العظماء.. الحكماء.. المشاهير، تؤخذ العبرة والحكمة والفائدة من نتاج ما قالوه، نفعوا وانتفعوا بما قالوا، لذلك فهم لا يرحلون، لأنهم يتركون أثرًا خالدًا فى وطنهم وذاكرة شعبهم، وتتناقل الأجيال سيرتهم، فهى خلاصة ما مرّوا به، فكتبوه ودونوه، وسمع عنهم، فأخذوه، لتصلنا كلمتهم منقحة لا تشوبها شائبة، لذلك يبقى ذكرهم خالدًا. مكانة البخارى فى تاريخ الإسلام لا تكاد تدانيها مكانة عالم آخر من علماء الدين، وكانت شهرته فى ملكة الحفظ لا تدانيها فى ذاك الزمان شهرة لأحد. وفى رواية للعسقلانى فى كتابه فتح الباري قال البخارى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتى ألف حديث غير صحيح. وقد رزق الله تعالى أولئك الحفاظ نعمة حفظ الوقت وإدارته، وقد كانوا يعطون كل شيء حقه ومستحقه، ومن رتب وقته وأدار ساعات يومه باقتدار حاز ما حازه أولئك الحفَّاظ، فحينما «سئل البخارى»- رحمه الله- عن دواء للحفظ «فأجاب البخارى»: «لا أعلَمُ دواءً لِلحِفظِ أنفَعَ مِن نَهْمَة الرجُلِ، ومُداومةِ النظرِ، وكثرةِ المُراجعةِ».، لذلك أجمعوا أنه ليس شىء أبلغ فى الحفظ إلا كثرة النظر، كما روى عن العلَّامةِ تاجِ الدِّينِ الفزارى أنه كان يُديمُ النظرَ فى (شرح التنبيه) حتى حَفِظه حِفظًا مُتقنًا، فكان رُبَّما أحالَ عليه مِن حِفظِه بالجُزء والورقةِ، وكان ابنُ تَيميةَ يُديمُ النظرَ فى (المحلى) لابنِ حَزمٍ، حتى قال الصفدى فى (تاريخه): (كان يحفظُه عن ظَهرِ قَلبٍ، فلو شاء لَأملاه مِن حِفظِه بما فيه مِن الشَّناعةِ والثَّلْبِ). وحكَوْا عن ابنِ رسلانَ الخوارزمى أنه قرأ (شرح المهذب) لِأبى بكرٍ الصيدلانى و(تفسير الثعلبى)، حتى حفِظَ جُملةَ ما فيهما، فكان إذا سُئلَ يجيبُ على البديهةِ منهما، ويَذكُر مِن حِفظِه الخِلافَ والمَذاهبَ والأقوالَ والأدلة مِن غَيرِ خَطأ، لذلك عصير الكلام أن من أراد حفظًا فليبع ما حكاه العلامة مختار بن نونا، حينما خرج من درس يبكى سوء حفظه، فجلس بجوار شجرة فرأى نملة تحمل زادها، وتريد الصعود وكلما صعدت وقعت، حتى صعدت فى المرة السابعة ففهم أن تكرار المحاولة يفتح المقفل والمغلق من الفَهْم والحِفظِ، ومِن هنا قال العالم أديسون مقولته الشهيرة- وهو الذى ابتكر المِصباحَ بعدَ ألف تجربةٍ-: (العبقريةُ تَكرارُ المُحاولةِ). وقالوا عن حفظ القرآن يكون أيضاً بالتعوُّدِ عليه بكثرةِ ممارسته وعدم قطعِه حتى يسهُلَ عليه.