الصعيد لا يريد أن يعود إلى القاهرة فى كل شىء.. ولا يريد أن تعود إليه القاهرة فى أى شىء.. يا نحلة لا تقرصينى ولا عايز عسل منك.. لأن علاقة «الاستجداء والإحسان» بين القاهرة والصعيد علاقة فيها استعلاء من القاهرة وإحساس بالمهانة من الصعيد.. فالقاهرة تتوجس خيفة من كل ما يأتى من الصعيد.. والصعيد تنتابه شكوكاً فى كل ما يأتى من القاهرة.. لان استمرار «استجداء» الصعيد للقاهرة لتحسين مستوى معيشة أهله.. وانتظاره المستمر ل «إحسان» القاهرة عليه بلا فائدة أدى إلى تعميق الفراق بينهما، حتى أن الوضع أشبه بعلاقة المُستعمِر والمُستعَمر، وقد تلخص الوصل بينهما فى حركة قطارات بضاعة تنقل من الصعيد إلى القاهرة مواد خام.. حديد أسوان وألمونيوم وسكر نجع حمادى وقوص وأبوقرقاص وأسمنت أسيوط.. بينما القطارات القادمة من القاهرة للصعيد تعود فارغة إلا من الوعود الكاذبة والأمانى المضللة حول خطط تنمية وتطوير الصعيد التى لا تحدث أبداً! فاضطر الصعيد أن يصدّر الإرهاب والمتطرفين للقاهرة خلال الثمانينيات والتسعينيات، وهو نفس الشىء الذى حدث مع سيناء التى أهملناها مثل الصعيد حتى أصبحت الآن معقلاً للإرهابيين والمتطرفين وتصدّر القتل والتخريب لمصر كلها بدلاً من أن تكون مخزناً للحبوب والمعادن وكل أنواع المنتجات الزراعية والصناعية والسياحية. الصعيد فى محنة حقيقية، مثل سيناء، تتجسد فى مصر كلها الآن، وأى انفراجة على المستويين السياسى والاقتصادى فى مصر لن تحدث إلا بخروج الصعيد من محنته.. وكذلك سيناء.. ولأننى واحد من أبناء الصعيد، عانيت كثيراً من تجاهل القاهرة للصعيد وشاهدت أفضل شبابه كيف أصبحوا متطرفين وإرهابيين.. لأن معظم من كان يأتى للصعيد من القاهرة، كمحافظ أو مأمور مركز شرطة أو رئيس مجلس مدينة كان يعتبر فترة عمله بالصعيد فرصة لتحقيق مكاسب شخصية ونهب كل ما تطوله يداه.. ولذلك كان حلم تكوين مجلساً متطوعاً فى كل مدينة ومحافظة يتكون من الرموز السياسية والدينية والثقافية ومن العائلات هو السبيل الوحيد لحل أكبر مشكلات الصعيد.. حيث يساهم هذا المجلس مع المحافظ أو رئيس مجلس المدينة فى إدارة شئون المحافظة أو المدينة ومتابعة ومراقبة مستوى الخدمات.. والمساعدة فى حل مشكلات نقص المدارس والمستشفيات والعمل علي إنشائها بالتمويل الذاتي، وأيضاً التدخل فى مشكلات الثأر وغير ذلك.. وقد أسعدنى أخيراً تكوين ما يسمى ب «بيت العائلة» فى نجع حمادى، ويضم شخصيات تمثل كل الفئات مثل الشيخ عبدالغفار سليم، رئيساً، ود. أحمد عبداللطيف الكلحي، الداعية الإسلامي، وأحد المؤسسين للبيت، وعضو لجنة المصالحات الثأرية، والأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي ونائب رئيس بيت العائلة، حتى المرأة كانت ممثلة فى السيدة ليلى حسين مدير عام التربية والتعليم بقنا وهى شخصية إيجابية وفاعلة، وقد اجتمع مؤخراً معهم محافظ قنا عبدالحميد الهجان، الذى أشاد بدور بيت العائلة في المساعدة علي تحقيق الأمن والأمان للمدينة، متمنياً أن يشارك بيت العائلة جنباً إلى جنب مع أجهزة الدولة في حل العديد من المشكلات التي تواجهها نجع حمادي.. ولهذا أتمنى أن تعمم هذه الفكرة فى كل المحافظات لإنهاء فساد وسيطرة ونفوذ القيادات الشعبية والتنفيذية فى الصعيد وكل أرياف مصر. الشىء الآخر.. أنه لا سبيل لتنمية حقيقية فى الصعيد سوى بتنمية الصحافة الإقليمية للتنوير وكشف فساد القيادات وإهمالهم فى العمل.. و«الوفد» حقيقة كحزب لعب دوراً بارزاً فى تشجيع الصحافة الإقليمية بإصدار العديد من الصحف فى المحافظات، ولهذا أسعدنى كثيراً إصدار صحيفة «النجعاوية» فى نجع حمادى بقيادة زميلنا الصحفى أمير الصراف، ومعه كتيبة من الصحفيين الشبان الموهوبين.. وهى صحيفة متميزة بأخبارها وموضوعاتها الصادقة والرشيقة وتستحق التقدير.. حيث تساهم «النجعاوية» فى إضاءة الصعيد كله وليس نجع حمادى فقط.. واقول لهم سوف تأتيكم القاهرة زاحفة قبل أن تذهبون إليها، كما يقول ذلك الشاعر المتميز عزت الطيرى الذى أجبر القاهرة بموهبته الشعرية أن تأتيه إلى نجع حمادى ويسطع فيها بدلاً من يرحل إلى القاهرة، وهو نفس الشىء الذى فعله عدد من الأدباء مثل عبدالستار سليم وعبدالناصر علام وسعد عبدالرحمن ودرويش الأسيوطى.. وغيرهم من الذين رفضوا «إحسان» القاهرة عليهم، وامتنعوا عن «استجداء» احتياجاتهم منها!