هنا الأرض الغاضبة من كل المسئولين.. المتمردة علي كل القوانين. الوديان التي لا تجرؤ الشرطة علي الدخول اليها.. والجبال الخارجة عن سيطرة الحكومة. هنا.. جنة أرض القمر.. والصندوق الأسود لجنوبسيناء. هنا وادي فيران، حيث الثراء الفاحش يعانق الفقر المدقع ومنجل الموت يحتضن روح الحياة وزهر الخشخاش ينام في أحضان زهور الياسمين. قضينا يوما كاملا في وادي فيران فاكتشفنا العجب.. الوادي صار أشبه بدولة مستقلة ذات سيادة، هو في الواقع دولة خارج مصر لا يمكن لغريب أن يدخله إلا بتأشيرة دخول، وتأشيرة دخوله هي موافقة كبير من كبراء الوادي علي الدخول. في وادي فيران وجدنا جماعات متطرفة تتدرب علي القتل بمعاونة رجال من حماس .. ووجدنا مساحات شاسعة مزروعة بالبانجو والخشخاش ووجدنا مصريين من بني وطننا معزولين عن العالم .. وجدنا فقرا لا يحتمل وبؤسا أشد قسوة من الموت وظلما أكثر اتساعا من المحيط الهادي، ولم نجد أثرا لدولة مصر ولا لمحمد مرسي - رئيس الدولة - ولا حكومة هشام قنديل. علي بعد 90 كيلو مترا شرق مدينة أبورديس و60 كيلو مترا شمال غرب سانت كاترين قع وادي فيران. يحتضن الوادي 47 تجمعا رئيسيا و22 تجمعا فرعيا، ويزيد عدد سكانه علي عشرة آلاف نسمة ينتمون لقبائل القرارشة والصوالحة والمزينة والجبالية وغيرها. وفي الوادي عشرات المواقع الأثرية في مقدمتها دير البنات الذي توجد بداخله كنيسة النبي موسي وكنيسة الأنبا ديميانوس وعلي مسافة كيلو متر واحد من الوادي يقع جبل المناجاة الذي كلم الله فيه موسي تكليما وهناك أيضا منطقة البريجة وآثار نبطية التي لا تبتعد عن وادي فيران سوي 3 كيلو مترات، وجبل الطاحونة الذي توجد به كنيسة النبي إليا وكذلك سلسلة بجبال سرابيل بمنطقة «سيل آجلة»، بالإضافة للآثار الرومانية بمنطقة دير المحرض ومنطقة آثار النواويس بوادي صواوين. وهذه الأماكن جميعا تضفي علي المكان قدسية وبهاء.. فإذا ما تجاوزت تلك القدسية تصطدم بواقع سكان الوادي المؤلم. قضينا يوما كاملا مع أهل الوادي فاستقبلتنا الأحزان.. فالوادي منعزل تماما عن الدنيا، والسيول دمرت كل شيء، الطرق والمنازل وشبكات المياه والتليفونات، وبمجرد وضع قدمك داخل الوادي يستوقك شموخ جبالها الغنية بكل الثروات المعدنية من ذهب ومنجنيز ونحاس ومن يري هذا يتوقع لأول وهلة أن يكون سكان المكان من أغني سكان المحافظة لكنك ستفاجأ بالعكس تماما فهم أفقر سكان مصر، بيوتهم كلها من الصفيح والخيش ومسقوفة بجريد النخيل ومياه الشرب لا تكفيهم، والمياه والكهرباء دائما مقطوعة عن الوادي خاصة أنه مع كل سيل تجرف المياه شبكات الكهرباء فيعيشون بالأسابيع في ظلام دامس، لا يرون النور إلا مع بزوغ الشمس نهارا أو اكتمال القمر ليلا. مدارسهم بلا مدرسين، والوحدة الصحية الوحيدة يوجد بها طبيب واحد وعلي الورق فقط! باختصار الحياة قاسية وقسوتها انعكست علي ملامح سكان الوادي الذين يشعرون بالظلم والاضطهاد، وهو الشعور الذي جعل الكثيرين هناك غاضبين دائما لكنهم جميعا أيضا علي استعداد أن يعطوا عمرهم لمن يساندهم في الحصول علي حقهم ويفتكوا بمن يخدعهم أو يخون عهدهم. تجولنا في الوادي وصعدنا جباله ودخلنا الي الكهوف الموجودة بالجبال وسمعنا من سكان الوادي كلمات كالقنابل.. ومن أخطر ما قالوه تأكيدات شهود عيان من وادي فيران بأنه في الفترة من 3 فبراير الي17 فبراير الماضي شهدت دخول 12 فردا من الجهاديين بشمال سيناء الي وادي فيران، حيث تم تدريبهم علي استخدام السلاح علي أيدي أفراد من فلسطين ينتمون لحماس، وأكد الشهود أن تلك التدريبات تمت داخل جبال وادي فيران بالاتفاق مع أحد الخارجين علي القانون الذي يسيطر علي جزء كبير من جبال الوادي وحصل نظير ذلك علي مبلغ مالي كبير. وقال شهود عيان إن الجهاديين تسللوا الي وادي فيران عبر مدقات مدينة رأس سدر التي تربط بين شمال سيناءوجنوبها وأضافوا بعد انتهاء التدريبات عقد الجهاديون اجتماعا يوم الجمعة 22 فبراير الماضي بمدينة رأس سدر حضره عدد كبير من السلفيين الجهاديين الذين تسللوا من شمال سيناء. وحذر كثيرون من أبناء وادي فيران من محاولة البعض لاستغلال أراضي جنوبسيناء لتدريب جهاديين في جبال الجنوب بعيدا عن الأنظار في شمال سيناء خاصة أن قبضة القوات المسلحة في الشمال تحول دون تنفيذ مخططاتها. وأكد أبناء وادي فيران وجود جماعات في سيناء تسعي لإقامة إمارة في سيناء منفصلة عن مصر وقالوا إن جنوبسيناء يمثل عقبة في تنفيذ هذا المخطط لأن الجنوب له طبيعة خاصة لأنه يخضع لسيطرة عدد من القبائل المنتشرة في كل مكان وهؤلاء لا يسمحون بدخول غريب عليهم، ومن المستحيل أن يخضعوا لرئاسة أمير مهما بلغت سطوته، ومن الصعب استمالتهم باللعب علي وتر الدين، وبهذا فإن الأغراب الذين يتسللون الي وادي فيران يحاولون استمالة بدو الجنوب من خلال إغداق المال علي المتعاونين معهم. وكشف أبناء وادي فيران أن أغلب الأموال التي تستخدم في تسليح الجهاديين في سيناء مصدرها زراعة المخدرات بوادي فيران! ولم ينكر أحد، ممن تحدثنا معهم، وجود زراعات للمخدرات بوادي فيران وقالوا: معظم شباب الوادي عاطلون ويعانون من الفقر ولهذا اضطروا للعمل بالأجرة في زراعة البانجو والخشاش حتي وصل عدد العاملين في زراعات المخدرات في وادي فيران حوالي 2000 شاب، و80٪ من تلك الزراعات بانجو والباقي خشخاش ومعظم هذه الزراعات تعتمد علي مياه الأمطار والسيول في الأساس، وفي شهري ابريل ومايو القادمين تجري عمليات التمشيط لنبات الخشخاش والتي يشارك فيها شباب الوادي العاطل. وقال أحد هؤلاء الشباب ل«الوفد»: أنا بين نارين فإما أموت جوعا أو أتحول الي لص وقاطع طريق أو أعمل في زراعة المخدرات، واخترت الأخيرة لأنها الأقل ضررا ولو وفرت الحكومة لشباب الوادي حياة كريمة سنحرق هذه الزراعات بأيدينا لأننا لا نحصل منها إلا علي الفتات. ملوك الوادي والاستماع الي أهالي وادي فيران يكشف مفاجآت خطيرة أخري منها الجبال في جنوبالوادي يسيطر عليها أشخاص يشكلون عصابات مسلحة أعضاؤها من الفقراء وعدد منهم من الصعايدة وجميعهم يتقاضون مرتبا شهريا كبيرا وأخطر هؤلاء وأقواهم، والذي ذاعت شهرته في جنوبسيناء كلها شاب اسمه «علي الجرايشي» عمره 23 عاما وكانت بدايته العمل في زراعة المخدرات قبل الثورة، وكان كبش فداء لأحد كبار التجار وصدر ضده حكم بالسجن قبل الثورة ويوم 30 يناير 2011 بعد هروب المساجين فوجئ الأهالي بوجود علي بمدينة أبورديس، وفي هذا التوقيت تم تكوين اللجان الشعبية في كل مكان بالجنوب وعمل «علي» في هذه اللجان واستمر يعمل باللجان الشعبية لمدة عام كامل. وعندما غضب شباب مدينة أبورديس وقطعوا الطريق مطالبين بالتعيين انضم اليهم عدد كبير من الشباب يطالبون بإسقاط الأحكام الغيابية عنهم، ولم تنته هذه الموجة من الغضب إلا بعد تدخل «علي» وإطلاقه عدة أعيرة نارية في الهواء، ومن يومها وبالاتفاق مع الشرطة عمل «علي» علي تأمين المنشآت السياحية في شرم الشيخ مقابل مبلغ مالي كبير وكوّن مجموعة كبيرة من الشباب تحت إمرته براتب شهري كبير. وبعد عودة الشرطة امتنع أصحاب المنشآت السياحية عن دفع الإتاوة فاتجه «علي» لفرضها عليهم بالقوة وتجاوز ذلك واتجه للسطو علي السيارات والمحلات حتي أصبح «علي الجرايشي» هو أخطر شاب في جنوبسيناء وكوّن عصابة له تتجاوز 100 فرد وبسط نفوذه علي المنطقة وتمركز في وادي فيران وكوّن لنفسه امبراطورية خاصة بالوادي أطلق عليها اسم «قلعة القرد»، وبدأت الشرطة تطارده قبل شهور وعقدوا النية علي التخلص منه وتصفيته نهائيا وتم عمل كمين له مع 8 من أنصاره، بالإضافة الي عمه وتبادل الطرفان إطلاق النار في الطور وأصيب «علي» في قدمه اليمني ومات عمه، ولكن «علي» تمكن من الهرب. وبعد مقتل شابين من جنوبسيناء علي يد أحد ضباط الشرطة في شرم الشيخ في سبتمبر الماضي وتلا ذلك الاعتداء علي حكمدار محافظة جنوبسيناء والقوة المرافقة له بالوادي، فتم الاتفاق مع «علي» بالتنسيق مع كبار المشايخ علي هروبه خارج البلاد وبالتحديد الي الأردن لكنه رفض خوفا من الغدر به! وفضل البقاء في وادي فيران في قلعة القرد وسط أنصاره وتعهد بعدم إثارة المشاكل. وبعد اختفاء نجم علي ظهر علي الساحة «عيد» و«فريج» و«الدعس» كملوك لجبال فيران، وبالتأكيد ليس كل سكان الوادي خارجين علي القانون أو يزرعون المخدرات فالغالبية العظمي لسكان الوادي أناس طيبون يريدون حياة كريمة ويحلمون بالاستقرار ويرفضون زراعة أراضيهم بالمواد المخدرة ويؤكدون أن أراضي الوادي لوتم استغلالها الاستغلال الصحيح وتمت زراعتها بالنباتات الطبية والورد سيكون ربحهم أكثر بكثير من زراعة البانجو والأفيون. وفي مزرعته الكعروفة باسم واحة نخيل فيران التقيت الشيخ حميد حسين سالم الذي أكد أن الوادي به أفضل أنواع النخيل علي مستوي العالم، لأن تربة الوادي هي الأفضل لزراعة النخيل وقال: أعمل في الزراعة منذ كنت صغيرا وأنا أول من زرع الكرمانية وهي نوع من أنواع القمح والتي عثرت علي بذورها في منطقة آثار المحرض في علبة مغلقة. وأضاف: أرض الوادي كان يطلق عليها حديقة جنوبسيناء، فكان يزرع بها كل أنواع الفاكهة منها المشمش والخوخ والكنتالوب، بالإضافة الي مزارع الزيتون، وكانت تأتي علينا الأفواج السياحية وكنا نستقبلهم ونقيم لهم حفلات العشاء البدوية وننظم لهم رحلات السفاري في الجبال والوديان. لكن الحال تبدل والإهمال الحكومي ضرب الوادي ومخرات السيول انسدت بسبب الإهمال والسيول اقتلعت النخيل من جذوره ومياه الآبار جفت حتي إننا ننتظر الدمار مع كل سيل ينزل علي الوادي ولا نجد أي مساعدة من الحكومة ولا حتي السؤال وكأننا لا نوجد علي الحياة ولا يعلم بنا أحد، برغم أننا دافعنا عن هذه الأرض وحميناها من المحتل الصهيوني، وتاريخ أهل الوادي يعرفه الجميع والآن لا نملك إلا الدعاء علي من ظلمنا. وأضاف: تعرضنا للظلم والتهميش طوال السنوات الماضية من كل الحكومات المتعاقبة علينا.. ظلمتنا حكومات مصر أكثر من المحتل الصهيوني، وعندما قامت ثورة 25 يناير فرحنا وقلنا إن حقنا سيعود الينا وبالفعل زارنا محافظ جنوبسيناء اللواء خالد فودة ووعد بحفر الآبار وإقامة السدود في الوديان للاستفادة من مياه الأمطار في الزراعة وتنظيف مخرات السيول لكن من يومها ذهب المحافظ ولم يعد ثانية، ولم يتحقق شيء مما وعدنا به، بل صرنا في حال أكثر سوءا وحاصرتنا السيول كما حاصرتنا الحكومة، والسياحة اختفت تماما. وواصل: أكبر دليل علي التهميش أننا قضينا أسبوعا كاملا معزولين عن الدنيا بلا مياه أو كهرباء والطرق مقطوعة ولا يعلم عنا أحد وكأننا غير موجودين في الحياة أصلا. وحول الخروج بالوادي وأهله من العزلة يقول يوسف القرشي وهو أحد شباب الوادي: إننا نطالب الحكومة علي وجه السرعة بإقامة السدود وتنظيف المخرات حتي يعود الوادي كسابق عهده جنة سيناء، وكذلك نطالب بعودة السياحة الي الوادي وأهل وشباب وادي فيران كفيلون بحماية السياحة أكثر من الشرطة نفسها فلا ذنب لأهل الوادي بصراع بين الشرطة وبعض الخارجين نتيجة ثأر بينهم، ومن الممكن أن يتم الاتفاق علي تأمين طريق وادي فيران الدولي الذي يربط الوادي بسانت كاترين بواسطة شباب من القبائل الموجودة بالوادي علي أن يتم تعيينهم في المحافظة بالتنسيق مع جهاز الشرطة علي هذا العمل. فعندما يكون شباب القبائل هم المسئولين عن التأمين فلن يجرؤ أحد أيا كان محاولة التعدي علي أي حافلة تمر بالوادي، وأضاف: نطالب وزارة السياحة بأن يكون لشباب بدو سيناء الأولوية في العمل في شركات السياحة سواء كسائقين أو كمرشدين لرحلات السفاري مما يجعل بدو جنوبسيناء طرفا أصيلا في منظومة السياحة بالمحافظة ويكون البدو هم أكثر المستفيدين من السياحة، وبهذا يكونون أكثر حرصا علي الأمن وسلامة المنطقة وهذا هو الحل السياسي السليم إذا كنا نريد حقا تنمية سياحية واستقرارا أمنيا بالوادي. فالمجرمون الحقيقيون ليسوا سكان الوادي لكنها تلك الحكومات التي همشتنا واعتبرت سكان الوادي لا يستحقون الرعاية الصحية ولا التعليم ولا الكهرباء ولا المياه فأكبر حماية للشباب من الانحراف هو التعليم وخلق فرص عمل لهم. ويؤكد محمد عيد أحد عواقل قبيلة القرارشية انتشار زراعات المواد المخدرة بالوادي ويقول: إن زراعة المخدرات منتشرة في جنوبسيناء وبعض ضباط الشرطة الفاسدين في السابق كانوا يرعون ذلك، وبالتأكيد أن أي فرد يقوم بهذه الزراعة يعلم مدي جرمها ويتمني الامتناع عنها لكن الجوع يضطر الكثيرين منهم لارتكاب هذا الجرم، وإذا أردنا إنهاء هذه الزراعات فعلينا بتنمية حقيقية وإيجاد فرص عمل للشباب. علي سبيل المثال يوجد في مدينة أبورديس وأبوزنيمة شركات للبترول والمنجنيز ولو طبق قانون المحافظة بوجوب تعيين 30٪ علي الأقل من أبناء سيناء، بالإضافة لتسهيل إقامة بعض المصانع الأخري لن تجد عاطلا واحدا بالوادي ولن يلجأ أحد لهذه الزراعات. وعن حالة التوتر الموجودة بين الشرطة وبعض الخارجين علي القانون بالوادي. يؤكد محمد عيد أن العلاقة بينهم ثأرية، فهناك ثلاثة أحداث أدت الي وفاة بعض أبناء البدو بدون وجه حق هي ما أحدثت هذا التوتر، أولها مقتل شابين من الجرايشة علي يد ضابط شرطة في شرم الشيخ ولم يحاكم الي الآن، والثانية رجل مات هو وابنه في أبورديس بسبب كمين بأحد الجبال في منتصف الليل، حيث فوجئ الرجل بالكمين فوقف علي بعد مسافة منه ليتأكد أنه كمين شرطة فعلي الفور أطلقت عليه شرطة الكمين الرصاص هو وولده، والثالثة مقتل رجل في إحدي محطات تموين السيارات حيث حدثت بينه وبين أحد الضباط شجار لشك الضابط فيه وحاول الرجل الفرار بسيارته وأطلق رجل الشرطة الرصاص عليه، فقتله وبتفتيش السيارة لم يجدوا بها شيئا!!