التوجيه التاريخى الذى أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسى لوزير العدل عن تعيين المرأة فى مجلس الدولة والنيابة العامة من أكثر القرارات التى لاقت تأثيرًا كبيرًا فى المجتمع على مدار حياة المرأة المصرية خلال قرن من الزمان، ذلك أن مبدأ المساواة بين المرأة والرجل وحقها فى تولي جميع الوظائف العامة الإدارية والسياسية والقضائية بات من الحقوق الدستورية، إلا أنه يبقى دومًا حماية القضاء المصرى لكل هذه الحقوق من دون نقصان هو الحُكم العدل، وعلى قمتها حقها فى التعيين فى الوظائف العامة. من درر الأحكام الصادرة عن القضاء المصري لصالح المرأة الحكم النهائي البات– غير منشور– أصدره القاضي المصري الجليل المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي، نائب رئيس مجلس الدولة، إبان رئاسته محكمة القضاء الإدارى بكفر الشيخ، عقب صدور دستور 2014، حيث قضت المحكمة بإلغاء حكم المحكمة الإدارية بطنطا برفض دعوى إحدى الفتيات، والقضاء مجددًا بإلغاء قرار محافظ كفر الشيخ فيما تضمنه من تخطي الفتاة، ابنة الفلاح، في شَغل وظيفة بإحدى الوحدات التابعة للمحافظة، لتفوقها فى التقدير العام "جيد جدًا" فى شهادة بكالوريوس التجارة، على من تم تعيين بدلًا منها شاب ابن مسئول حاصل على تقدير "مقبول"، وما يترتب على ذلك من آثار أخصها إلزام المحافظ بتعيينها فى تلك الوظيفة. القصة تبدأ بإحدى الفتيات المتفوقات بمحافظة كفر الشيخ لجأت إلى المحكمة الإدارية بطنطا- التى كانت تختص بقضايا طنطاوكفر الشيخ فى ذلك الوقت- طالبة إلغاء قرار محافظ كفر الشيخ بعد صدور دستور 2014 بتعيين شاب ابن مسئول في إحدى الوظائف بالوحدات التابعة للمحافظة حاصل على تقدير "مقبول"، بينما هى تتفوق عليه فى التقدير العام "جيد جدًا"، إلا أن المحكمة الإدارية بطنطا رفضت دعواها على سند من أن الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية فى التعيين بالوظائف مما أصابها بالحزن لكن الأمل لديها كان كبيرًا فى الطعن على هذا الحكم. ولم تيأس الفتاة وأقامت طعنًا على هذا الحكم أمام محكمة القضاء الإدارى بكفر الشيخ، بصفتها محكمة طعن، وطلبت من القاضي الإنسان الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي، نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة فى ذلك الوقت، أن يسمعها فانهمرت فى البكاء، وهدأ القاضي الجليل روعها حتى تتحدث، فقالت إنها كانت تواصل الليل بالنهار لتتفوق فى دراستها، وتثبت شخصيتها جنبًا إلى جنب مع الرجل، وتساعد نفسها وأسرتها فى دخلها المحدود، خصوصًا أن والدها فلاح رباها على العلم والأخلاق لتخدم وطنها، فقال لها القاضي بصوت هادئ الحكم آخر الجلسة، ثم نطق القاضي بالحكم بإلغاء الحكم المطعون فيه الصادر من المحكمة الإدارية بطنطا، والقضاء مجددًا بأحقية الطاعنة فى الوظيفة لتفوقها على ابن المسئول، فاستقبلت الفتاة الحكم بسعادة بالغة واحتضنت والدتها ووالدها الفلاح وقبلت يديهما فى موقف مؤثر، واستبدلت فى لحظات دموع الحزن بدموع الفرحة بقرار القاضي العادل. قالت المحكمة إن المشرع الدستوري جعل الوظائف العامة وفقًا للمادة (14) من الدستور حقًا للمواطنين على أساس الكفاءة من دون محاباة أو وساطة، وتكليف القائمين بها لخدمة الشعب، وكفل كذلك حقوقهم وحمايتهم وقيامهم بآداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب، وإلزام الدولة طبقًا للمادة (11) منه أن تكفل المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وضمان تمثيلها تمثيلًا مناسبًا فى المجالس النيابية وكفالة حقها فى تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا فى الدولة والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية من دون تمييز ضدها، ومبدأ المساواة الدستوري هو نص قائم بالتطبيق بذاته من دون تدخل من المُشرع. وأضافت المحكمة أنه إذا كان المُشرع الدستوري ألزم الدولة باتخاذ التدابير الكفيلة لضمان تمثيل المرأة تمثيلًا مناسبًا في المجالس النيابية، فإن الأولى والأجدر أن تقوم مؤسسات الدولة بكفالة حقها فى تولي الوظائف العامة من دون تمييز ضدها يعود بها إلى عصور التخلف والجهل، ومن ثم فإن رجل الإدارة الذى يسلب المرأة حقها فى المساواة هو سجين للكراهية وضيق الأفق، وبهذه المثابة فإن التمييز الإيجابي للرجال على حساب المرأة في مجال الوظيفة العامة مخالفة صريحة لأحكام الدستور، فضلًا عن أن المساواة مبدأ إنسانى تشاركي عالمي "فإذا جُردت الأمم من النساء العاملات والمربيات الفضليات فسوف تنهزم هذه الأمم وتؤول إلى عصور الانكسار". واختتمت المحكمة، أن محافظة كفر الشيخ أعلنت في الصحف القومية عن شغل وظائف عدة، وتقدمت ابنة الفلاح بأوراقها، إلا أنها فوجئت بقرار المحافظ بتعيين من هو أقل منها في التقدير العام، وأن معايير التعيين الموضوعية تكون طبقًا للمؤهل الأعلى، وعند التساوي فى المؤهل تكون الأولوية للأعلى فى مرتبة الحصول على الشهادة الدراسية، فالأقدم تخرجًا، فالأكبر سنًا، وهي المتفوقة على من تم تعيينه في التقدير العام للدرجة الجامعية الحاصلة عليها بتقدير "جيد جدًا"، بينما من تم تعيينه حاصل على "مقبول". واعتبرت دوائر مهتمة بشئون قضايا المرأة أن الحكم الذى أصدره القاضي الجليل المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي لصالح المرأة– ضمن سلسلة من الأحكام التى أصدرها لصالح المرأة- يعتبر من أول وأهم الأحكام القضائية التي صدرت عقب صدور دستور 2014 بأسابيع عدة فى أول تطبيق للدستور حينها، يضع اللبنات الأولى بفهم عميق لقواعد المساواة بين الرجل والمرأة ويؤمن برسالتها وتضحيتها ودورها الحقيقي فى التغيير الإيجابي الذي تسعى له المجتمعات في سبيل رفعتها وانتصارها أمام التحديات كافة، وأن المعاني التي احتواها هذا الحكم جاءت متسقة مع مبدأ إنساني تتشارك فيه الأمم على قمتها مصر الحضارة.