ت رميح حملت صور مظاهرات ومعارك الثورة المصرية رسالة ضمنية بمصداقية الإعلام الناقل لها، وقابلها المتلقي المصري بحالة موازية من الاندماج والتوحد مع الحدث والوقائع حتى صار الإعلام عنوانا للحقيقة. وهو ما جاء بديلا لحالة التلقي السلبي التي تعامل بها الإنسان المصري مع الإعلام الباهت الساكت الذي ساد عبر سنوات الفساد والديكتاتورية بما جعل الناس تقول عن ما ينشر "دا كلام جرائد "،أي كلام لا صدقية له.غير أن هذا الإعلام تحول من بعد إلى وضعية وحالة مناقضة يصعب حتى على الخبير الإعلامي أن يصفها بدقة. شهد ويشهد الإعلام المصري نمطا من الاختلاف والتناقض والاقتتال اللفظي حول رواية الوقائع والأحداث التي تلت أيام الثورة، وليس فقط جول دلالاتها أو زوايا النظر لها كل واقعة أو حدث صارت له روايات متناقضة حتى صار المشاهد يجد نفسه في موقع التشويش أكثر كلما تابع الإعلام أكثر.فهو حين يتنقل بين الفضائيات أو الصحف يجد رواية مختلفة لما سمعه عن نفس الحادث في الفضائية أو الصحيفة التي تركها منذ دقائق.أحد الناس قال لي "أي حدث تتابعه فأنت تعرف مسبقا أن قناة...أو صحيفة...،ستحمله للإخوان أو الإسلاميين " وإذا ذهبت لأخرى.".ستجد أن البلطجة هي المتهمة في كل حدث " وهكذا نحن لا نعرف الفاعل أبدا، وكلما طالعنا الإعلام أكثر أصابنا التشوش أكثر. والإعلام المصري صار يشهد حروبا فكرية إيديولوجية، حتى صارت المحطات الفضائية والصحف مصنفة تصنيفا فكريا خالصا.كان المواطن المصري يصنف الصحف والفضائيات قبل الثورة في صنفين، فتلك ناطقة باسم الحكم تبرر أفعاله وتمجد أقواله، على طول الخط، وتلك تعارضه وتنتقده على طول الخط.الآن يجري التصنيف على أساس أن تلك الفضائية أو الصحيفة تدافع عن الفلول أو عن الليبراليين أو عن الإسلاميين.هي حرب أفكار وليست خدمة إعلامية تحترم حق المشاهد في المعرفة، وهي حالة إعلامية ضحيتها الحقيقة، إذ يجري التشويش بأعلى قدر من الهمة والنشاط على الحقيقة،فما تقوله إحدى وسائل الإعلام عن ذات الواقعة هو باطل باطل عند الأخرى.هنا يذهب المشاهد وعقله ضحية كل هذا الشجار الحادث. أحد المشاهدين قال لي إن كثيرا مما يجري في الإعلام يؤدي إلى تشتيت العقل، وأن الرواية الرسمية للأحداث تكاد تكون غائبة، وإن اختلف الحال وظهر مسؤول يروي الواقعة يجري الهجوم على روايته فورا، مهما كان صدقها،ولذا لم تعد هناك مرجعية أبدا للوقائع، وإن هذه الحالة هي أحد أسباب نزوله بنفسه لمشاهدة ما يجري أو سؤال شهود العيان، وأنه اكتشف أن كثيرين صاروا يفعلون ما يفعل.وقال لي آخر، إن المشكلة أنه صار يتابع من دافع القلق الذي ينتابه لا من دافع الرغبة في المعرفة فقط، وأنه صار يركز على الصور والفيديوهات أكثر مما يسمع وفي بعض الأحيان يغلق الصوت ليرى فقط، ويكون صورة للحدث بنفسه! وهكذا تتحول حرية الإعلام القادمة بعد الثورة، من حرية في خدمة المشاهد والوصول إلى الحقائق وفق أدوات مهنية، إلى حرية الإعلاميين في طرح أفكارهم والتمتع بممارسة صراعاتهم الإيديولوجية والفكرية والمهنية وربما الشخصية أيضا، وكل ذلك يجري على حساب الحقيقة ودون احترام لعقل المشاهد.بعض من خبراء الإعلام يرون أنها مرحلة قد ينتج عنها دفع المشاهدين للتخلي عن منطق السلبية والجلوس في مقاعد التلقي، إلى حالة المشاركة السياسية لمعرفة وصناعة الوقائع على الأرض.لكن هناك من يرى أن بعض الإعلام المصري يفقد مصداقيته في أعين المتابعين ويمارس حرب الأفكار ضد المشاهدين،لا ضد الإعلاميين وبعضهم البعض فقط، بما يدفع الكثيرين إلى حالة العزوف عن المشاهدة أو القراءة، إلا في حالات الكوارث الطبيعية! نقلا عن صحيفة الشرق القطرية