بعد مناورات مثيرة للشفقة، أخرجت جماعة "الإخوان" مشروعها الأساسي لاختراق القضاء المصري والعدوان على استقلاله. لم يعد الأمر- وفقاً لمشروع الإخوان - قاصراً على تخفيض سن الإحالة للمعاش بما يعني التخلص من ربع القضاة في مصر بمن فيهم أعضاء المحكمة الدستورية العليا جميعاً ما عداً قاض واحد. ولم يعد الهدف أيضاً قاصراً على تمهيد الطريق لتعيين الآلاف من أنصار الجماعة بدلاً من القضاة الذين سيتم التخلص منهم الآن أصبح واضحاً أن الرعب من الانتخابات المقبلة عامل أساسي في معركة القضاء، وأن ضمان ولاء القضاة الذين سيشرفون عليها أو خوفهم من أن يطولهم سلاح "التطهير" الذي تلوّح به الجماعة هو أمر مهم وضروري لحكم يعرف أن التأييد له قد تآكل،. وأن أي انتخابات نزيهة لن يربحها. ولأن الإجراءات الاقتصادية التي يطلبها صندوق النقد سوف تثقل كاهل الفقراء والطبقة المتوسطة، ولذلك يريد النظام أن يضمن إجراء الانتخابات بسرعة، وأن يضمن نتيجتها بأي شكل، وبعدها تأتي الإجراءات الاقتصادية المطلوبة. ولهذا جاء مشروع القانون الإخواني ليرغم القضاة على الإشراف على الانتخابات، وإلا أحيلوا للتأديب وتعرضوا لخطر فقدان وظائفهم!! أيضاً.. يبدو الحكم وكأنه يخشى من العدالة ويصر على مخالفة القانون، وهكذا يأتي مشروع القانون الإخواني ليحصن الإعلان الاستبدادي الذي أصدره الرئيس المصري في نوفمبر الماضي لينقذ مجلس الشوري ولجنة الدستور من الحل الذي كان منتظراً بحكم القضاء. ومرة أخرى يريد "الإخوان" - وفقاً لمشروع القانون الجديد - منع القضاء من النظر في أي قضايا تتعلق بهذا الإعلان الاستبدادي وآثاره بما فيها تعيين النائب العام الذي حكم القضاء ببطلان وجوده في منصبه، والذي يتحكم في التحقيقات حول أحداث "الاتحادية"، ومجزرة بورسعيد واختطاف وقتل شباب الثورة، واغتصاب النساء لمنعهم من المشاركة في مظاهرات الاحتجاج، وغيرها من الجرائم التي وقعت في ظل حكم "الإخوان". المطلوب هو السيطرة على القضاء، والمطلوب أيضاً ضمان إجراء الانتخابات التشريعية وضمان نتائجها بأي طريقة كانت. ولعل هذا يفسر إصرار "الجماعة" على خوض المعركة ضد القضاء رغم كل المحاذير، لكن الأخطر في معركة القضاء التي تدور الآن في مصر، هو أنها معركة كاشفة لواقع الصراع السياسي الذي يقترب من ساعة الحسم، ربما بأسرع من كل التقديرات السابقة!! تكشف معركة القضاء، أن "الإخوان" يواجهون مصر كلها تقريباً. فلم يعد الصراع كما أراد "الإخوان" تصويره من قبل كصراع بين الإسلام وخصومه من العلمانيين والديمقراطيين واليساريين والقوميين. الآن لم تعد القوى المدنية الديمقراطية وحدها في المواجهة. أكبر الأحزاب و الجماعات "الإسلامية" الأخرى تقف في صف المعارضة. حزب "النور" السلفي على سبيل المثال دخل في مواجهة مكشوفة مع "الإخوان" ومد يده لجبهة "الإنقاذ" والأحزاب المدنية. وهو الآن يعارض هجمة "الإخوان" على القضاء، ويعتبرها استمراراً لنهج الهيمنة على مؤسسات الدولة. وتكشف المعركة أن آخر الأنصار يهربون من السفينة الإخوانية الغارقة. وزير العدل أحمد مكي قدم استقالته اعتراضاً على ما يجري ضد القضاء. ومستشار الرئاسة للشؤون القانونية جاد الله استقال هو الآخر كاشفاً في استقالته عن فضائح أبرزها خضوع الرئاسة لقرار مكتب الإرشاد الإخواني. وتصادف ذلك مع استقالة الفريق الاستشاري لمشروع تطوير قناة السويس برئاسة عصام شرف رئيس الوزراء الأسبق ليثير المزيد من الشبهات حول ما يجري في هذا المشروع الذي يريد "الإخوان" وحلفاؤهم في الداخل والخارج السيطرة عليه!! وتكشف المعركة أن "الإخوان" يخوضونها ومعهم حليفان: حزب الوسط والجماعة الإسلامية. وكان دور حزب الوسط هو التمهيد للأمر وطرح مشروع القانون الأول حول تخفيض سن القضاة، أما دور"الجماعة الإسلامية" فكان في الأساس هو تهديد المعارضين والدعوة لمحاصرة المحاكم ومنازل القضاة حتى يتم عزلهم بعد إقرار القانون. وقراءة المشهد تقول إن وجود حزب "الوسط" بجوار "الإخوان" لا يمثل شيئاً له قيمة كبيرة، لكن المهم حقاً هو وجود "الجماعة الإسلامية" كحليف كان موجوداً قبل ذلك لكن ضمن قوى أخرى تتجمع في إطار "الإسلام السياسي"، لكنه الآن يكتسب أهمية حين يبدو وكأنه الحليف الأساسي والوحيد لجماعة "الإخوان". "الجماعة الإسلامية" تشير إلى أن ميليشياتها كانت في الصفوف الأولى في المواجهات التي تمت في جمعة حصار دار القضاء، وتقول إنها هي التي واجهت تمرد الشرطة بالإعلان عن تكوين شرطة بديلة، وأنها هي التي تردع رجال الإعلام حين يرون تحركاتها وحين يتذكرون تاريخها!! ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الحليف الوحيد والأساسي لجماعة "الإخوان" الآن قادم من عالم الإرهاب والعنف، ومستعد للعودة إليه. فالجماعة كانت في قلب الأحداث الدامية التي شهدتها مصر مع اغتيال السادات، والمذابح التي تمت لرجال الأمن في أسيوط، وللسياح والمدنيين المصريين بعد ذلك. وإذا كان بعض أفرادها قد راجع موقفه بعد ذلك، وإذا كانوا قد دخلوا الحياة السياسية بعد ثورة يناير،. فإن "العنف" يبقى جزءاً من العقيدة، والتطرف في فهم الدين يظل هو المحرك الأساسي للجماعة. كان الكثير في الداخل والخارج يتصور أن تجربة "الإخوان" الطويلة في العمل السياسي سوف تمكنهم من الدخول إلى ساحة الديمقراطية بعقل منفتح وإدراك لأهمية المشاركة في هذه الظروف الصعبة. لكن ما حدث يعتبر انقلاباً على كل ذلك، ليسود الهوس ب"التمكين" والهيمنة المنفردة لإقامة فاشية تتاجر بالدين لتستبد بالوطن. وكان الكثيرون في الداخل والخارج يراهنون على أن دعم من يقولون إنهم يمثلون تيار الإسلام المعتدل، سوف يؤدي إلى حصار المتشددين، وتراجع اتجاهات العنف. وإضعاف عصابات الإرهاب. لكن ما يحدث في مصر يقول إن التطرف يكسب، وانه لا يوجد إرهاب معتدل، وإرهاب متشدد، لهذا تقف "الجماعتان" في جانب، وتقف مصر كلها في جانب آخر. انتظاراً لحسم الموقف، قبل أن يتحول الرهان إلى كارثة. وإلى إن يتحقق ذلك، سوف نشاهد مثل هذه المهازل المأساوية (إذا صح التعبير) حين نرى "القتلة" يتحدثون عن تطهير القضاء!! نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية