما كانت قبل 25 يناير 2011 شركة وليست دولة.. شركة يملكها مجموعة متوحشة من أصحاب المصالح وهم خليط من رجال أعمال وإعلاميين وتجار ذمم وضمائر ولصوص متنكرين خلف وجوه ناعمة.. لا تسعد سيدي بمن يكيل لك المديح بلا مناسبة ومن حقك أن تشعر بالرضا عند الثناء على انجاز حققته بالفعل.. اقترب من الناس البسطاء وكون فرق عمل حولك تتواصل مع الشعب دون وساطة إعلامي أو رجل دين أو شخصية عامة.. هناك من يشدون الآن أوتار آلاتهم للعزف لك، وبضجيج آلاتهم سيقيمون أسوارا عازلة بينك وبين الجماهير وهنا يبدأ نزول القائد وليس صعوده. لقد حكى لى يوما الدكتور اسماعيل صبري عبدالله يرحمه الله – وكان يعمل مستشارا اقتصاديا بمكتب الزعيم الخالد جمال عبد الناصر حتى عام 1966 – ثم وزير الدولة للإنتاج «إن مكتب الرئيس كانت به عشر مجموعات عمل تضع أمامه المعلومات عن كل شئون مصر ولا تعرف مجموعة منها الأخرى حرصا على أن تأتي المعلومات خام دون حسابات شخصية..» من حقك أن تستمع لمن تشاء وأن تقدر من تشاء ولكن من حق الشعب عليك إن أصبحت رئيسا أن يكون هو الأقرب لك دون وساطة وأن توجد لنفسك ألف وسيلة للاحتكاك بالناس في الشوارع والحارات والقرى والكفور. شعب مصر يا سيدى ليس أهل القاهرة ولا مجموعة الإعلاميين والمحللين والمعلقين، ومستقبل أي حاكم يحسم في الشارع وليس داخل الصالونات أو على أسطح الشاشات، ولعلك تتابع الصراع المحتدم بين الرئيس الديمقراطي أوباما وبين الجمهوريين بسبب برنامج الرعاية الصحية الذي يصر عليه الرئيس ويعيقه أغنياء الجمهوريين الذين يرون أن إشعال الحروب وتشغيل مصانع السلاح أهم ألف مرة من علاج الأمريكيين الفقراء لأنهم مثل الحانوتي الذي لا يمكن أن يبكي على جثة ميت». سيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي.. لقد اختصر لك شعب مصر أكثر من نصف الطريق عندما خرج للتغيير وعندما شاركته أنت أمله، أحبك الناس وفتحوا لك بوابات أوردتهم لتجري في دمهم رجلا لمسوا منه صفاء ونقاء ومصرية طال انتظارها – فلا تسمح لأحد أن يقف بينك وبينهم تحت أي مسمي وانت تعلم أن هذا الشعب منحه الله جينات عبقرية تتحسس الحقيقة حتى وهي نائمة ويشم رائحة الإخلاص ويميز بينها وبين التحول نحو فتور الهمم والاستسلام لغوايات السلطة.. وأخيرا لا أملك إلا الدعاء لك بالتوفيق لما فيه الخير لمصر ولمستقبلها.. وأعتذر لك عن نصيحة لم تطلبها..