كان الفرح يغمر الأبطال الذين عادوا منتصرين بعد أن طال الغياب عن الأهل والأحباب.. كانوا أسوداً كاسرة في ساحة الجهاد.. ففتحوا البلاد ورفعوا راية الإسلام على بقاع جديدة من أرض الله، عادوا فرحين بنصر الله ولبسوا أجمل الثياب. أسرعوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقد اعتادوا أن يستقبلهم بعد عودتهم، يفرح بلقائهم ويبالغ في إكرامهم، ولكنهم فوجئوا هذه المرة أنه لم يهتم بهم، بل أدار وجهه عنهم، فبعد أن رد السلام أمسك عن الكلام، فظهرت الدهشة على وجوههم, وعندما سألوا ابنه عبدالله نظر إلى ثيابهم الفاخرة التي عادوا بها من بلاد فارس وقال لهم: إن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً لم يلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخليفة أبوبكر الصديق من بعده. عرف الأبطال المجاهدون السبب فلم يجادلوا، ولكنهم تحلوا بالأدب النبوي الشريف فأسرعوا إلى ديارهم وبدلوا ثيابهم ثم عادوا إلى أمير المؤمنين بثيابهم التي اعتاد أن يراهم بها، فلما رآهم فرح بقدومهم وأحسن استقبالهم ونهض يسلم عليهم ويعانقهم رجلاً.. رجلاً.. وكأنه لم يرهم من قبل، فهو يرى أن إيمانهم وجهادهم هو أبهى الحلل وأجمل الزينات. نهض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - أمير أعظم دولة في ذاك الزمان - وسار مجللاً بالهيبة والوقار بوجه يعلوه الإيمان، وجسم فارع الطول عليه جبة قديمة بها 12 رقعة!.. سار خلفه عدد من الصحابة، أخذوا ينظرون إلى جبته القديمة، قال بعضهم لبعض: ما رأيكم في زهد هذا الرجل؟!.. لقد فتح الله على يديه بلاد كسرى وقيصر.. وطرفي المشرق والمغرب، وتأتي إليه وفود العرب والعجم من كل مكان فيستقبلهم وعليه هذه الجبة القديمة ذات الرقع الكثيرة. اقترح بعضهم أن يتقدم إليه بعض كبار الصحابه الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويحاولوا إقناعه بأن يستبدل هذه الجبة القديمة بثوب جميل وأن يقدم له جفنة الطعام في الصبح والمساء.. قال البعض الآخر: لا يجرؤ أحد على أن يتحدث إليه في هذا الأمر إلا علي بن أبي طالب أو ابنته حفصة فهي ذات مكانة عالية في نفسه لأنها زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى أمهات المؤمنين. ذهبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعرضوا الأمر عليه.. فقال: لن افعل هذا، ولكن عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات المؤمنين ويستطعن عرض الأمر عليه فلما سمعوا رأي الإمام علي بحثوا في الأمر واستقر الرأي على أن تقوم كل من أم المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما بتلك المهمة.. دخلت عائشة وحفصة رضي الله عنهما على أمير المؤمنين عمر، فقربهما وأحسن استقبالهما فبدأت عائشة بالحديث قائلة: يا أمير المؤمنين.. هل تأذن لي بالكلام؟.. قال: تكلمي يا أم المؤمنين.. فقالت ما معناه: لقد مضى رسول الله إلى سبيله إلى جنته ورضوانه، لم يرد الدنيا ولم ترده، وكذلك مضى أبوبكر من بعده.. وقد فتح الله على يديك كنوز كسرى وقيصر وديارهما وحمل إليك أموالهما، وخضعت لك أطراف المشرق والمغرب، وقد أصبح العجم يبعثون إليك رسلهم ووفود العرب تأتي إليك من كل مكان وأنت تستقبلهم بتلك الجبة القديمة التي رقعتها 12 رقعة، فلو غيرتها بثوب لين يهاب فيه منظرك وأيضاً يأتونك بجفنة طعام في أول النهار وأخرى في آخر النهار، تأكل منها أنت ومن حضر معك من المهاجرين. تأثر أمير المؤمنين حتى بكى بكاء شديداً.. سأل أم المؤمنين عائشة قائلاً: هل تعلمين أن الرسول شبع من خبز قمح عشرة أيام أو خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو جمع في يوم بين عشاء وغداء حتى لحق بربه؟.. قالت: لا. ثم قال لهما: أنتما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكما حق على المؤمنين عامة وعلي خاصة، ولكنكما أتيتما ترغبانني في الدنيا، وإني أعلم أن الرسول لبس جبة من صوف وربما حك جلده من خشونته هل تعلمان ذلك.. قالتا: نعم. ثم قال عمر لعائشة: ألا تعلمين أن رسول الله كان يرقد على عباءة تكون له بالنهار بساطاً وبالليل فراشاً، فندخل عليه ونرى أثر الحصير في جنبه؟.. ثم قال لحفصة: ألا تذكرين يا حفصة حين قلتِ لي إنك ثنيت الفراش للنبي ذات ليلة فشعر بلينه فرقد ولم يستيقظ بالليل إلا حينما سمع أذان بلال، فقال لك النبي: يا حفصة.. ماذا صنعتِ؟. أثنيت المهاد (أي الفراش).. حتى ذهب بي النوم إلى الصباح؟.. مالي ومال الدنيا ومالي شغلتموني بلين الفراش! وفي النهاية قال لابنته: يا حفصة.. إن المصطفى كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ومع ذلك فقد أمسى جائعاً ورقد ساجداً ولم يزل راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً آناء الليل والنهار إلى أن قبضه الله ثم قال: لا أكل عمر طيباً ولا لبس ليناً، بل سيكون له في صاحبيه أسوة وقدوة، وقطع عهداً على نفسه.. ألا يجمع بين طعامين في وقت واحد سوى الملح والزيت.. ولا يأكل لحماً إلا مرة كل شهر..فخرجت عائشة وحفصة وأخبرتا الصحابة بما حدث.. وظل عمر على ذلك حتى لقي ربه شهيداً سعيداً. ألا تشعر حياة عمر جميع الفرقاء بالخزى والعار, وتمنع من يتمسح منهم فى الدين وربما الحق للوصول إلى الدنيا التى عرف قدرها عمر فطلقها ثلاثا بعد أن حكمها من أقصاها إلى أقصاها.. لا أظن وإلا لانتهت المهزلة اليومية التى نعيشها.