العلاقة بين الأخلاق والسياسة تعود إلى بدايات نشوء الطبقات وصراعها الذي أنتج درجات التطور الاقتصادي الاجتماعي، وبلور المجتمعات في ارتقاء نسيجها وفق ثنائية البناء التحتي والبناء الفوقي والعلاقة الجدلية بينهما. وهذا الجدل تطور بدوره بدءاً من العفوية واستحقاقات الضرورة في ثنايا سعي البشر للتكيف مع واقعهم وتغييره، مروراً بمستويات الوعي المتصاعد كنتيجة للعلاقة بين الحاجة والواقع، وصولاً إلى الشكل الحديث للسياسة بوصفها فن إدارة الصراع بكل أشكاله، الطبقية والوطنية والقومية. من يعتقد أن قضايا كبرى وأحداثاً شائكة كالتي تعيشها شعوبنا العربية غير جديرة بالاختلاف، فإنه بالضرورة لا يفهم معنى الاختلاف، ويفترض أن العقول يتم إنتاجها في قوالب وهي بالتالي غير مؤهلة سوى لإنتاج قوالب متشابهة من المواقف والمعالجات . هذا الاعتقاد يستتبع، بالضرورة إحساس صاحبه بضرورة أن يفكر الآخرون مثله، أو أنهم ليسوا بحاجة للتفكير وما عليهم سوى تبني مواقفه كما هي من دون تفكير وبلا حاجة حتى لوضع فرضيات تتعلّق بخلفية هذه المواقف، وإن كانت مبدئية أو نابعة من دوافع مصلحية، أو لارتباطات لا علاقة لها بفحوى القضايا، بمعنى أنها ساقطة عليه من هنا وهناك ضمن منطق الجوقة التي تفكر في ما بعد الحفل أكثر مما تفكّر فيه . هذا النوع من أدعياء السياسة والثقافة والإعلام والدين، لا يفكّرون في إفادة القضايا الوطنية بقدر ما يفكّرون في الاستفادة منها، على قاعدة مصائب قوم عند قوم فوائد . فهم يعتاشون على معاناة الناس، ويرتزقون من الدم . هؤلاء، بقدر ما يتظاهرون بمحاربة الإرهاب، يمارسون الإرهاب الفكري ضد المختلفين معهم في الرأي، فمن لا يوافقهم في حفلة الردح التي يسمونها نقاشاً يشهرون في وجهه شتى سيوف الاتهامات والأوصاف، وابسطها اللاأخلاقية . منطقهم يتطابق تماماً مع موقف جورج بوش: إن لم تكن معي فأنت ضدي، ولأن سلاحهم السياسي غير قاطع، يشهرون في وجه الضد سيف الأخلاقية . في جدلية السياسة والأخلاق، لا بد من مراجعة أوراق التاريخ لندرك أن السياسة لا تنفصل عن الممارسة النضالية، وإذا لم تقترن المبادئ السياسية بالنضال لأجلها، لن تكون سوى ثرثرة فارغة، أو شهادة زور للبيع، وإن لم تكن هذا أو ذاك، فهي ترف ولهو . وارتباطا بهذه الجدلية تظهر علاقة المثقف بالسياسة، إذ إن الثقافة ليست من أجل الثقافة كما يستسهل كثيرون . إذا لم يكن المثقف عضوياً، بمعنى أن يكون فاعلاً ومتفاعلاً مع الناس الذين يتحدث أو يكتب لهم وعنهم، فإنه يكون متعاطياً للكلام . فالثقافة ليست مجرد نقد لرواية أو ديوان شعر أو ترديد أسماء أدباء في الشرق والغرب، ورثاء ميتهم وتسلّق أكتاف كتاباتهم سعياً للشهرة . المصير العربي بات على المحك، فالعدو الصهيوني لم يعد محتلاً للأرض فحسب، بل نجح في التسلل إلى كثير من العقول ووسائل الإعلام، وقد نجح في تفعيل الفتنة عبر أدواته المباشرة وغير المباشرة، ووجد من بيننا من يشيطنون فكرة المقاومة وثقافة المحافظة على الجذور الصراعية في التعاطي مع الصهاينة وحلفائهم . التاريخ العربي يكتب الآن بأصابع أجنبية، فإما أن تنبت هذه الأصابع “سايكس بيكو جديدة”، أو تتكسر أمام جدار العروبة والحس القومي الحي، وفي هذا الحس تكمن الأخلاقية ذاتها . نقلا عن صحيفة الخليج